احمد عاطف: نعيش عدة ثورات في وقت واحد
حاوره : حسن المرزوقي
أذا أردنا أن نضع أحمد عاطف ضمن خارطة السينما المصرية ومدارسها وأجيالها، اين تضع نفسك؟
أنا مثلي مثل الكثيرين من أبناء جيلي من السينمائيين بمصر والعالم العربي نحارب منذ أكثر من عشرون عاما أن يكون للسينما اللحقيقية مكانا بمجتمعاتنا وكذلك محاولة أن تحظى أعمالنا بفرص للمشاهدة في بلاد العالم المختلفة. لكنى لا أحب أن أصنف نفسي ولا أحب حتى أن يصنفنى الاخرون. لكن النقاد والمراقبون يحبون النظر لمسألة الأجيال باعتبارها امر ذو شأن. ولا أراها كذلك. فرغم أننى فى منتصف التسعينات نشرت مقالا بعنوان ( بدأنا الاشتباك) أدعو فيه لاشتباك فنى وجمالى مع جيل الواقعية الجديدة بالسينما المصرية لصنع سينما أكثر طليعية وأكثر بحثا فى أسلوبية الفن نحو اكتشاف جماليات جديدة. لكنى الان بت أؤمن أكثر بأن مشوار كل سينمائى منفرد عن أقرانه فى الجيل الواحد وفى عام صنع الفيلم وهكذا. واذا أحببت عنوانا لنفسي سأقول أننى أحب أن أسمينى ( محارب الضوء) اقتباسا من تسمية باولو كويلهو الشهيرة. كل فيلم أخوضه لابد أن يكون به تحدى فنى مختلف عما سبقه.ليس فقط فى موضوع الفيلم لكن أيضا من ناحية الحساسية السينمائية والاسلوب السينمائى وادارة الممثل. من أجمل ما يتيحه لى العمل فى السينما هو المزج بين الواقع والخيال واثارة الجدال عن موضوعات هامة. وأعتبر من مهامي نكأ الجراح والحوار حول الكثير المسكوت عنه أو المسلم به. أحيانا عندما أنظر لسجل أعمالى أرى أننى قمت العديد والعديد من الأنشطة من صناعة الأفلام للكتابة عن السينما لتنظيم المهرجانات أو حضورها بعدد ضخم، للسفر للتعلم أو لتعليم الاخرين، للحديث فى المؤتمرات لترجمة بعض الكتب. فكرة البحث الدائم والاكتشاف وحوار الثقافات احتلت الجانب الأكبر من حياتى. وربما لو عاد بى الزمن لأعطيت الوقت الأول لصنع الأعمال الفنية وقللت الأنشطة الأخرى. لكننا أبناء أقدارنا فى أغلب الخطوات.
شهدت مصر وتونس ودول الثورات العربية “انفلاتا” سينمائيا وثائقيا جمع بين الغث والسمين وبين الاشتغال على سطحية الشعار السياسي والتعمق في الشأن الإنساني، كيف تقيم هذه الظاهرة هل هي صحية أم هي مجرد تراكم كمي لا افق له مادامت الثورة لم تطل البعد الثقافي والجمالي ؟
نحن لا نعيش ثورة واحدة. بل عدة ثورات لا تنتهى.فى اعتقادى أن الانسان ابتعد كثيرا عن كينونته كانسان. دمر علاقته بالمنظومة الكونية التى حوله. دمر الطبيعة ودمر الكائنات الاخرى وبدأ رحلة طويلة لتدمير الذات.أرايت كم فصيلة حيوانية وكم نبات دمره الانسان. وجاءت الثورة التكنولوجية لتضع الانسان فى حالة مكاشفة حقيقية فانهارت معها الكثير من الأسرار وشعر الانسان بقوة السوبرمان من خلال العالم الافتراضى وزادت استعباد الانسان لذاته وزاد استعباده من أدوات العصر. والمؤكد أن روحانيته قلت أكثر فأكثر. لست مع الانزعاج مما تسميه ( الانفلات السينمائى). فلابد أن يزيد عدد الأفلام ولابد أن يصبح حق البشر صنع الأفلام بسهولة ويسر كالقدرة على الكتابة والرسم. الأزمة فى عدم وجود عدد كافى من النقاد ولا ذائقة نقدية متطورة لتلاحق هذا العدد المتنامى من طوفان الصور المتحركة. للأسف الناقد أيضا محاصر فى عالمنا العربي اما بالبحث عن موارد امنة لحياته المعيشية أو لصد العدوان عليه من فنانين يدعون الليبراية وهم أول من يضيق بالنقد. ونحن نعيش حكايات يومية لما يعانيه النقاد من ارهاب بالقول أو محاصرة فى الأرزاق أو يصل الأمر حتى باتهام الناقد بأنه مريض. وبسبب انتشار الصحافة الفنية المجاملة غالبا لا أحد يريد الناقد. لا وسيلة الاعلام ولا الفنانون ولا أحد.ومؤخرا كنا فى حوار مع كلاوس ايدر سكرتير عام الاتحاد الدولى للنقاد الذى قال بندوة عن مستقبل النقد بمهرجان القاهرة السينمائى أن هناك حالة من موت مهنة النقد بالعالم وانحسار المنابر التى تعطى مساحة للناقد. هذا الأخير الذى بات عليه أن يعبر عن نفسه فى مكانا خاص به بالفضاء الالكترونى. المشكلة أيضا بالمهرجانات أو بالفئة التى تسمى نفسها خبراء مهرجانات رغم عدم قدرتهم على الصمود فى مناقشة متعمقة عن جماليات السينما. هؤلاء من يختارون الأفلام السيئة لعرضها اما لعلاقاتهم الشخصية مع صناعها وهى علاقة قائمة اما على ( الاستلطاف) أو المصلحة المادية مع منتجيها. وكما ان لكل مجال مادى مستفيدين، فقد خلقت الكثير من المهرجانات وصناديق الدعم أطراف العملية الانتهازية: مسئولو الدعم وأعضاء لجنة القراءة الذين يختاروهم، مبرمجو المهرجان، والمستفيدون من المنتجين. وهى دائرة جهنمية لا يستطيع أحد اختراقها. ولا تسأل عن السينما وسط كل ذلك. فمستوى الافلام الكارثى أكبر رد.

فيلمك الأخير “باب شرقى” هو الذي أكد لبعضهم تهمة “إخوانيتك” .. فلو توضح لنا توجهاتك في الفيلم الذي كما علمنا يقع في سلسلة عن الثورات العربية.. هل همك الاحتفال بسقوط رؤوس الاستبداد وبالتالي تعيد خطابا سياسيا شعبويا أم ترمي إلى أبعد من ذلك؟
لم يردد ذلك البعض بل كتبت كاتبة واحدة فقط. وهى للأسف تصفى حسابات قديمة عن معارك خضتها معها ومع بعض أصدقاءها. وبالطبع فأنا أرفض هنا الاتهام السياسى أو الفكرى التى أكدته الكاتبة بكل يقين كأنها اكتشفت سر مختبئ لا يعرفه أحد. أنا سينمائى مستقل لى أفكارى التى أعبر عنها علنا و بانتظام بالكتابة والقول ، والتى تؤكد عدم انتمائى لفكر الاخوان أو سياساتهم بأى صورة. ولست بالطبع عضوا بجماعة الاخوان أو بحزب الحرية والعدالة. شكوك انتمائى لهذا الكيان هو فقط في الخيال (المريض) لكاتبته. أذ لا يحق لأى أحد أن يضعنى فى هذا التصنيف السياسى أوذاك أو ينسب انتمائى لفصيل معين نتيجة أوهام فى رأسه هو. بالاضافة الى أنه من حق أى انسان الانتماء لأى فكر سياسى بدون أن يستخدم ذلك ضده فى تحليل أفلامه طالما أمه لا يجلى هذا الفكر فى افلامه. و فى الندوة التى أعقبت عرض فيلمى “باب شرقى” بنقابة الصحفيين. صعد على المنصة أحد أعضاء اللجنة الفنية بحزب الحرية والعدالة وقال ( ان هذا هو الفن الذى نريده ونحترمه). فقلت له ان الاخوان لو كانوا يحترمون السينما فعليهم بدعم الانتاج السينمائى الجاد. وأنى لا أرى الفن بمقاييسهم وضرورة خضوعه للمقاييس الدينية بل أراه اما فنا جميلا أو فنا سيئا.
أما عن سبب توجهى لصنع سلسلة أفلام روائية طويلة عن الربيع فهو له أكثر من مغزى. لعل من أهمها هو البحث المتعمق فى أسباب قيام الثورات العربية وتشريحها وربما مقاربة أكثر عمقا لاستكشاف خارطة روح الشباب الثائر الذين هم الوقود الحقيقى لزماننا الحالى والقادم، بالاضافة لطرح الأسئلة الهامة عن المستقبل. فى فيلم باب شرقى: أخان توأمان يتقاتلان ويفتح الباب امامهما بقتل بشار، فما عساهما فاعلان ، أيكملا التقاتل أم يجدا بابا آخر للأمل. بعض المقالات التى حللت باب شرقى أيقنت ان الاشارة لهذا الباب تحوى بعض مما يهدف اليه الفيلم فى احتياجنا لباب جديد فى الشرق نعبر منه أو نلتف حوله لنعرف كيف نقبل اراء بعضنا البعض كما كان يحدث حول باب شرقى فى دمشق القديمة.
في إطار هذا التلاحم بين السياسي والوثائقي بعد الثورات العربية ما ردك على ما اتهمتك اياه بانتمائك للنظام الحالي الحاكم في مصر ؟؟ فكيف تردّ على هذه التهمة ؟
قمة الهوان ما يذكر عن علاقتى ” بالنظام الحالى “، فهو اتهام رخيص يوحى بالسيئ عن ارتباط مخرج ما بنظام حاكم. فلم أكن يوما مرتبطا بأى نظام عن قرب، لا النظام السابق بمصر الذى قامت ثورة ضده ولا الذى يحكم الان بكل ما فيه. ولا بأى نظام غير مصرى بالطبع. وانه لمن صور الانحطاط أن يساق كلام عن علاقة مخرج ( بنظام ) لأنه أخرج فيلما لا يتفق مع الفكر السياسى لأى ناقد. ان هذه هى الفاشية بعينها.ان ما كتب علي بهذا الشأن من أسوأ ما تعرضت له بحياتى وأعتبر عدوانا صريحا على وعلى حقوقى كفنان حر مستقل وكانسان قبيل كل شيئ. لقد أنتجت فيلم (باب شرقى ) من مالى الخاص رافضا أن أحصل على دعم من أى جهة أيا كانت لحساسية القضية التى أقدمها ولكى يظل الفيلم نقيا من كل اتهام بأى يكون موجها لصالح أى طرف. وليس بعد كل المشقة المالية التى تحملتها يأتى أحدهم ويلقي بكل بساطة بسطور بها اتهامات وضيعة وكأن سمعة الناس وما يناضلون من أجله لا يستحق، ويستطيع اى شخص أن يشوهنا بجرة قلم.
رأيى ببساطة أن هذة الفئة من البشر لن تطور مصر ولاستطور السينما. انها ببساطة فئة اقصائية وتحمل رهابا من أى لفظ متعلق بكلمة ( اسلام) ويصنفون الاخرين على هواهم أو حسب شكوكهم. حتما مصر وأى بلد فى حاجة لمن يتقبلون الاخر ويتحاورون بالحجة ويزنون كلامهم عن الاخرين بميزان حساس ويتعاركون فى مجال الأفكار لا فى سيرة البشر.
لقد أنفقت الجزء الأكبر من عمرى فى التعامل مع ثقافات مختلفة وفى التحاور مع أصحابها وفى السفر للدراسة لكسب العلم ثم تدريسه. وآمنت بقيمة تقبل الاخر وأفكاره وحتمية ذلك لتستمر الحياة . وسأظل على ذلك .
ثم أى نظام الذى تتكلم عن علاقتى به وانا الذى اقلت تعسفيا مؤخرا من رئاسة قسم السينما بجريدة الأهرام من رؤساء جاء بهم الاخوان المسلمون. لو كنت شخص قريب منهم بالفعل لكان اختارونى بمنصب كبير وليس فقط يبقونى فى منصبى بالأهرام..
في عملك الإعلامي كنت تشن حملات ضد أباطرة السينما في مصر ومحتكريها.. فهل مازلت على هذا النهج ؟ وهل تحررت السينما المصرية من هؤلاء بعد الثورة؟

أعجب كثيرا مممن يحلو لهم تقيييمى أو اصدار أحكاما تعسفية على مسيرتى ألا يسألوا أنفسهم كم هى الأثمان التى دفعناها للوقوف أمام أباطرة السينما بمصر سواء كانوا أباطرة الحكومة أو أباطرة السوق أو حتى الذين نصبوا أنفسهم كأصحاب العبقرية السينمائية الوحيدة. فكريا وثقافيا أنا أؤمن أن لا شيئ يتطور الا بالحوار والنقاش القوى الذى قد يصل للسخونة احيانا. وهذا ما يضمن حيوية الأمور، لكننا كنا نتعرض لشخصيات نافذة تتوهم أنها تستطيع أن تمنعك من التصرف أوالحياة. حاولى منع مقالاتى ولم يفلحوا . ثم كنت السينمائى الوحيد الذى لم يحصل على دعم السينما الذى فزت به عام 2006 ، وطبعا كنت مستبعدا من أى لجنة تحكيم أو مغنم حكومى ما. ووقف هؤلاء بالمرصاد بمعهد السينما ضد معادلة شهادة الماجستير التى حصلت عليها من جامعة جنوب كاليفورنيا..وفى الوقت الذى كنت أشارك به فى لجان تحكيم دولية أو يتم طلبى خبير فى مؤسسات مرموقة كلاتحاد الاوروبى كان يحدث بى هذا التنكيل. وللحق لم أندم يوما على معاركى. وأحسبنى أكمل هذه المعارك الان لكن ربما بتكتيك مختلف. حيث اصبحت مؤمنا بالتغيير من الداخل او بالتغيير الجزئى شيئا فشيا حتى التغيير النهائى. وربما هذا ما دعانى لقبول مهمة المدير التنفيذى لمهرجان القاهرة السينمائى الاخير مع فريق قديم كثيرا ما انتقدته. لكنى أفخر بما حققته فى عملى بهذا المهرجان من أمور كثيرة، وما حققته فى ظل فريق قديم. اولها تطوير لائحة المهرجان وعمل ورش تعليمية وبرنامج ثقافى ثرى وتكليف نقاد شباب لعمل دراسات سينمائية فى اصدارات المهرجان وتمركز العروض بالاوبرا فى تناغم تام. ووضع نسق فكرى ثورى بالدورة الاخيرة وعرض ما لا يقل عن عشر أفلام طويلة تناقش التطرف باسم الدين مثل فيلم التائب لمرزاق علواش والمغضوب عليهم لمحسن بصرى. ولابد أن أؤكد أن مشكلة السينما بمصر أننا لا نحارب فقط التيارات الخارجية التى تحارب الفن، لكن الاهم أننا مطالبون بحرب أهم داخل الوسطين الاعلامى والفنى مع الفاسدين و الجهلاء و المحتكرين و عبيد المال وهى معارك مضنية لن نتوانى عن الاستمرار فى خوضها بشرف لكن بدهاء.
إضافة إلى أن أحمد عاطف مخرج هو أيضا أكاديمي وباحث . وكنت مؤخرا في لجنة تحكيم في وغادوغو السينمائي.. أيهما يغلب عليك أثناء عملك الفني : المخرج أم المنظر ؟؟ أية معادلة ممكنة بينهما ؟؟
ان الحلم والتنظير هو الواحة الحقيقية لى كمحب للسينما. فرغم أننى كثيرا ما ناقشت مع نفسي وأصدقائى وضعى الصعب كناقد ومخرج فى ذات الوقت مما سببه لى من مشاكل، لكنه أفادنى كمحب للسينما فى ضرورة البحث العميق فى جماليات السينما . لم يفدنى ذلك فقط كسينمائى لكن كمنتج للسينما المستقلة أيضا. لولا الجانب البحثى والأكاديمى لما استطعت تحقيق أفلاما بميزانيات قليلة تضمن لى حرية واستقلالية فى التعبير. البحث فى الزمن السينمائى وفى اليات الايهام وفى فلسفة الابداع وفى تقنيات السرد وفى تفكيكية النص وفى سيمياء العلامات وفى القدرة التعبيرية للألوان يفيدنى الى أقصى حد كسينمائى لمعرفة كيفية التعبير عن نفسي كسينمائى ، وايضا القدرة على تعظيم التاثير رغم قلة الامكانات. العلم تاج رؤوسنا وسلوانا الدائمة. نتحاجج به ونأتنس ، اذا كيف لا يفيد كثرة العلم أى سينمائى. ربما كثرة مشاهدة الافلام لها مشاكلها بعد ذلك، اذ تصبح توقعات المرء عالية للسرد السينمائى مما يجعلنى لا أكمل مشاهدة بعض الأفلام. أعانى بالفعل من القدرة الكبيرة على توقع الحبكة والاسلوب السينمائيان جراء تراكم المشاهدة والتنبؤ بنبض المخرجين.لكنى مازلت أتأثر وأهفو للطازج والفذ والفلسفى والرائق وغيره. و فى مجال الأفلام التى أصنعها أصبحت أميل أكثر للفن التحريضى الشعبوى أكثر من الفن النخبوى، وليته كان من الممكن الجمع بينهما. فقدت مؤقتا رغبتى فى صنع فن مجردا أوتجريبيا فى السنوات الحالية وأصبحت الان مع أنواع الدهشة الممزوجة بالألفة التى تناقش أمرا جللا له أولوية فى حياة المجتمعات التى أحيا بها.