العذراء، الأقباط و أنا

عدنان مدانات
يحقق فيلم” العذراء، الأقباط و أنا” تجربة جديدة في السينما التسجيلية العربية بمزجه مادة فيلمه التسجيلي الطويل بمقطع روائي هو من صلب المادة التسجيلية. يحكي الفيلم عن ظاهرة تكررت عدة مرات في مصر وهي ظاهرة الحديث عن ظهور السيدة مريم العذراء أمام جماهير من المؤمنين بها. يبدأ الفيلم بتعريف المخرج المقيم مع عائلته في فرنسا عن نفسه وعن أصوله القبطية. ثم ينتقل بسرعة للحديث عن دعوة عشاء في منزله ذكرت فيها ضيفة أن العذراء ظهرت في مصر مؤخرا و شاهدها الناس وأن بحوزتها شريط فيديو عن هذا الحدث الجلل. يعرض المخرج بعد ذلك هذا الشريط المصور والذي تظهر فيه حشود من البشر المنبهرين بالمشهد الليلي.  لا تبين العذراء في هذا الشريط، مع ذلك فإن والدة المخرج والتي سبق لها أن شهدت حدثا مماثلا قبل سنوات تعلن وحدها أنها شاهدت العذراء في الشريط. حينها، كما يقول المخرج، قرر صنع فيلم عن هذه الظاهرة، مع أنه، و كما سيعترف لاحقا غير مؤمن. لا يوضح المخرج السبب في قراره صنع فيلم عن هذه الظاهرة و ما الذي يبتغيه من وراء الفيلم، فهل سيسعى إلى تأكيد هذه الظاهرة أم أنه سيعمل على إثبات عدم صحتها؟.

 العمل على هذا الفيلم كان يعني بالنسبة للمخرج الذهاب إلى مصر التي لم يزرها منذ خمسة عشر عاما. في القاهرة يلتقي المخرج مع أناس مختلفين من الأقباط و يسألهم عن رأيهم في هذه الظاهرة، ويتبين من محمل الأجوبة أن لا أحد شاهد العذراء فعليا مع ذلك لم يعدم وجود من يصدق هذه الظاهرة من بين من طرح عليهم سؤاله. لكن أجوبة الناس لا تشفي غليله، فيلجأ إلى نشر إعلان في الصحف يطلب فيه ممن يملكون أية وثائق أو صور تؤكد وجود هذه الظاهرة أن يتصلوا به. وهذا ما يحصل إذ تعرض علية امرأة صورا قديمة متوفرة لديها تظهر فيها جموع الناس وهم يتفرجون على المشهد وتظهر في إحدى الصور بقعة ضوء من المفترض أنها هالة من النور تحيط بجسد العذراء، غير أن الجسد نفسه يظل غير مرئي. هكذا مرة ثانية لا تسعف الصور المخرج في العثور على إجابة يقينية تؤكد أو تنفي حقيقة هذه الظاهرة. أخيرا يقرر المخرج الانتقال من القاهرة إلى الريف بحثا عن مزيد من الإجابات حول الموضوع الذي يشتغل عليه وينتهي به الأمر في القرية التي يعيش فيها أقرباء له.
في كل اللقاءات التي يجريها يبدو المخرج مجرد شخص يطرح أسئلة، وخلال أحداث الفيلم كله لا يقوم المخرج بأية عملية تحليل لهذه الظاهرة و لا يعلن موقفه الشخصي منها، وتظل عملية تناول هذه الظاهرة طافية على السطح بدون أي تعمق فيها، هكذا يمر الوقت ويتخطى الزمن المحدد للتصوير و لا يصل المخرج إلى إجابة شافية وفي النتيجة يشعر أنه بات في مأزق.
عند هذه اللحظة يخطر على بال المخرج الحل السحري وهو تنفيذ مشهد تمثيلي يجسد ظهور العذراء أمام جمع من الفلاحين. بعد أن يتمكن المخرج من إقناع أقربائه بالتمثيل معه في القرية ويعثر على الفتاة الملائمة للعب دور العذراء. بعد ذلك يشرع المخرج في تدريب الفلاحين على أداء ادوارهم، وأخيرا، يقوم بتصوير المشهد. يصور المخرج ردود فعل الممثلين على ظهور العذراء و يصور العذراء نفسها معلقة في الهواء على خلفية ستارة خضراء( لأن الستارة الخضراء تستجيب لتقنية في التصوير الرقمي تسمح باستبدالها بأية خلفية أخرى يرغب المخرج في وجود العذراء أمامها فتظهر العذراء في النتيجة واقفة على حافة سطح إحدى الكنائس). بعد إتمام تصوير المشهد و المونتاج نرى في الفيلم مجموعة الفلاحين في لقطات قريبة وهم يتفرجون على أنفسهم في الفيلم، بعضهم يتفرج مندهشا و بعضهم يضحك.
يأتي هذا المشهد الطويل نسبيا في الربع الأخير من الفيلم، وهو مشهد ممتع في تفاصيله، لكنه بدوره لا يقدم للمخرج إجابة تتعلق بصحة هذه الظاهرة أو عدم صحتها، فالمشهد التمثيلي الروائي لا يمكن أن يحل محل الواقع أو يجيب على أسئلة عجز التصوير الوثائقي على شكل مقابلات حية عن الإجابة عليها.

المخرج

هذا المشهد الروائي المبتكر جديد من نوعه على السينما التسجيلية العربية، و على الأغلب جديد على السينما الأجنبية أيضا، لكنه في الحقيقة لم يحقق الحل السحري المرجو. وبالنسبة لي شخصيا تفكرت كثيرا في دلالة هذا المشهد من الناحية البنائية و تنازعتني تفسيرات متنوعة بعضها لصالح وجود هذا المشهد في الفيلم وبعضها الآخر لا يجد تبريرا له و لم أتيقن من واحدة منها. من بين التفسيرات المتناقضة بدا لي أن المشهد كان حلا سرديا لا للإشكلية المطروحة في الفيلم، بل لمأزق المخرج المتمثل في عدم وضوح الفكرة من وراء هذا الفيلم الذي ينتهي بجملة تقول أن هناك من يرونها وهناك من لا يرونها و أن المهم هو القناعة.
لا ينتقص هذا الكلام من قيمة الفيلم الذي يحتمل قراءته و مقاربته من زوايا مختلفة تسمح بتحليل كل المضامين المطروحة فيه والتي تجد فيه ما هو أبعد من مجرد معالجة ظاهرة ظهور العذراء، وما هذا الكلام المدون أعلاه إلا محاولة لمقاربة الفيلم من زاوية واحدة هي زاوية مبرر وجود المشهد الروائي بالشكل الذي ظهر فيه في الفيلم.


إعلان