كيف وقعت “فريديريك دوفو” في مرجل السينما التجريبية
ترجمة صلاح سرميني ـ باريس
تُشير “موسوعة ويكيبيديا” التي تمتلك ذاكرةً متجددةً أفضل مني، بأنّ “فريديريك دوفو” مخرجةٌ فرنسيةٌ من أصولٍ جزائرية بربرية (والجزائرية من عندي)، وهي منذ عام 1980 تُخرج أفلاماً تجريبيةً، وتسجيلية.
كتبت عدداً من المُؤلفات عن إبداعات الحركة الحروفية (أو الفنّ اللغويّ الحروفيّ) : حول السينما (السينما الحروفية 1990، معاهدة لعاب، وأبدية 1991)، الفوتوغرافيا، دراسات (مقابلة مع “إيسيدور إيسو”،1991 )، أو عن العلاقات بين إبداعات “إيسو”، والديانة اليهودية.
كما نظمّت عدداً وافراً من التظاهرات في المعارض الفنية، والمتاحف، وساهمت لفترةٍ طويلة في نشر، وتوزيع الأفلام الحروفية، وعرضت أفلامها الخاصة في متاحف عديدة في أنحاء العالم.
ومنذ عام 2000، وبمُشاركة مع “ميشيل آمارحيه”(رفيق دربها الحياتيّ، والفنيّ) بدأت بإخراج سلسلةٍ بالفيديو بعنوان (Cinexpérimentaux) مخصصة للتعريف بمُبدعي السينما التجريبية (مارسيل هانون، مارتين روسيه، ستيفن دفوسكاين،…)، أو المؤسّسات التي تهتم بها (تعاونية Light Cone)، وفي عام 2010 أنجزت تجربة حول سياقاتها، وأساليبها تحت عنوان (سينماتٍ مختصرة).
هي واحدةٌ من الأعضاء النشيطين في تعاونية Light Cone، وتعاونية السينما الشابة، والمختبر البديل المُسمّى (L’Abminable).

وفيما يتعلق بالجانب الأكاديميّ، فهي تعمل محاضرةً في جامعة (Provence Aix-Marseille I)، وتهتم بالتحديد بالسينمات التي يُقال عنها هامشية (تجريبية، بربرية،…)، وبالتوازي، تُكمل نشاطها في إنجاز الأفلام.
وللتعرّف على مسيرتها السينمائية بإسهابٍ أفضل من موجز “ويكيبيديا”، أستعير هنا، وبالاتفاق مع ” فريديريك دوفو”، وموافقتها، حواراً نُشر في عدد يناير 2002 من مجلة (Repérages) أجراه الناقد (وقتذاك)، والمخرج/المنتج (حالياً) “نيكولا شميركين”.
***
حسناً، سوف أقذف نفسي في الماء، وأغرق في كتابة ردودٍ ذاتية على واحدٍ من أسئلتكَ الذي يمكن صياغته بالسؤال التالي:
ـ كيف وقعتُ في مرجل السينما التجريبية ؟
بدون شكّ، ومثل الكثيرين غيري، عندما كنت شابة أبحث عن طريقي، وصوتي أيضاً.
في عام 1979 عملتُ صحفية بالقطعة لمجلة “سينما” التي اختفت بعد إلتفافةٍ سريعة في مجلة “دفاتر السينما” التي لم تعجبني، لأنني لم أجد فيها مكاني أبداً، ، حيث كانت الإدارة تطلب مني مقالاتٍ عن الأفلام، التجارية بالطبع.
وبالتوازي، كنت أتابع من بعيدٍ دراساتٍ سينمائية، أكملتها حتى حصلت على أطروحة الدكتوارة.
ومثل الجميع في تلك المرحلة من العمر كنت غير راضية، ولا أعرف عن ماذا أبحث بالضبط، ولهذا، واظبتُ على مشاهدة كلّ الأفلام، الردئ منها، والجيد، كلّ ما تعرضه الصالات على شاشاتها في تلك الفترة.
على سبيل المثال، شاهدت في عام 1979 أفلام “غريغوري ماركوبولوسو” التي لم أفهم منها شيئاً، كما حال أفلاماً أخرى أيضاً، أعتقد لـ “دافيد ريمير”)، وكان ذلك غريباً بالنسبة لي، لأنّ أحداً لم يتحدث عنها، أو يعرف مخرجيها، ولم أكن أدرك وقتها ماذا تعني تلك الأفلام، ومع أيّ نوع من السينما تتوافق.
في مارس عام 1980، وبطلبٍ من مجلة “سينما” التي إختفت ذهبت إلى “مركز جورج بومبيدو” لمشاهدة فيلم لـ”موريس لوميتر”، وهناك انتابني إحساس بأنني بدأت أفهم أخيراً، ببساطة، أدركت أنه بإمكاني إنجاز أفلاماً بدون الكثير من المال، وفريق عمل ثقيل، وملفاتٍ ضخمة، فقط مع أفكار، أبهرتي تلك الفكرة، وأجريتُ مقابلةً مع “موريس لوميتر” لم تُنشر أبداً، وخلال السنوات اللاحقة، بدأت أشاهد كلّ ما يُعرض هنا، وهناك، وفي نفس الوقت كنتُ أنجز أفلاماً شخصية (يعود تاريخ إنتاج فيلمي الأول إلى عام 1980).
جعلني هذا الأمر أتساءل إلى درجة رغبت بأن أفهم ماذا تعني “الحروفية”، وهكذا شاركت في نشاطات تلك الحركة حتى عام 1994، بدون أن أتفق مع مواقفها، وجدالاتها، وغالباً مع الفنانين الذين شكلوا تلك المجموعة مع أنها مثيرة في أفكارها.
إتهمني هؤلاء بأنني تسللتُ إليهم كي أنجز أبحاثي، هذا صحيحٌ إذا كان الواحد منا سلبيّ، سطحيّ، وحاقد، وخطأ عندما نعرف الأسرار التي تحيط غيرةً بهذه الحركة.

إذاً، أخرجت عدداً من الأفلام، حتى وصلت إلى مرحلةٍ لم تعد المختبرات التقليدية ترغب بنسخها(مازلت أحتفظ في أدراجي بأفلامٍ من تلك الفترة لم تُنسخ بعد)، وبما أنني لم أعد أستطع عرضها (لا يمكن عرض النسخ الأصلية)، في غضون ذلك، إستفدتُ من خبراتي لكتابة مؤلفات (حول فيرتوف، أو الحروفية بشكلٍ خاص، وإستغرق مني ذاك الأمر 10 سنواتٍ من البحث)، كما عملت أيضاً، ولمدة 6 سنوات، في قسم السينما التجريبية لمجلة (Kanal Magazine) ومنحتني تلك المسؤولية إمكانيات اللقاء مع السينمائيين كانت في بعض المرات مهمة للغاية، بالتوازي مع تلك النشاطات، وبدءا من عام 1982، أسّست مع “ميشيل أمارجيه” (زوجها) مهرجاناً أسميناه “المهرجان الدولي للطليعة”، وكان يجمع مصوري فوتوغرافيا، سينمائيين، فيديويين، وباحثين، وبدون خطأ، نسيان، أو رفض قاطع من الفنان المعنيّ، فقد برمجنا أفلام كلّ السينمائيين التجريبيين الفاعلين في فرنسا وقتذاك، ونظراً للجهد الذي تطلبه العمل (في البداية كانت مدة المهرجان ثلاثة أسابيع)، فكرنا بأن نتوقف، ومن ��مّ، بسبب مجموعة من الظروف رُبما لا تهمّ أحداً اليوم، إتصلت بـ”رافائيل باسان”(ناقد، ومؤرخ سينمائيّ)، وأبدى إهتمامه بالمُشاركة، وإلتحق بنا “جاك كيرمابون”(ناقد، ومؤرخ سينمائيّ)، هذان الرفيقان (وخاصة رافائيل) جلبا معهما إنفتاحاً على أوروبا : على سبيل المثال، كانت برمجة أفلام “ستيفن دفوسكاين” فكرة من طرف “رافائيل”، وهو الذي قدم في عام 1986 مساهمة كبيرة في تنظيم البرنامج الإستعادي عن سينما الأندرغراوند الأمريكية (بتصريحات السينمائيين أنفسهم، وبعض النقاد اليوم، كشف ذاك البرنامج عن سينما كانت مجهولة تقريباً في تلك الفترة).
إستمر المهرجان بنجاح في صالات سينمائية مثل “ستوديو 43” التي إختفت، أو “أولومبيا” التي إختفت أيضاً، وكان يمتلكها “فريديريك ميتران”، وحاز المهرجان على تغطية صحفية جيدة، وجاء الوقت الذي كان علينا الاختيار: إما الإهتمام تماماً بالنشاط المهرجانيّ، أو التوقف، وبعد فترة ترددٍ طويلة، قررنا بأن نتفرع لأعمالنا السينمائية الشخصية.
بعد هذا المهرجان الذي تطلب منا جهوداً مُعتبرة (وكنا وقتذاك شباباً)، وخلال سنوات لم تظهر في فرنسا مبادراتٍ أخرى مماثلة، وكان ذلك، بلا جدال، أحد اسباب التعتيم المنهجيّ على تلك السنوات الخمس، وحتى تجاهلها في المطبوعات التي تدّعي بأنها موضوعية، وعلى الرغم من ذاك التوقف، أكملنا بإنتظام عرض أفلام تجريبية في فرنسا، وخارجها (مازلتُ أحتفظ في أرشيفي بتفاصيل البرامج التي قمنا بتنظيمها)، حيث كان جوهرياً، بالنسبة لنا، أن نقدم للآخرين الدوافع التي جعلتنا نختار في البداية هذه الدروب من السينما.
وبالعودة إلى مرجلي، مع أنني لم أتوقف أبداً عن التصوير، وإنجاز الأفلام (أنجزتُ أفلاماً تسجيلية، وأخرى تجريبية خلال تلك الفترة)، إذاً، عدتُ إلى إنجاز كلّ أفكار الأفلام التي كانت تحوم في رأسي عندما ظهر في باريس مختبر بديل (l’Abominable) ـ وتعني المقيت، أو المكروه ـ كان حلماً بالنسبة لي، وهنا أنتهز الفرصة كي أعبر عن إمتناني لهذا المكان، ومؤسّسيه، لأنه، بدونهم، كنت سوف أستمر بسؤال نفسي ماذا يتوجب علي فعله كي أنتهي من إنجاز أفلامي المُعلقة، وعرضها على الجمهور (كانت عادةً تتكوّن من 3-4-5 وأحياناً 6 طبقات من الشرائح الفيلمية الحساسة).
إذاً، لم يكن إختياري للسينما التجريبية ضدّ السينما التجارية، حيث أعارض بشدة كلّ التصنيفات التي تمنح صورة للسينما التجريبية بأنها ضدّ (أيّ تتعارض مع)، فهي، من جهةٍ، تمتلك تصنيفاتها، قيودها، وإنفتاحاتها الخاصة، ومن جهةٍ أخرى، هي السينما أيضاً، والتي تتعارض مع الأخرى، أن نجعل السينما التجريبية الطفل الضعيف من العائلة، فإننا بهذه الطريقة نمنح ضماناتٍ لما نُسميه بالسينما السائدة، كانت إختياراتي من أجل، ونحو إختيارات إيجابية.

من جهةٍ أخرى، منذ سنواتٍ طويلة، أهتمّ بتدريس السينما التجريبية في بعض المدارس العليا، والمعاهد، والكليات، وأحاول طوال هذه الفترة كلها بأن أمنح طلبتي رؤية إيجابية في حدّ ذاتها عن السينما التجريبية، ويبدو بأنني نجحت في ذلك، حيث أجد عدداً منهم (ولنقل بمتوسط 5 من مجموع 35 في السنة) يتابعون بإنتظام عروض السينما التجريبية حيث ألتقي بهم دائماً ببهجةٍ كبيرة.
وهكذا، من خلال ما يبدو للقارئ بأنها سيرة شخصية، فقد لخصتُ بدايات تاريخ يمكن أن نجد أنفسنا جميعاً فيه، حيث نتلاقى، ويعثر أحدنا على الآخر.
وبدون شكّ، وعلى الأقلّ في جزءٍ منه، أتوقف عند فكرة أتشارك بها مع آخرين كثيرين، بمعنى، الوعيّ الإقتصادي : فجأة، أصبحنا نشاهد، ونعلم بأننا نستطيع التعبير بحرية، وبدون المرور في دروبٍ، وآلياتٍ ثقيلة، ومعطلة لصناعة، وتجارة لديها سلبياتها أيضاً.
ومن ثمّ، مرجل التجريبيّ هو، بالنسبة لي، مشاهدة الأفلام.
إنجاز أفلام، ومشاهدة، مشاهدة، وإنجاز أفلام بخطى متساوية في مسيرتي الإحترافية، الواحدة تُرافق الأخرى، وبالعكس، أرغب دائماً بمشاهدة أكبر عدد من الأفلام التي ينجزها الآخرون من المُعاصرين، وتلك التي أنجزها السابقون، وهنا، رُبما أشير إلى “صراع” أجيال، لأنّ البعض من طلبتي، يعتقد بأنه يمكننا التغاضي عن معرفة تاريخ السينما، وإنجاز أفلاماً جيدة جداً.
على أيّ حال، أشكّ في صحة هذا الإقتناع، وأوجه إلى الجميع سؤالاً :
ـ أين تضعون أنفسكم بالعلاقة مع هذا الأمر ؟ هل تؤمنون بالإبداع الفنيّ المنطلق من لا شيئ، أيّ من الفراغ ؟ وهل يجب علينا المرور بثقافةٍ من أجل الدخول إلى نفس الثقافة ؟
لديّ بالطبع الكثير من الأفكار كي أحكيها، ولكن، اليوم، أترك الكلمة لمن يشاء.
هامش :
دوفو، وميشيل أمارجيه يكشفان عن سينماتٍ مختصرة
http://doc.aljazeera.net/cinema/2011/06/201168122258294463.html