رأيت الغجر البؤساء

فصل في حياة جامع الحديد

أمير العمري

غابت الأفلام الكبيرة الضخمة الإنتاج التي تتكلف الملايين من مسابقة مهرجان برلين الـ63، فحتى ما عرض في المسابقة من أفلام أمريكية لم يكن من ذلك النوع، بل ربما يكون الفيلم الألماني “ذهب” من أكثرها تكلفة من الناحية المالية. لكن فيلم “فصل من حياة جامع الحديد” للمخرج دانيس تانوفيتش هو بلاشك أقل هذه الأفلام كلها في الميزانية، بل ربما يكون من أقل الأفلام تكلفة في العالم خلال السنوات العشر الأخيرة، فقد أعلن المخرج في المؤتمر الصحفي الذي أعقب عرض الفيلم في برلين، أن ميزانية فيلمه لم تتجاوز 40 ألف يورو، وكان منتجا الفيلم يجلسان إلى جواره وصدقا على تصريحه هذا.
لكن الأفلام لا تصنع بالمال فقط بل بالموهبة وبالجرأة وبالقدرة على إقتحام مناطق جديدة وصعبة، والقدرة على التعبير عن الحياة الإنسانية بصدق، ومن خلال أسلوب فني رفيع، وهذا تحديدا ما يميز فيلم “فصل من حياة جامع الحديد”.
لقد إلتقط تانوفتيش (كاتب سيناريو الفيلم ومخرجه) موضوعه من الأخبار والتحقيقات التي تنشرها الصحف. وقد ذاعت قصة ذلك العامل البسيط “نظيف” الذي يقيم مع أسرته (زوجته سينادا وإبنتيه ساندرا وسمسه) في قرية نائية في مقاطعة توزلا بإقليم البوسنه والهرسك، بعد أن تعرضت زوجته لمشكلة صحية كادت أن تودي بحياتها بسبب غياب العدالة في المجتمع بعد كل ما تعرض له الناس هناك من عيش تجربة الحرب المريرة، خاصة وان نظيف نفسه قضى أربع سنوات في “الجبهة”!

تانوفتيش

المخرج تانوفيتش يجلس مع الأسرة ويستمع إلى قصتها التي كادت أن تنتهي إلى مأساة، ويكتب سيناريو في صفحات محدودة، ويصوره بكاميرا فيديو في تسعة أيام، ويخرج بتحفة بصرية وإنسانية من الطراز الأول. لقد كان هذا الفيلم تحديدا من أكثر الأفلام التي تركت تأثيرا وجدانيا على جمهور مهرجان برلين في أيامه الأخيرة. إنه نموذج للبساطة الآثرة البليغة التي تتجاوز كل التعقيدات السينمائية، والألاعيب البصرية، ومحاولات التفلسف الزائف التي شاهدناها مثلا في الفيلم النمساوي “الجنة: الأمل” كمثال.
نظيف يعمل مع زملائه في تكسيروتفكيك السيارات القديمة وتحويلها إلى حديد (خردة) يباع لتجار يبيعونه من أجل إعادة هيكلته أو استخدامه. وهو يعيش مع زوجته وإبنتيه في جو عائلي هاديء، وهو يمتلك سيارة صغيرة قديمة. والأسرة تنتمي إلى الغجر الذين يطلق عليهم مجتمع “روما” Roma community أي مجتمعات الغجر الذين ينتشرون في أوروبا الشرقية والذين يقال إن أصولهم هندية.
ورغم ما يتمتع به نظيف من علاقات طيبة تربطه بجيرانه إلا أنه ليس لديه- هو وأسرته- تأمين أجتماعي أو صحي ولا يتمتع بأي غطاء يؤمنه في حالةالبطالة أو يحميه من إصابات العمل.
زوجته سينادا حامل في طفلهما الثالث. يعد ذات يوم ليجدها تنزف. يحمل نظيف زوجته ويضعها في سيارته ويدير محركها ويقودها إلى  البلدة القريبة طلبا للمعونة الطبية، لكن الأطباء هناك يرفضون تماما التعامل مع حالةسينادا لأنها لا تحمل بطاقة للتأمين الصحي. يتوسل إليهم نظيف، ويشرح لهم الحال، يطلبون منه مبلغ 980 فرنك بوسني (حوالي  675 دولار). يشرح لهم حقيقة وضعه، وعمله، فمن أين يمكنه أن يأتي بهذا المبلغ الضخم وهو العامل الفقير الذي لم يتمكن من دفع فاتورة الكهرباء. لا فائدة. يعود نظيف وزوجته إلى القرية لكي يجدا ان شركة الكهرباء قد أرسلت من قاموا بقطع التيار الكهربائي عن ذلك الكوخ البدائي الذي يقيمون فيه في تلك القرية التي غطتها الثلوج فأصبح التحرك فيها شبه مستحيل.
تتدهور الحالة الصحية لسينادا.. يقنعها نظيف بضرورة العودة للمحاولة لكن المسؤولين هناك يصرون على ضرورة الدفع: إذا لم يكن هناك تأمين صحي فلا أحد يمكنه تحمل تكاليف العلاج. إنها في حاجة إلى عملية كحت وتفريغ للرحم حتى يتوقف النزيف، وإذا تركت هكذا قد تتعرض لعدوى التسمم وتقضي نحبها.
يعود بمفرده في اليوم التالي لمحاولة إقناع المسؤولين في العيادة الصحية بخطورة حالة سينادا. تعود معه إحدى الممرضات لكي تأتي بسينادا لكن كبرياء سينادا تمنعها من العودة مصرة على انها لن تعرض نفسها للمهانة مرة أخرى.

يتشاور نظيف وسينادا ويقنعها بالحصول على بطاقة التأمين الصحي الخاصة بشقيقتها. ويكون عليهما أن يقطعا الطريق صباح اليوم التالي بسيارة أحد جيرانهما بعد أن تعطلت سيارة نظيف وفشلوا في إصلاحها. يمران أولا على منزل والدة سينادا ومعهما الطفلتان علىالمقعد الخلفي للسيارة. ويحصلان على البطاقة الصحية وينجحان أخيرا في إجراء العملية المطلوبة لسينادا وينتهي فيلم إنساني مؤثر بسيط في تكوينه، كبير في مغزاه وأسلوبه.
في الطريق إلى البلدة يمر نظيف بالسيارة على مصانع يتصاعد الدخان السام من مداخنها في إشارة من الفيلم إلى ذلك التلوث البيئي الذي لا تفعل الحكومة شيئا من أجل وقفه بما يسببه من إنتشار للأمراض، تماما كما يهجو الفيلم بوضوح تقاعس الدولة عن النظر بعين الرحمة إلى الفقراء البؤساء خاصة من الغجر، الذين تركوا هكذا بدون أي نوع من الضمانات الإجتماعية.
الحب الصامت بين الرجل والمرأة هو أقوى ما في الفيلم، فنظيف يترك كل شيء من أجل إنقاذ زوجته. ويصور الفيلم ايضا كيف يتضامن السكان والأقارب مع بعضهم البعض. إن نظيف لا ينجح في سداد فاتورة الكهرباء وإستعادة الضوء إلا بعد أن يقوم بتكسير وتفكيك سيارته بمساعدة رفاقه، وبيعها بملغ زهيد يكفي لسداد الفاتورة المتأخرة، وشراء الأدوية المطلوبة لسينادا.
الفيلم يقول أيضا إن الصدق لا يكفل النجاة، فالأطباء يرفضون تقديم المساعدة لسينادا لأنها لا تملك بطاقة تأمين صحي، وبالتالي يدفعونها إلى الكذب والتحايل باستخدام بطاقة ليست لها، وبذلك تحصل على ما أرادت!
هذا ليس فيلما من أفلام “الغجر السعداء” التي يصنعها بعض المخرجين تمتليء عادة بالموسيقى الصاخبة والرقص المجنون والعربدة. فحياة الغجر كما يقدمها لنا تانوفيتش هي حياة حزينة كسيرة، مليئة بالفقر، الناس تتساند مع بعضها البعض، ويستعينون على قسوة الحياة وبشاعة الطبيعة، بالدفء الإنساني والحب.
أسلوب تانوفيتش في الفيلم هو أسلوب الدكيو- دراما او الدراما التسجيلية حيث يعيد المخرج بالتعاون مع الشخصيات الحقيقية في الحدث، تمثيل ما وقع في الحياة الحقيقية لهم أمام الكاميرا بعد سلسلة من التدريبات بالطبع. وجميع من يظهرون في الفيلم من غير الممثلين المحترفين. الأسرة بأفرادها الأربعة، والجيران، والأطباء في المصحة، والممرضة، والسائق.

إيقاع هاديء رصين في ذلك الفيلم الذي لا تزيد مدة عرضه عن 75 دقيقة.. إضاءة طبيعية تماما.. كاميرا تركز أساسا على الأشخاص.. لقطات طويلة للطبيعة.. للثلوج وقد انتشرت في كل مكان.. لعامل الكهرباء وكيف يتسلق عامودا مرتفعا لكي يقوم بإعادة توصيل الأسلاك في ظروف قد تؤدي إلى إنزلاقه وسقوطه لكنه إبتكر حيلة مدهشة للتغلب على الإنزلاق من على ذلك العامود.
ويمكن القول إن الأداء التمثيلي لنظيف وسينادا يبدو وجلا، مترددا، بل إن سينادا تبدو في بداية الفيلم خجولة بعض الشيء، تتضاءل أمام الكاميرا، لأن المخرج لم يشأ أن يجعلهما “يمثلان” بل تركهما يؤديان بتلقائية حتى لو جاء الأداء مفتقدا كما لاحظنا، إلى إظهار المشاعر الحارة.
لذلك كان من المفاجيء أن يحصل نظيف على جائزة أحسن ممثل في ختام مهرجان بريل، ولاشك لدينا في تأثر أعضاء لجنة التحكيم بدور نظيف الحقيقي في الحياة كزوج مخلص رائع، فعل كل ما يمكن من أجل إنقاذ زوجته، وإدخال بعض السعادة على أبنائه.
بقى أن نقول إن نظيف قال في المؤتمر الصحفي للفيلم في مهرجان برلين، إن الفيلم لم يؤد إلى أي تقدم في حياته وأسرته، فهم مازالوا يعانون وهو لم يحصل بعد على عمل دائم بل يعمل يوما بيوم، ولم يتمتع بعد بتأمين صحي له ولأسرته!
الأفلام إذن لا تغير الواقع ولكن الواقع يتغير طبقا لحرجة التغيير الحقيقية في داخله.


إعلان