الكلاسيكي التسجيلي” بريد الليل”
إعداد عدنان مدانات
يعتبر الفيلم التسجيلي الكلاسيكي” بريد الليل”( عام1936)، من أول الأفلام التسجيلية التي سعت لتطبيق مفهوم المخرج البريطاني جون غريريسون المتعلق بوصف السينما التسجيلية بأنها المعالجة الخلاقة للواقع ومن أكثر الافلام التسجيلية تمثيلا لرؤيته. كان مفهوم جون غريرسون يستند إلى رؤيته الفلسفية التي تهدف إلى مزج السينما ذات المضمون و التوجه الاجتماعي مع منجزات الفن السينمائي. فيلم” بريد الليل” الذي يصور رحلة قطار البريد الملكي الليلية من لندن إلى سكوتلاندا أحد أكثر أفلام “حركة الفيلم التسجيلي البريطاني” تقديرا من قبل النقاد، وهي الحركة التي أسسها جون غريرسون، و إضافة إلى ذلك كان الفيلم من بين أكثر الأفلام التسجيلية نجاحا من الناحية التجارية.
يتحدث فيلم” بريد الليل” عن خدمات مكتب توزيع البريد وكيف يتم تجميع الرسائل و توضيبها ونقلها بواسطة القطار، ويصور الفيلم انطلاق قطار البريد و توقفه عند مختلف المحطات لاستلام و تسليم البريد ويصور الفيلم العربة داخل القطار حيث يجري توزيع الرسائل في الصناديق وفق مكان إرسالها، ففي حين يكون الناس نائمين يكون عمال البريد في حالة انشغال.

بدأت فكرة الفيلم كمشروع طرأ على بال جون غريرسون وطرحه على المخرجين بازيل رايت و هاري وات وكان الهدف من الفيلم تعريف عامة الناس بكيف تجري عملية توزيع البريد عبر البلاد وكان مطلوبا من الفيلم بالتالي أن يحتفل بنجاعة النظام البريدي و بالأشخاص الذين يعملون فيه. كان الهدف من وراء إنتاج هذا الفيلم موزعا بين الرغبة في تصوير فيلم واقعي نمطي يروج لمكتب الخدمات البريدية وهدف آخر أكثر طموحا يتضمن محاولة تجريبية في مجال استخدام الصوت وخاصة صوت الراوي و الأسلوب الفني و تقنيات المونتاج.
يبدأ الفيلم بصوت بوق ثم يليه سرد جاف مفصل للحقائق حول كم من الرسائل يحملها القطار و كيف يجري ترتيبها في هذا الفيلم. استعراض العمل اليومي يصور بطريقة واقعية تتخللها لقطات شعرية و معبرة للقطار الذي نتابع سيره بالتوازي مع أسلاك التليغراف وخطوط سكة الحديد. هناك لقطات من الأعلى مصحوبة بصوت المعلق الذي تشبه نبرة صوته نبرة صوت مذيع نشرة الأخبار الذي ينظر للقطار من الأعلى مرافقا تقدم القطار. بعدما بدأ العمل في الفيلم قرر غريرسون أن فيلم” بريد الليل” يفتقر إلى اللمسة الإنسانية لهذا طلب من الشاعر يو إتش أودلين،وهو أيضا كان مساعدا للمخرج، ن يؤلف قصيدة من أجل الفيلم تحكي عن أولئك الذين يكتبون الرسائل و أولئك الذين يستلمونها. وقد جرى مونتاج القصيدة بعد حذف مقاطع منها تلاءم الإيقاع البصري للموسيقى وحركة عجلات القطار، والنتيجة كانت تحفة سينمائية شعرية. عندما يقترب القطار من خط النهاية هناك المقطع الأكثر شهرة في الفيلم حيث نستمع إلى القصيدة التي كتبها أودين بمرافقة الموسيقى و على خلفية لقطات لحركة عجلات القطار حيث تزامنت قراءة القصيدة مع إيقاع الموسيقى و صوت عجلات القطار وكان إيقاع قراءة القصيدة يتسارع بالتوازي مع سرعة دوران عجلات القطار.
أهمية قصيدة أودين أنها، إضافة إلى الاستعمال الخلاق لقراءتها، جعلت الفيلم يبدو وكأنه فيلم عن الوحدة الإنسانية وعن أهمية الرفقة و الانسجام بين العمال وهو الانسجام الذي يصوره الفيلم عن طريق الأحاديث المتبادلة بين عمال البريد… دون نسيان الحديث عن استلام و تسليم البريد الذي يشكل المادة الرئيسية للفيلم. من الناحية البصرية لا يكتفي الفيلم بعرض سيرورة العمل الذي يجري داخل القطار بل يصور بالتفصيل الحركة الخارجية للقطار وعجلاته وخطوط سكة الحديد، بحيث يخلق الإحساس بالحركة المتواصلة خلال الفيلم كله وهناك لقطة مميزة في الفيلم من هذه الناحية تعرض كلبا و مجموعة أرانب تركض في الحقل بموازاة مرور القطار مما يعمق من الإحساس بالحركة، وساهم في ذلك تقنيات الصوت التي التقطت ببراعة إيقاع القطار وهو يتقدم او يتراجع عبر الشاشة. إن هذا التركيب بين الصوت والصورة يدفع المشاهدين للإحساس بأنهم مشاركون فعالون في الرحلة. ولأن لقطات القطار فعالة جدا فإن القطار يصبح مركز عملية السرد على الرغم من أن الهدف هو إبراز العنصر الإنساني الذي يجعل العمل يسير بصورة جيدة.