الفيلم الوثائقي.. ونصيبه من الصالات
في بادرة فريدة في الساحة السينمائية العربية، أطلقت الجزيرة الوثائقية مشروعا يحمل عنوان “موسم الجزيرة الوثائقي” بالتعاون مع شركة سينما فوكس. ويهدف المشروع إلى عرض باقة من الأفلام الوثائقية التي أنتجتها الجزيرة الوثائقية في صالات فوكس سينما في كل من دبي وابوظبي. واعتبر القائمون على المشروع المبادرة مغامرة لتحريك الساحة السينمائية العربية عبر بوابة الفيلم الوثائقي. وهي بوابة تطرح الكثير من الإشكاليات القديمة الحديثة حول وضع الوثائقي في المشهد السينمائي العربي. وهل يمكن أن يكون له نصيب من الفرجة الجماهيرية في قاعات السينما؟ وهي إشكالية يعتبرها كل المتابعون معضلة في الثقافة العربية المعاصرة قياسا مع المجتمعات المتقدمة التي يتنفس فيها الفيلم الوثائقي خارج الشاشة الصغيرة وله جمهوره الذي أسس تقاليد “الفرجة الوثائقية” منذ زمن.
في هذا الملف نحاول أن نلقي الضوء على جوانب مختلفة من هذه الإشكالية من خلال الحديث مع نخبة من المخرجين والنقاد والمتخصصين والقائمين على صالات السينما، وعيا منا بأن هذه الإشكالية لا يتحمل تبعاتها طرف واحد وإنما هي مسؤولية كل الأطراف المعنية بالفيلم الوثائقي خاصة وبالسينما عامة. وقد حاولنا أن نبني تفكيك الإشكالية بناء منهجيا، نتعرف فيه على جل الأسئلة المطروحة حول القضية ثم تاريخية الإشكال نفسه لنخلص إلى أهم المشاكل التي تعترض الوثائقي للظهور في الصالات مستخلصين النتائج والحلول.

1- أهمية السؤال
لماذا لم يجد الوثائقي العربي موطئ قدم في صالات السينما العربية؟؟ هل لأن الوثائقي جنس سينمائي دون مستوى العمل الفني؟ هل الجمهور لا يعترف بالوثائقي إلا على شاشة التلفزيون ؟؟ ثم لماذا نطرح هذا السؤال أصلا، أمام قناعة ترسخت ترى الوثائقي نافلة من نوافل العمل الفني والإعلامي؟؟ وبالتالي وكأن التساؤل عن الموضوع أصبح بحد ذاته من نوافل السؤال النقدي وطرحه مجرد ترف في الكتابة.
الناقد الفلسطيني بشار ابراهيم : دائماً يبدو هذا السؤال واقفاً في الحلق. سؤال يخفي خلفه غابة من الأسئلة، التي تتفرّع عنه، والتي تتصل به في شكل جوهري: لماذا لا يجد الفيلم الوثائقي الطريق إلى صالات العرض الجماهيري؟.. لماذا لم نتآلف، في عالمنا العربي، بعد، مع ذلك؟.. كيف السبيل إلى حلّ هذه الإشكالية؟.. ما هي الصعوبات التي تحول دون ذلك؟.. وهل يمكن أن نصل إلى ذاك اليوم الذي نجد فيه صالات عرض جماهيري مُتخصّصة في عرض الأفلام الوثائقية، أو على الأقل تمنح حصة من أوقاتها له، وبالتالي نرى جمهوراً عربياً يترقّب الأفلام الوثائقية، ويذهب إلى الصالات بغية مشاهدتها؟..
لا تنتمي طائفة الأسئلة هذه إلى ترف نقدي، كما يمكن أن يظنّ البعض، ولا إلى مساجلات نخبة، أو رغبات صنّاع الأفلام الوثائقية، وعبث طارئ، كما يتوهّم آخرون!.. بل لعلنا لا نغالي إن قلنا إننا نراها أسئلةً تنطلق من حقائق وطيدة، وضرورات واقعية ملحّة، تستند أولاً، من الناحية الشكلية، إلى المُنجز الإبداعي الذي تحقّق للفيلم الوثائقي، وراكمه، وقد قطع الآن أشواطاً باهرة على صعيد الاستعانة بشتى الفنون السمعية البصرية، وما عاد محض تسجيل، أو تقرير، أو بيان وخطاب عن واقعة واقعية، أو شخصيات حقيقية، بل بات منها ما يمكن أن نقول عنه فيلماً سينمائياً أصيلاً، وإبداعاً خالصاً!.. فإذا كان من نافل القول إن الجمهور يذهب إلى صالات السينما ليحصّل نصيبه من المتعة، فإن قسطاً من الأفلام الوثائقية بات قادراً على توفير هذه المتعة السمعية البصرية، والتخلّص من الوهم القائل إن الفيلم الوثائقي سيكون بالضرورة متقشفاً، جافاً، غير ممتع، أو مثيراً للنفور!..
أما من الناحية المضمونية، فمن المؤكّد أن الأفلام الوثائقية، بحسب طبيعتها ولخصوصيتها، يمكن لها أن تكون أكثر اتصالاً مع هموم الجمهور وقضاياه وشؤونه، وأكثر قدرة على ملامسة آلامه وآماله وأحلامه وتطلّعاته.. يتعزّز هذا مع إدراك مشاهد اليوم للفارق العميق بين الفيلم الروائي والفيلم الوثائقي، ومدى اتصال كل منهما بالواقع، مع الانتباه إلى عناية وحرص غير فيلم روائي إلى الإشارة، منذ البداية، أنه مستند إلى «قصة حقيقية»، ربما طمعاً بالمزيد من اهتمام المشاهد، وهو ما ينبغي أن يتحقق دون حاجة لتلك الإشارة النافلة لدن الفيلم الوثائقي.
2 – تاريخ العلاقة بين الوثائقي والصالة عند الغرب
يرى الناقد المغربي مصطفى المسناوي أن علاقة الفيلم الوثائقي بالعرض في قاعات السينما ليست طارئة ولا غريبة كما نعتقد وإنما هي علاقة ضاربة في القدم. ففي المهرجانات العالمية الكبرى حظي الفيلم الوثائقي بمكانة متميزة وذلك منذ خمسينات القرن الماضي، حيث حصل فيلم “عالم الصمت” للفرنسيين جاك إيف كوستو ولوي مال على السعفة الذهبية من مهرجان كان عام 1956؛ أي بسنوات عديدة تسبق إعادة الاعتبار القوية لهذا النوع من الأفلام ابتداء من “باولينغ فور كولومباين” للأمريكي مايكل مور عام 2002 في مهرجانات عديدة عبر العالم؛ والتي انتهت إلى إدراج الفيلم الوثائقي جنبا إلى جنب في كل المسابقات العالمية تقريبا.
أما في القاعات السينمائية التجارية يلاحظ أن الموزعين الأوروبيين بادروا إلى إدراج الفيلم الوثائقي ضمن العروض التجارية ابتداء من مطلع تسعينات القرن الماضي بصفة منتظمة، حيث سجل في فرنسا، مثلا، إقبالا على الأفلام الوثائقية الجيدة يضاهي الإقبال على الأفلام الروائية المماثلة. بما يعني أن هذا النوع من الأفلام مربح تجاريا بدوره ويقدم تنويعا في العرض مطلوبا لدى المشاهد الغربي. علما أن هذا يحصل في وقت صارت المادة الوثائقية فيه متاحة أمام الجمهور أكثر من ذي قبل، عن طريق القنوات التلفزيونية الوثائقية التي تستقبل في معظم البيوت الغربية.
3- ماذا عن العرب ؟؟
مصر مثلا …
مصر هي القطب السينمائي الأضخم كما وكيفا عربيا بل وتحتل السينما المصرية مكانة عالمية مرموقة من حيث السبق التاريخي وأيضا كثافة الإنتاج فهل كان للوثائقي نصيب في قاعاتها؟
يجيبنا الناقد والأكاديمي هاشم النحاس إجابة الخبير في تاريخ السينما المصرية والعليم بكل تعرجاتها يقول بنبرة فيها كثر من الأسف والأمل في آن:
يظلّ حلم وجود دار عرض خاصة للفيلم التسجيلي، حلمًا يراود جيلنا من التسجيليين، منذ الستينيات. فقد كانت الأفلام التسجيلية تعرض اعتباطًا ودون ترتيب منتظم في دوُر العرض كلما ظهر منها ما يصلح للعرض في برنامج السينما فيما يسبق عرض الفيلم الروائي. وهكذا شاهدنا بعض الأفلام الهامة في مصلحة الفنون أيام يحيى حقي مثل فيلم “القُلة” لتوفيق صالح. وأفلام أخرى عن الفنون التشكيلية.
وقد حرصت الدولة في عهد ثورة 1952 على مد دوُر العرض بأعداد منتظمة من جريدة مصر الناطقة، التي أصبحت جريدة الجمهورية العربية المتحدة فيما بعد، للعرض اسبوعيًا في دوُر السينما قبل البرنامج الرئيسي للفيلم الروائي. ومع إنشاء المركز القومي للأفلام التسجيلية والقصيرة 1967 وضعت خطة لم يستمر تنفيذها طويلا لعرض أفلام المركز أولا بأول، في دوُر العرض العامة مع عروضه للأفلام الروائية.
ومع زحف الشرائح والشرائط الفيلمية الدعائية على دوُر العرض حلّت تدريجيًا محل الأفلام التسجيلية حتى لم يعد وجودًا لهذه الأفلام في دوُر العرض العامة، وإن وجدت لها منفذًا خاصة في التلفزيون، ومع الوقت ظهرت بعض البرامج التليفزيونية الخاصة بالفيلم التسجيلي بشكل دوُري منتظم، ومن أشهرها “سينما في علب”، والآن لم يعد لهذه البرامج وجودًا، كما لم يعد للفيلم التسجيلي وجودًا على شاشات القنوات التليفزيونية المصرية إلا فيما ندُر.
المغرب .. مثال ليس أحسن حالا
يقول المسناوي حين كنا صغارا أذكر أن إحدى قاعات السينما الراقية (وتوجد في وسط المدينة الجديدة بالدار البيضاء) كانت تعرض مرة في الأسبوع، وباللغة الفرنسية، فيلما وثائقيا تحت خانة اختير لها كعنوان “اكتشاف العالم”. كان العرض يعرف إقبالا لا نظير له من المتعلمين والطبقة المثقفة إلى حد أنه كان من الضروري أحيانا حجز التذكرة قبل العرض بفترة لضمان الحصول على مقعد. هذه الأفلام الوثائقية كانت تعرض خارج مواعيد العرض العادية، وغالبا في نهاية الأسبوع. وتنقل مشاهديها، عموما، لزيارة بلد من البلدان البعيدة النائية والتعرف على ثقافته وعاداته وتقاليده خلال فترة لا تقل عن تسعين دقيقة.
ولكن مواطن المسناوي الناقد أحمد بوغابة يعبر عن مرارة الناقد تجاه تجاهل السينمات المغربية والمغاربية والعربية للفيلم الوثائقي رغم وصول الكثير من الوثائقيات إلى منصات التتويج المحلية والعربية والعالمية. يقول بوغابة : إن الفيلم الوثائقي هو الإبن الضال في السينما حيث لا يجد من يأويه في القاعات السينمائية. وهو الجنس السينمائي الذي تعرض أكثر من غيره للإقصاء، وتكونت حوله أراء ومواقف مُسبقة بحكم سلبي فتم رفضه وبالتالي لم يجد علاقة سليمة مع الجمهور إذ وضعوا بينهما سدا منيعا. ويتضاعف ذلك أكثر في الأقطار النامية كالمغرب الذي كان فيه الفيلم الوثائقي منعدما بتاتا وكأنه مرض معدي باستثناء تجارب قليلة تُعد على رؤوس أصابع اليد الواحدة، وهي اجتهادات فردية غير خاضعة لسيطرة السلطة القائمة، وتم إنجازها في النضال ضدها. نذكر منها فيلم التحفة “الذاكرة 14” لأحمد البوعناني حول تاريخ المغرب. فقد كان هذا الفيلم طويلا ثم تعرض لمقص الرقابة حيث فرضت حينها إدارة المركز السينمائي المغربي على مخرجه بإعادة تركيبه أكثر من مرة فتقلصت مدته إلى أن أصبح فيلما قصيرا.
إلى الأمس القريب جدا. لم يكن المسؤولون على السينما في المغرب يعتبرون الفيلم الوثائقي ذي قيمة أو جزء من السينما وكأن السينما هي الفيلم الروائي فقط. أساءت هذه العقلية للسينما في المغرب لسنوات طويلة، سواء من لدن المسؤولين على السينما إداريا أو من طرف الموزعين وأصحاب القاعات.
ويضيف بوغابة : يستحيل وجود فيلم وثائقي يُعرض في القاعات السينمائية المغربية وحتى المغاربية بشكل طبيعي وفي جميع الأوقات وطيلة الأسابيع وعلى امتداد السنة كما هو الفيلم الروائي. سواء كان الفيلم يتعمق في “الدمقراطية المغربية” !!! من إنتاج مغربي محض أو عن البغاء في الأقطار العربية من إنتاج أجنبي. هذا مازال ضربا من الخيال وإلى أمد طويل. ونؤكد على هذا بخط عريض لكون الواقع هو الذي يقنعنا به. فرغم أن بعض الأفلام الوثائقية المغربية حازت على جوائز من مهرجانات عالمية ،ومن المهرجان الوطني نفسه، وتم التنويه بها في نصوص نقدية لأقلام غربية محايدة ولها قيمتها المعرفية في العالم، ورغم ذلك لم تُوزع إطلاقا نذكر منها على سبيل المثال أفلام “أماكننا الممنوعة” لليلى الكيلاني، و”أرضي” لنبيل عيوش و”أشلاء” لحكيم بلعباس. بل حتى فيلم “في بيت أبي” لجميلة الوزاني الحاصل على الجائزة الكبرى الأولى في المهرجان الوطني سنة 1998 لم ير النور في القاعات المغربية إلا في عرضه الوحيد بالمهرجان المذكور. ولا بأس من الإشارة أيضا إلى فيلم “الحال” لأحمد المعنوني حول مجموعة ناس الغيوان الذي لم يحظ بالتوزيع الذي يستحقه علما أن المجموعة تجمع حولها آلاف الشباب في حفلاتها. وتوجد أفلام وثائقية أخرى جميلة من إنجاز المخرجة دليلة النادر والمخرج الشاب علي الصافي اللذين لا يعرفهما المغاربة.

4 – أزمة هيكلية …
المال.. قوام الصالات..
العارض … يقول أزمة التوزيع..
يجمع النقاد والمتابعون للشأن السينمائي العربي أن جميع الأطراف العاملة في الحقل السينمائي تتحمل مسؤوليتها في التقصير في نشر ثقافة الوثائقي في العالم العربي. وعندما يتم تناول الإشكال فأول إجابة هي المسألة التجارية حيث يرى جل القائمين على صالات السينما أنهم لا يستطيعون المغامرة بعرض افلام وثائقية لا تدر عليهم مرابيح فتضر بمؤسساتهم التجارية.
يقول الأستاذ محسن المقدم مدير شركة قطر للسينما وتوزيع الأفلام وهو كاتب سيناريو ومشتغل بالسينما أيضا، إن الإيراد المادي هو المحدد الأساسي لعرض أي فيلم في قاعات السينما سواء كان وثائقيا أو روائيا ومشكلة الوثائقي في العالم العربي أكثر تعقيدا.
ويعتبر المقدم أن المسؤولية الأكبر ليست لدور العرض بقدر ما هي لشركات التوزيع التي لا تبذل أي مجهود لإدراج الفيلم الوثائقي ضمن برامجها الأسبوعية والشهرية للصالات. لأن شركات التوزيع هي المتحكمة أكثر من غيرها في سوق العرض السينمائي. ولكن هذا لا يعفي دور العرض أيضا التي لم تحاول التضحية بالقليل من مرابيحها لتعطي فرضة للوثائقي كي ينتشر. وهناك طرف محوري في تحمل مسؤولية غياب الوثائقي من الصالات وهي الدولة. حيث يعتبر محسن المقدم أن الدولة يجب أن تتحمل مسؤوليتها في دعم الوثائقي مما يتطلب إدراج هذا النوع السينمائي ضمن استراتيجيتها في دعم السينما صناعة وترويجا مثلما يحدث في الغرب.
ويذكر المقدم أنه زار ابنه في كندا فاستدعاه لمشاهدة فيلم في السينما فكان الفيلم وثائقيا وكانت الصالة مكتظة بالجمهور. ولم يلاحظ أي استغراب من الجمهور من عرض فيلم وثائقي في الصالة لأن المسالة محسومة عندهم منذ زمن طويل. فخرج الجمهور مستمتعا من الفيلم وخرجت الصالة بمرابيحها وانتصر الوثائقي.
الموزع.. له رأي آخر..
صاحب ينقد الموزع ويعتبر له مسؤولية ليست بالهينة في التعريف بالوثائقي. ولكن بعض الموزعين يعتبرون أنهم معذورون في هذا الأمر وأن المسألة تتجاوزهم ليلقون الحمل على صاحب الصالة لأنه في النهاية يمكن أن يرفض منتجواتهم التي يقومون بتوزيعها أو يقترحون منتجا مخصوصا. وغالبية أصحاب الصالات لم تراودهم فكرة اقتراح الفيلم الوثائقي ليفوره الموزع.
ولكن موزعة الأفلام والمخرجة المغربية غيمان مصباحي تعتبر أن جل الموزعين غير معنيين بالوثائقي. وأن مسألة العرض والطلب لها دور في الموضوع. لأن الموزع يقوم بترويج وبيع المادة السينمائية التي تلقى رواجا. من هنا تعتبر المصباحي أن ثقافة الوثائقي لم تصل إلى الجمهور العربي بعد، وأن أصحاب الصالات لم يحاولوا ولو لمرة واحدة الاهتمام بالوثائقي وتقديمه لجمهورهم.
واستنادا إلى تجربتها في توزيع الأفلام في المغرب تعتبر إيمان المصباحي أن ثقافة الموزع ومدى ارتباطه بالسينما تصنع الفرق بين موزع وآخر. فهي على سبيل المثال تعتبر أن وظيفتها ليست فقط وظيفة تجارية بل تعتبر نفسها صاحبة رسالة ثقافية مهمتها الارتقاء الذوق العام عبر اختيار الأفلام الهامة. وكانت لها تجربة صعية ولكنها ناجحة في ترويج الفيلم العربي وخاصة المصري في المغرب في أواسط التسعينات حينما كانت الصالات المغربية لا تعترف تقريبا إلا بالأفلام الغربي وخاصة الأمريكية أو الأفلام المغربية. فاعتبرت أن رسالتها في ذلك الوقت هو نشر الفيلم العربي فجابهت اللوبي التجاري الأمريكي وبصعوبة بالغة. ولكنها بعد عدة سنوات اعتبرت نفسها انتصرت لأن الفيلم العربي صار رقما في السينمات المغربية.
وبناء على تلك التجربة تخوض المصباحي اليوم تجربة ترويج فيلم وثائقي مغربي تحصل على جائزة بالمهرجان الوطني بطنجة. وهي تلقى نفس الصعوبة مرة أخرى ولكنها لم تياس وقد حصلت إلى حد الآن على موافقة صالتي عرض كبيرتين في الدار البيضاء فيما ترددت بقية الصالات في الموافقة.
نموذج إيمان المصباحي لا يتوفر كثيرا في الساحة السينمائية العربة فقليلا ما نعثر على موزع يعشق السينما ويقدم رسالته على الربح المادي. وهو عشق يجعل من مبدأ المغامرة ممكنا رغم الصعوبات. ولكن سيكون من المجحف أن نحمل صاحب قاعة العرض أو الموزع لوحدهما غياب الوثائقي من الصالات. لأن الأمر يعود أسباب أخرى أكثر اتساعا وهي معضلة الثقافة نفسها.

الصورة النمطية
أضحى من المتفق عليه لدى النقاد أن الوثائقي في العالم العربي كان ولا يزال ضحية صورة نمطية جعلت من ثقافة مشاهدة الفيلم الوثائقي كما يقول أحمد بوغابة “هو أن مكان عرض الفيلم الوثائقي هو التلفزيون وطبعا في ساعة متأخرة من الليل لمن لم يسعفه النوم أو في الصباح الباكر لملء فراغ شبكة البرامج ليس إلا. وهذه البرمجة في حد ذاتها هي جزء من النظرة الاحتقارية تُجاه هذا النوع”. ويمكن أن نوجز عناصر هذه الصورة النمطية التي ساهمت ثقافيا في طرد الوثائقي من الصالة في النقاط التالية :
الصالة للترفيه الوثائقي للتعليم : يقول أمير العمري الناقد والمدير السابق لمهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية من الطبيعي ألا ترحّب دور العرض السينمائي العامة المفتوحة للجمهور في العالم العربي بعرض الأفلام الوثائقية. ويعود هذا الموقف إلى الأسباب التالية: أولا: أن الفيلم الوثائقي لا يوجد به عادة نجوم السينما الذين يحبهم الجمهور وفي معظم الأحيان، يكون الذهاب لمشاهدة الفيلم من أجل مشاهدة النجم بشكل أساسي. ثانيا: ارتباط الفيلم الوثائقي بالجانب التعليمي، أي أن الكثير من الأفلام الوثائقية تميل إلى الشرح والعرض والتحليل فيما يتعلق بقضية من القضايا الاجتماعية أو السياسية التي تتطلب وجود درجة معينة من الوعي لدى الجمهور وبالتالي ينحصر الاهتمام بالفيلم الوثائقي في شريحة اجتماعية معينة من الجمهور. ثالثا: غياب جانب التسلية في الفيلم الوثائقي التقليدي أي الجانب المتعلق بالترفيه من خلال الإضحاك مثلا، أو السخرية، أو التعليق المجازي على الأحداث..
ويشاطره الناقد محمد رضا بالقول إن السبب في ذلك هو النشأة الترفيهية التي اكتسبتها السينما منذ بداياتها والتوزيع غير الرسمي للعروض بحيث بات شائعاً قيام التلفزيون ببث ما كانت تبثّـه السينما من أخبار مصوّرة وريبورتاجات ومواد غير روائية قبيل العرض وذلك في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي. بذلك أصبح، وإلى حين قريب، من المتعارف والمتفاهم عليه أن وجهة الفيلم التسجيلي ليست صالات السينما بل محطات التلفزيون المعنية. ليس فقط أن ذلك ساعد في ترسيخ هذا المفهوم بل هو أيضاً حدّ من طموحات صانعي الأفلام التسجيلية (منتجين ومخرجين) وحرم الفيلم التسجيلي من حقّـه في العروض السينمائية الواسعة.
وإذا ما خرجنا من ساحة النقد إلى ساحة المخرجين فسنجد إجابة تتماس معه النقاد ولكنها تذهب إلى مواطن اخرى. فالمخرج الفلسطيني نصري حجاج يجمل الأسباب في النقاط التالية :
1- ثقافية ومرد ذلك أن الثقافة العربية عموماً هي ثقافة “حكواتية” تميل إلى الدراما من ألف ليلة وليلة إلى ظاهرة “الحكواتي” في المقاهي والساحات في القرى. وليس هناك ميلٌ إلى التحليل والبحث والدراسة، وعلى الرغم من أن في مصر الخمسينيات والستينيات على سبيل المثال كانت تعرض في الصالات قبل عروض الأفلام الروائية “الجريدة العربية” التي كانت تقدم تقارير أخبارية عن نشاطات الدولة والرئس ناصر التي يمكن اعتبارها بشكل أو بآخر أفلاماً وثائقية إلا أنه بسبب انتشار التلفزيون في البيوت، وبالتالي الإحساس أننا أمام تقارير رسمية ساهم في اختفاء هذه الظاهرة من صالات السينما.
2- إن المشكلة الثقافية تستولد معها بقية المشاكل حيث إن موزعي الأفلام وأصحاب الصالات بمجملهم هم مجوعة من التجار الذين لا يعطون أهمية للثقافة أساساً ولا يهمهم سوى الربح، وبالتالي فإن “الوقت هو فلوس” كما يقولون فهم غير مستعدين لاستثمار الوقت في تأجير الأفلام والصالات لعرض أفلام لا تلقى رواجاً تجارياً.
3- قلة أو ندرة وجود صالات لنوادي السينما المتخصصة في العالم العربي كما هو موجود في الدول الغربية التي يوجد فيها آلاف من صالات السينماتيك التي تعرض فيها افلام وثائقية والأفلام الروائية المميزة.
4- وجود أنظمة سياسية حاكمة مستبدة في العالم العربي لا تشجع الفيلم الوثائقي الذي هو في جوهره انعكاس للحقيقة والواقع ويثير الأسئلة ويضع الإصبع على الجرح كما يقال وحتى لو لم يقصد صانعو هذه الأفلام. فإن الفيلم الوثائقي قد يثير النقد ويكشف الأخطاء والمشاكل التي يعاني منها المجتمع كالفساد والقهر والقمع …الخ. ما يجعل هذه الأنظمة المستبدة حريصة على أن لا يشاهد قطاع واسع من الجمهور هذه الأفلام حتى ولو سمحت بصناعة الفيلم فإنها تتركه أسيراً في المهرجانات أمام جمهور محدود العدد, فهي أنظمة لا يتسع صدرها لأي نقد أو كشف مكامن المعضلات التي بعاني منها المجتمع.
![]() |