“أبي يشبه عبد الناصر” لفرح قاسم

تسجيلي يعيدنا إلى ذواتنا في “أيام بيروت”
درويش درويش – بيروت

يجافيه النومُ العنيد، ذلك الطاعن في السن، غير العابئ بشيء، والعابئ بكل شيء معاً، كما يقول، يختزن الكثيرَ في ذاكرته ومخيلته في بيتٍ طرابلسي ساكن إلا من جلبته المرحة. نتعرف إليه بين جدرانه العابقة بضغط الذكرى والأحداث.. هو مصطفى. والد “فرح قاسم” مخرجة فيلم “أبي يشبه عبد الناصر”.

تلتقط له كاميرا “فرح” تفاصيل دقيقة تعرفها جيداً. ليس فقط لكونه والدها ولأنها تعرفه. بل أيضاً لأن هناك ما يعتمل في نفسها، سراً خفياً، سيجذبها ويفضي بها إلى إنجاز هذه التجربة السينمائية.
غالباً ما لا تتطابق الصورة المتحركة في هذا الفيلم مع “شريط” الصوت المرافق. عملت فرح على تحديد هذا “الفصل” ونحته ليقول وليوصل المعنى، ما يصعب على وسيلة أخرى قوله وإيصاله: إذ يخدعنا ويأخذنا عنوان الفيلم بدايةً، ثم الرصد “المباشر” للشخصية الآسرة، لمصطفى السبعيني، الممتلئ حيويةً، وقلقاً. كما “تخدعنا” لقطات “فرح” القريبة لوالدها، لوجهه، أثناء نومه، ويقظته، شعره الشائب المقصوص المتناثر على كتفيه، عند الحلاق، من كان يسرد بين يديه رغبة ابنته في تزويجه مرة أخرى. نتماهى مراراً لتقطع المخرجة هذا التماهي على الدوام، وبجرعات متزايدة قدماً مع التدفق الزمني للفيلم، بالفصل المتعمد بين الصوت والصورة، وفي لحظات تبدو أحياناً صادمة ومفاجئة، وهي جريئة بلا شك. أهم تلك اللحظات تغييب الصوت المباشر لإنشاد مصطفى لأبيات شعره المقفى، بينما كان مستعداً لذلك ومستلهماً من الكتاب المفتوح بين يديه. كأنما لتقول أن القضية في مكان آخر.

هكذا تمهّدُ فرح للولوج أعمقَ، في ملاحقتها وتلمسها لدواخلها، بجرأة المستكشف. بأن تبدأ “بالتسلل” إلى “الفيلم” بعبارات تنطقها من وراء الكاميرا، تبدو غير مرتبطة “بموضوعه”، كاتصالها الهاتفي مع صديقتها “أنجي” بينما الكاميرا ترصد الأب بين جدران منزله الحميمة، أو تبدو مرتبطة بالموضوع؛ كأن تخبر والدها بأنه يشبه عبد الناصر. ثم بجدالها المتصاعد معه، لتتخلى رويداً رويداً عن دور المخرجة فقط، وليزداد –في المقابل- حضورها كشخصيةٍ وموضوعٍ معاً، بادئةً بالحضور الصوتي، المتعاظم وجوده مع تقدم الجدال المذكور، ووصوله إلى مرحلة  “صدامية” عندما تسأله عن أي الأشخاص يتمنى لقاءه أولاً في العالم الآخر فيجيب أنها والدته فترد “لا تكذب عليّ” ليرد عليها بغضب “الوالد” اللائم. يجري ذلك عبر رحلة يُذكر فيها العالمُ الآخر وما يتوقعه مصطفى “هناك” بعد رحيله، في فضاء من إضاءة خاصة، وحضور كثيف لجوّ بين النوم واليقظة، يَفرض بذاته مناخ الحلم الضاغط على صاحبه وعلى من “يتابعه” بلقطات قريبة أيضاً وبفضاءات ضيقة تحدها وتحددها جدران “منزل العائلة”.

حتى ننتقل أو “ننزاح” إلى “برزخ” آخر، مرحلةٍ أخرى ندرك عندها أن شخصية الأب ليست فقط ما يريد الفيلم تناوله، هذه المرة بحضور شخصية فرح “بالصوت والصورة” أمام الكاميرا، عندما تصورها يد الخادمة العجوز، وتسألها عن أمها وهل تفكر بها، ولا نسمع إلا الصمت من فرح. عند هذا الانزياح الكبير والسلس معاً، وفي هذه اللحظة بالذات، تصبح فرح شخصية محورية، ووسيط سينقلنا من شخصية الأب إلى شخصية الأم التي ستحتل كـ “حاضرة غائبة” مساحة كبيرة من بقية الفيلم، صلة الوصل بينهما، وليكون لهذا الحضور “حضور فرح” بعداً دلالياً واسعاً، كنقطة واصلة وفاصلة بين الحياة والموت، وكذاتٍ مفكرة تحاول فكفكة الذاكرة والمعنى.

فرح قاسم

لا يدع الفيلم لنا بعد ذلك، ولا تسمح فرح لنا بالشرود أو بالتراخي، وتستمر في شدّنا إلى منطقة مجهولة، تزيد من إثارة القلق لدينا، و التوغل في توريطنا، وتقريبنا من البؤرة. نحن المشاهدين، من تَسَرَّبَ إليهم شعورٌ خفيٌ، بإمكانية “انتقالنا” أيضاً أمام كاميرا لنصبح الموضوع والهدف في آن؛ وهو شعور لابد ناتجٌ هنا عن أمرين، الأول هوَ اللعبة التقنية المشار إليها آنفاً، انتقال المخرجة/المصورة، من وراء الكاميرا إلى أمامها. والثاني هو قدرة الفيلم/السرد الفيلمي، المتزايدة على الانفلات من “الشخصي” دون التخلي عنه، وصولاً إلى طرح التساؤلات الوجودية الأعم: لقد دفعتنا فرح مجدداً إلى عتبة جديدة، بتجسيد شخصية أمها الراحلة بالكلام المنطوق أولاً، واصفةً الذكرى المؤلمة لرحيلها بتفاصيلها عندما كانت فرح في الثامنة عشرة، متحدثة عن نفسها، وعن والدتها التي أبى جثمانها الخروج من باب الغرفة لتشييعها، إلا بعد محاولات عدة، ذلك الباب الذي لطالما كانت الأم وهي على قيد الحياة تخطر عبره، مهيئةً نفسها ومتأنقة للخروج في نزهة ما، مع صوت طقطقة الحذاء الجميل على البلاط. ثم تنهي فرح هذا التجسيد بمشاهد قديمة مصورة، تظهر فيها امرأة تشبهها، جميلة ومترعةً بالحياة والمرح. تلك المرأة التي لا يزال زوجها يرثيها شعراً حتى اليوم.
“أبي يشبه عبد الناصر” لفرح قاسم، فيلمٌ رغم إيغاله في الذاتية، إلا أنه استطاع مطاولة أحاسيسنا العميقة، وهزها من الداخل، بخبرة العارف، بلغةٍ سينمائية متماسكة.


إعلان