يوميات سائق سيارة اسعاف” : كثافة المادة الوثائقية
عزف على ماض قريب ، مراجعة لصفحات ماضية ولكن أي ماض هو ؟ وأي زمن وأية شخصيات؟ شخصيات تتشابه في ما عاشته وكلها تتعامل مع واقع صار اسمه ماض تولى، هو صورة يوغسلافيا السابقة قبل ان تدور الدوائر وتتشظى أعراقا واثنيات بعد صراع طائفي وعرقي وحرب أهلية (1992-1995) ما بين البوسنة والهرسك وجمهورية الصرب والجبل الأسود وكرواتيا وتداخل دولي تمثل في قصف الناتو مطلع التسعينيات وحيث شهد العالم افضع المجازر وحيث بلغ عدد ضحايا هذه الحرب قرابة 200 الف قتيل واكثر من مليون مشرد واغتصاب اكثر من 30 الف امرأة .هذا المشهد الكابوسي المرير هو الذي ينطلق منه هذا الفيلم .
مختصر القصة
يبدأ الفيلم بلقطات وثائقية لعمل سيارات الإسعاف في الخمسينيات من القرن الماضي وطرق تسلم الطلبات والنداءات للإنقاذ من الحوادث، صور وثائقية أرشيفية ليوغسلافيا –بلغراد السابقة في تلك الحقبة ثم لننتقل الى بلغراد وكيف تطورت الحياة فيها ولنصل الى يوغسلافيا (سابقا) بعد حملات حلف النيتو والصراع العسكري العرقي في مطلع التسعينيات الذي انتهى بانهيار الاتحاد اليوغسلافي.
صربيا وهي تلعق جراحات الحرب وبلغراد وهي تخرج متهالكة من الصراعات هي الخلفية التي تقع فيها الأحداث.
في كل يوم هنالك مظاهرات وتحت ظل نزعات قومية شوفينية لدى قادة الصرب التي وصلت الى مستوى الفاشية بارتكابهم جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية ضد مسلمي البوسنة ، تحت سمع العالم وسمع حلف الناتو وبصره.. التظاهرات والصدامات مع الشرطة وحرق الممتلكات كل ذلك يخلف وراءه إحساسا بالإحباط والعجز والكآبة تدفع كثير من الناس الى ردود أفعال شتى وذلك ما يدفع رجلا خدم في الجيش عندما كانت مهمة الجيش والشرطة هي الدفاع عن الوطن وليست أداة من أدوات القمع وإذكاء الصراعات العرقية ولهذا يقرر الانتحار ..ولكن كيف ؟
هو لا يملك الشجاعة لإطلاق رصاصة الرحمة على رأسه يذهب الى المقابر حيث يشاهد تأبين أحد قادة الجيش وكيف يحتفى به بينما هو مهمل ومنسي وخلال التظاهرات ضد الحكومة والتي تطال الصيدليات يجمع هو كميات هائلة من علب الدواء لكي يبتلع شيئا منها خلال إقدامه على الانتحار، مشهد سريالي عندما تدخل عليه الفتاة المعاقة التي تستخدم كرسيا متحركا عندما تنظر إليه وهو ينظر إليها ليفتح خزانة مليئة بالأدوية فتتكوم عليه علب الدواء وهو يلفظ أنفاسه لكنه قبل ذلك يتصل بالإسعاف ويسألهم كم حبة دواء علي أن أبتلع لكي اموت فيجيبه الموظف : عليك ابتلاع علبة كاملة. فيرد عليه ولكنني ابتلعت علبة كاملة و لم أمت فيجيبه : اذن عليك ان تستشير طبيبك …
لا يبقى من العجوز العسكري المتقاعد الا مسدسه الذي يأخذه حفيده بينما ابنة الرجل العجوز تناشد إخوتها لحضور الدفن لكن لا أحد يأتي وليس سواها وسوى ابنها، كل ذلك يجري من وجهة نظر فيرا(فينسا تريفاليج) الطبيبة في الإسعاف التي تشهد كل شيء والتي ستشهد أيضا اللحظات قبل أقدام الأم على الانتحار .

كابوس الحرب، كابوس الخراب
في المقابل تمضي الإضرابات وصراعات السياسيين متصاعدة لتذهب فيرا مستجيبة لنداء عاجل من اجل انقاذ رجل اقدم على الأنتحار وهو الأمر الذي يتكرر من يوميات سايارة الأسعاف وطاقمها ، لكنها والى ان تصل الى المكان يكون الرجل قد قضى منتحرا فتجده معلقا قرب احد المباني ليشاهده صبي في حوالي العاشرة نعرف فيما بعد انه يبكي في كل يوم فقدانه لوالديه في الحرب وهو يثير شفقة سائق سيارة الأسعاف وفيرا نفسها ..مشهد مؤلم ومأساوي هو ذلك الذي يعبر فيه الصبي عن وحدته والمه حتى ان دموعه لاتتوقف فيأخذه سائق سيارة الأسعاف للعلاج لآيقاف تدفق الدموع !!!.
الحياة الأنسانية الطبيعية اذ تمضي الا سرعان ماتتجمد وتتوقف..فسائق سيارة الأسعاف ينظم الى برنامج للمعالجة النفسية والأجتماعية لطلاب المدارس تنظمه احدى الجمعيات الأوربية وخلال القيام ببعض الألعاب يقوم سائق سيارة الأسعاف السابق بالتصوير بالفيديو ومن ضمن برنامج اللعبة التي يقوم بها الأولاد هي السرعة في خلع الملابس وارتداء الملابس الرياضية لكن ذلك الصبي الذي فقد جده ومازال يحتفظ بمسدسه وخلال خلع الملابس يسقط المسدس المدسوس تحت ملابسه وتتوقف الكاميرا ويتوقف سائق سيارة الأسعاف مشدوها ، وهو الذي اراد في انضمامه لهذا البرنامج التخلص من كابوس القتل والرعب ، ثم يقوم بمشاركة الأولاد لعبهم وفجأة يتسلل ذلك الصبي الى غرفة مكبرات الصوت ليوقف الموسيقى الصاخبة ويبث من تلفونه المحمول تسجيلا لتضرعات صديقه الذي يبكي والديه وصلاته اليومية قبل ان ينام من اجل ان يراهما . صدمة اخرى لسائق سيارة الأسعاف تعيده الى قلب المأساة وهو يتأمل وجه الفتى البريء مغسولة بدموع انتظار والديه .
صربيا التي تقترب من تخوم اوربا من جهة اهتمام اوربا بها ومساعدة سكانها يصل اثرها الى سيارة الأسعاف التي يجري دعمها بشبكة الأنترنيت لم تعتد عليها تلك الطبيبة وهي التي امضت كل سنوات الحرب منهمكة بالأستجابة للحالات الطارئة وهي ترافق سيارات الأسعاف لأنقاذ الناس .خلال ذلك تتوثق علاقتها بجارتها الشابة المقعدة (ندى)- الممثلة سونيا كولاكاريج- التي تمضي اغلب وقتها في تصفح الأنترنيت للتعرف على الحالات المشابهة لمرضها . لكنها تخبر فيرا وهما تتطلعان الى السماء المرصعة بالنجوم عبر التلسكوب ان من المعجزات التي يجري الحديث عنها اليوم هي ان دموع طفل فقد والديه قابلة لعلاج حالات مرضية عديدة وتريها الصحيفة التي نشرت صورة الفتى ومنها معالجة الشلل الذي تعانيه ندى .
عزف متواصل على المأساة والألم والجراحات وحيث شيئان لايهدآن في صربيا : هما : اصوات سيارات الأسعاف التي تسارع لنقل جثث المنتحرين والمصابين او الموشكين على الأنتحار او ضحايا العنف العرقي والجرحى من جراء المصادمات مع الشرط والثاني هو صوت التظاهرات وخطابات الساسة .
تراجيديا مروعة تم نحتها ببراعة وهي تفيض بالصور الوثائقية عن التظاهرات والأحداث السياسية التي تم ادماجها بذلك البناء الدرامي الملفت الذي صنعه هذا المخرج البارع وفريقه .
البناء الفيلمي والشكل الوثائقي
مما لا شك فيه ان الخلفية الوثائقية التي اعتمدها المخرج قد بدت واضحة جلية في هذا الفيلم بمعنى تكريس مساحة كبيرة من منجزه للسينما الوثائقية على اعتبار ان فيلم سيارة اسعاف هو فيلمه الروائي الأول، فقد وظف الوثائق الفيلمية التي تظهر الحياة في يوغسلافيا السابقة وخاصة العاصمة بلغراد على نحو أسس أرضية مناسبة لشخصيات الفيلم وفي واقع الأمر إن الفيلم اقترب الى حد كبير من فكرة (يوميات سائق سيارة الأسعاف) وهي يوميات متداولة للذين يعملون في الحقل الأنساني في اثناء الأزمات وخاصة في اثناء الحروب . لكنه وبالرغم من ثقل المادة الوثائقية المنتقاة بعناية ، الا انه مرر أفعال شخصياته وجعلها تعيش (في حال الطوارئ) لأسباب شتى تفترق وتتعدد ولكنها تجتمع عند مجتمع مأزوم عصفت به الحروب وخلفت جراحات غائرة ، فشخصياته تتنفس حياة الممكن وتتحرك في فضاء المحدود ولاتمتلك ذلك الأفق وتلك الحرية التي تحتاجها لكي تحلق وتنطلق، فمثلا فيرا هي مثال حي للشخصية التي نذرت نفسها وحياتها لأنقاذ حياة الآخرين غير مبالية بأي شيء آخر كما انها تسكت أي طموحات شخصية او دوافع او حاجات تتعلق بها كأنثى، وكل همها هو ان تكون هناك في اللحظة الحرجة لأنقاذ شخص ما لاتعرفه لكنها ستبكي دون ان تظهر دموعا، هي تبكي لسبب انساني لااكثر وتلك هي ميزة المعالجة الفيلمية ، هي تنقذ انسانية معذبة ويقع في المقدمة ذلك الصبي الباكي بوجهه البريء الذي يحكي كل فصول المأساة دون ان يقول كثيرا من الكلام .

النسيج الأجتماعي ودائرة الأزمة
هي دائرة الأزمة التي تدور في فضائها وفلكها الشخصيات ، لكنها وان كانت تشتمل وضعا اجتماعيا كاملا بمعنى جنوح الفيلم الى التعميم إلا أن السؤال هو : هل استطاعت الشخصيات أن تغطي مساحة اجتماعية كافية وأن تعبر عن واقع اجتماعي هو هذا الذي تتردد في فضاءاته صرخات الحرب وما بعد الحرب والانتقام العرقي والطائفي ؟ في واقع الأمر ان بضعة شخصيات ممثلة بالطبيبة فيرا وبزميلها سائق سيارة الأسعاف والفتاة المعاقة (ندى) والكهل وابنته يشكلون نسيجا اجتماعيا واسعا واستطاع كاتب السيناريو وتاليا المخرج ان يوجد جسورا انسانية بين هؤلاء ليعكس كلا منهم جانبا من جوانب الأزمة ، فهم في حياتهم شبه المقفرة شهود على واقع لا يملك الثبات، تعبر عنه حشود المتظاهرين وخطابات الساسة المتوترين، وتبدو بلغراد في الخلفية بعماراتها ومساكنها الشعبية صامتة واجمة وكالحة والشخصيات تحرص على ان تظهر في الأماكن التي تمنح المشاهد مثل هذا الأنطباع حتى اذا ماانتقلنا الى الأماكن الداخلية فلن نجد ماهو مدهش ، هنالك غرف كبيرة شبه خاوية والأثاث فيها قليل ولايعبر عن الشخصيات ، ولايكشف عنها ، فكأنها شخصيات معومة وهائمة على وجهها لاتجد وقتا لتترك بصمة على المكان فتنظمه وتمنحه شيئا منها ، مما تفضل ان تراه من حولها ، فالشخصيات في حالة حراك متواصل : مجموعة سيارةالأسعاف : فيرا وصديقها في حالة طوارئ وحركة دائمة لأنقاذ الناس، الرجل الكهل يتنقل في مدينة شبه مهجورة لم يعد ينتمي اليها ولاتنتمي اليه ، مدينة حزينة وكئيبة لايشده اليها شيء ولم يبق منها ذكريات تستحق التوقف عندها .
لعلها دراما هائلة وانسانية وعميقة الجذور تلك التي جسدها هذا الفيلم المحمل بالكثير من الدلالات والذي تتجلى فيه مهارة مشهودة في عدم السقوط في مطب المباشرة وتجاوز عقدة المادة الوثائقية اذ كانت فيرا وندى والآخرين محطات لاتملك الا ان تتأمل ادائها وتعجب بعفويتها وتعجب بحسها الأنساني المجرد الذي يدفع كل انسان يدرك ويعبر عن معنى الأنسانية ان يشارك فيما يرى ويتفاعل مع الشخصيات ويتعاطف مع ماجرى في تلك البلاد من سقوط ضحايا وسقوط قيم في آن معا .
مخرج جوران رادوفانوفج
من مواليد بلغراد 1957 ، درس الفلسفة في جامعة بلغراد ثم اكمل دراسته في المانيا بمنحة من معهد جوته ليعود بعدها الى بلغراد ليشتغل في حقل كتابة السينارية واخراج الأفلام ، وفي التدريس في مدرسة السينما والتلفزيون في كوبا ،افلامه : الشرفة – قصير- 1991 ، كولومبا يوربيكا – قصير – 1994، الدائرة الثانية – وثائقي – 1995 ، بلدي – وثائقي – 1999 ، دمية المنزل – وثائقي- 2000، انقاذ صربيا –وثائقي – 2001 ، انتخابات الدجاج –وثائقي – 2005 .