بين الواقع والمقابلات
عدنان مدانات
حضر لعندي مخرج شاب يطلب مساعدتي بشأن فيلم يعمل عليه، وكان بحاجة إلى مقاطع من أفلام وثائقية كلاسيكية تتضمن مشاهد مصورة لحركة الناس في الشوارع يريد أن يضمنها فيلمه. سألته عن موضوع الفيلم فذكر لي أنه عن الحياة كما تتمظهر في حركة الناس في شوارع العاصمة. بدت لي الفكرة مهمة بحد ذاتها فأعطيته فيلمين من تاريخ السينما التسجيلية الصامتة متوفرين لدي، احدهما فيلم” الرجل والكاميرا السينمائية”( 1929)، لدزيغا فيرتوف، والثاني فيلم” برلين سيمفونية المدينة الكبيرة”( 1927)، للمخرج والتر روتمان، وهما فيلمان مصوران بأكملهما في شوارع المدن، والفيلمان يعتبران من أهم الأفلام في تاريخ السينما التسجيلية.
رجع إلى هذا المخرج بعد فترة وجلب معه النسخة ما قبل النهائية من فيلمه وطلب مني مشاهدة الفيلم وإبداء الملاحظات عليه وخاصة حول إمكانية اختصار مدته الزمنية إذ يبلغ طول النسخة التي أعدها ساعتين من الزمن وهو يخشى أن يكون هذا الطول مرهقا بالنسبة للمشاهدين، سألته عن الاسم الذي اختاره للفيلم فقال لي” حكايات الشارع”. ومع أن المهمة التي يريد مني مساعدته فيها غير سهلة إلا أن العنوان بحد ذاته أثار فضولي واهتمامي و شجعني على وعده ببذل جهدي لمساعدته في ما طلبه.
ما الذي كان يعنيه بالنسبة لي عنوان” حكايات الشارع”؟. كان العنوان يعني أن ترصد و تغوص الكاميرا في مظاهر الواقع ممثلة بما يحدث في الشارع وأن تتمكن من الوصول إلى استنتاجات حول الواقع انطلاقا من متابعة و توثيق حركة الناس في الشارع من مارة عابرين ومتسكعين و متسوقين و متسولين وأصحاب محلات و باعة متجولين ورجال سير وسائحون أجانب وغيرهم من أنواع البشر المتواجدين خاصة في الشوارع الموجودة في وسط المدينة، أو قاعها، كما يحلو للبعض أن يصف وسط المدينة، حيث يوفر الاكتظاظ البشري وتنوعه و تنوع مظاهر حركته لعين وعقل وخيال المخرج إمكانية واسعة لتركيب حكايات، أو في أقل تقدير، حالات و مظاهر و أحداث صغيرة لكن تستحق الملاحظة والتوثيق والتعميم، وهذا ما فعله، على سبيل المثال” مخرجا الفيلمين التسجيليين الكلاسيكيين” الرجل والكاميرا السينمائية” و”برلين سيمفونية المدينة الكبيرة” في زمن كانت فيه السينما تستكشف مظاهر الواقع صامتة و لا يعكر صمتها صوت المعلق أو حديث أثناء مقابلة مع شخص ما، كما صار يحصل في الأفلام اللاحقة زمن السينما الناطقة التي صارت فيها الأفلام التسجيلية وحتى الروائية تكثر من الثرثرة.

أصابتني مشاهدة الفيلم بخيبة أمل، فما كانت توجد فيه أي صور، أو مشاهد، لحركة الواقع تثير الاهتمام بصريا أو ذات دلالة، وكان الفيلم بالمقابل، يحتشد بمقابلات مع أشخاص مختلفين، جرى التقاط معظمهم بصورة عشوائية أثناء وجودهم في الشارع، و أضاف المخرج إليهم مقابلة مطولة عرضت على فترات متقطعة أثناء الفيلم مع شخص تم تقديمه على أنه باحث اجتماعي.
من هم هؤلاء الأشخاص الذين يتحدثون في الفيلم، ولماذا جرى اختيارهم بالتحديد وما أهمية أو مصداقية أو فائدة الكلام الذي يتفوهون به، وهل ما قالوه نتج عن تفكير مسبق بموضوع الفيلم أم، وهذا هو الأغلب، قالوا فقط ما خطر على بالهم للتو وبدون أن يبذلوا جهدا للتفكير و للتعمق فيه؟ ينطبق هذا أيضا على المقابلة مع من جرى تقديمه على أنه أكاديمي في مجال علم الاجتماع.
هناك أيضا تساؤل إضافي: ما الذي أراده المخرج من الفيلم وهل انطلق من فكرة أو فرضية مسبقة أراد البرهنة عليها من خلال الفيلم، أم لاحظ مظاهر بصرية و وقائع لفتت انتباهه ورغب في تعريف الناس بها؟
لاشيء من هذا كله كان في الفيلم، وبالتالي لا شيء في الفيلم يستدعي الكتابة عنه، لولا أنه يعكس ظاهرة في السينما التسجيلية المعاصرة التي يلجأ مخرجو أفلامها للحلول السهلة المتمثلة في المقابلات وذلك بغض النظر عن قيمتها أو جدواها وصلاحيتها داخل الفيلم أو سينمائيتها.
ينقسم المخرجون بعامة إلى قسمين، قسم يهتم بإخراج الأفلام التسجيلية و قسم آخر يهتم بإخراج الأفلام الروائية. لكن هذا التقسيم في الحقيقة لا يعبر عن واقع الأمر، إذ أن الأمر لا ينحصر في الميول الشخصية والرغبة، كما لا ينحصر في الفرص المتاحة للمخرج، بل يتعلق الأمر في جوهره بنمط التفكير الإبداعي ومنطلقه، فالتفكير التسجيلي شيء والتفكير الروائي شيء آخر ولكل منهما متطلباته، وهناك مخرجون مخلصون للسينما التسجيلية و متفرغون لها، وهناك مخرجون يخرجون الأفلام التسجيلية بانتظار فرصة التحول للأفلام الروائية عندما تتاح لهم الفرصة، وقليلون، في الحقيقة، المخرجون المخلصون للسينما التسجيلية والذين يفكرون تسجيليا، ولهذا، على الأغلب، لم نعد نرى في السينما المعاصرة أفلاما تسجيلية يمكن عدها من الروائع إلا فيما ندر وهذا لا ينفي وجود أفلام تسجيلية جيدة بل وحتى ممتازة.