قراءة في: “الفاتيكان: الدّين والدّولة”..
“أعط ما لقيصر للّه وما للّه لقيصر “
أو درس الفاتيكان في جدل الدّين والسّياسة
د. العادل خضر – تونس
تعلّمنا دروس الوسائطيّة (أو الميولوجيا) العامّة أنّ أيّ خطاب دينيّ أو سياسيّ أو فنّي… هو بداياته ثوريّ ناريّ حالم مثاليّ متبخّر زائل، أو آيل إلى زوال إن لم يتصلّب ويتجمّد ويتثلّج بمؤسّسة تعمل على استمراره ودوامه بإعادة صياغة خطابه وصناعته وتنظيمه على نحو يخالف محتوى الرّسالة الأولى في معظم الأحيان. يكفي أن نتابع فيلم “الفاتيكان: الدّين والدّولة” بشيء من الانتباه حتّى نقف على صدقيّة هذه الحقيقة الأنتروبولوجيّة السّياسيّة. فمنصب البابا الّذي حظي طوال قرون مديدة بقداسة تضاهي قداسة المسيح لا وجود له في الأناجيل، ولا يوجد نصّ واحد يلمّح لوجود البابا في صورته القديمة أو الرّاهنة. فتاريخ المسيحيّة العريق يذكر أنّ البابوات الأوائل كانوا أشخاصا من غمار النّاس، حتّى أنّ كلّ شخص يولد مسيحيّا يمكنه أن يكون بابا إذا انتخبه مجلس الأساقفة بصفتهم ممثّلي الكنائس الكاثوليكيّة في العالم.
وإذا كان البابا لم تلده الأناجيل فقد ابتدعته المسيحيّة بوصفها ديانة من أهدافها الكبرى الانتشار الواسع النّطاق في مختلف أرجاء المعمورة. ولأجل ذلك كان التّبشير من أقدم الوظائف الّتي اضطلعت بها الكنيسة منذ بداياتها، واستمرّت إلى اليوم مع الفاتيكان بأشكال جديدة كبناء المستشفيات والمدارس الّتي يختلف إليها الكثير من الشعوب ومنهم المسلمين دون إكراههم على اعتناق المسيحيّة.
يمثّل اليوم البابا رئيس دولة الفاتيكان. ويؤكّد الفيلم في أكثر من مناسبة أنّ الفاتيكان هو أصغر دولة في العالم (تبلغ مساحتها حوالي نصف كلم مربّع) توجد في قلب روما عاصمة إيطاليا. وهي على صغر مساحتها تعدّ من أغنى دول العالم بفضل عائداتها السّياحيّة والاستثمارات البنكيّة. وهذه الأموال تصرف لأمور عديدة منها تمويل البعثات التّبشيريّة، وصيانة الكنائس والعقّارات التّابعة لها ونفقات الأساقفة… وربّما يفسّر ثراء دولة الفاتيكان بكثرة أتباع الكنيسة الكاثوليكيّة في العالم، إذ تقدّر بعض الإحصائيّات أعدادهم بمليار وخمسمائة مليون مسيحيّ كاثوليكيّ. وهو عدد يزيد وينقص لا ينافسه سوى عدد المسلمين في العالم، وهو يقدّر تقريبا بنفس النّسبة.
وقد ارتبط تاريخ هذه الدّولة بتاريخ المؤسّسة البابويّة في العالم المسيحيّ الكاثوليكيّ. وهذا الارتباط عريق جدّا لا يُفهم إلاّ بالعودة إلى الذّاكرة التّاريخيّة أيّام الاضطهاد الرّومانيّ لأوائل المسيحيّين.
لقد اكتسبت هضبة الفاتيكان شهرتها لا بصفتها عاصمة للكنيسة الكاثوليكيّة، وإنّما بسبب رمزيّتها التّاريخيّة. فقد كانت هذه الهضبة تمثّل المكان الّذي صلب فيه القدّيس بطرس عام 67 م، زمان الاضطهادات الواسعة الّتي شنّها الإمبراطور نيرون على أوائل المسيحيّين. وقد جاء على لسان أحد المختصين في الشأن المسيحي، في الفيلم أنّه في إحدى التّلال الصّغيرة الّتي كانت تسمّى الفاتيكان، دفن الكثير من الضّحايا المسيحيّين، من بينهم القدّيس بطرس. ولمّا اعترفت روما بالدّيانة المسيحيّة الّتي أصبحت دين الإمبراطوريّة الرّسميّ، أصبحت مقبرة الشّهداء الأوائل مكانا مقدّسا شيّدت فوقه كنيسة صغيرة تحمل اسم القدّيس بطرس. ثمّ على أنقاضها بنيت كاتدرائيّة القدّيس بطرس في القرن السّادس عشر. ولم ينتقل البابوات وقيادة الكنيسة إلى الفاتيكان إلاّ بعد القرن 14م. ومنذ ذلك الانتقال بدأت رقعة الفاتيكان تتّسع بكثرة المباني والمتاحف والحدائق المحيطة بالقصر البابوي.

في الفيلم تفاصيل تاريخيّة تبيّن أنّ اتّساع رقعة الفاتيكان الجغرافيّة السّياسيّة كان رهين عمق الإيمان في ضمير الإنسان الأوروبيّ، الّذي بدأ يتقلّص شيئا فشيئا مع ظهور الملوك والدّول العلمانيّة الّتي فصلت الدّين عن الدّولة أو الّتي استولى ملوكها على سلطة البابا الرّوحيّة، واستخدموها في إضفاء الشّرعيّة المقدّسة على ملكهم. وما استعارة “الملك ذو الجسدين” الّتي تعمّق المؤرّخ البريطانيّ إرنست كنتوروفيتش Ernest Kantorowicz في دراستها في كتابه الشّهير “جسدا الملك Les deux corps du roi” سوى استعارة سياسيّة ظهرت في أوروبا في القرون الوسطى. وقد نشأت في إطار الأنظمة الملكيّة الأوروبيّة الغربيّة المسيحيّة بين القرنين العاشر والسّابع عشر الميلاديين، مستنسخة، بل مستحوذة على سلطة البابا الرّوحية والزّمانيّة. فإذا كان تاريخ المؤسّسة البابويّة قد بدأ بالفصل الحادّ بين ما هو سياسيّ زمانيّ عمّا هو روحيّ دينيّ، فصلا ترجمه القول المأثور الشّهير “أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، فإنّ تاريخ الفاتيكان الطّويل قد بيّن أنّ هذا الفصل لم يكن ممكنا لأنّ “ما لقيصر” هو نفسه “ما لله”، وأنّ “ما لله” هو نفسه “ما لقيصر”. وهذا التّداخل كان من إبداع المسيحيّة الأعظم في أبجديّات السّياسة وتاريخها، بل إنّ هذا التّداخل هو ما كان يجسّمه البابا في شخصه وبشخصه. فهو من النّاحية الرّوحية يعني الأب في اللّسان اليونانيّ، وهو معصوم من الخطأ لأنّه نائب المسيح والقدّيس بطرس، وهو ممثّل عقائد الكنيسة الكاثوليكيّة، ولكنّه من النّاحية الزّمنية هو أسقف روما، ورئيس دولة الفاتيكان ينتخبه مجلس الكرادلة مدى الحياة، ويتمتّع بسلطة تشريعيّة وتنفيذيّة.
إنّ هذا التّداخل ضروريّ في ديناميكيّة الأديان الكبرى الّتي كان نشر رسالتها على أوسع نطاق من أوثق أركانها. يمكن للرّسالة الأولى الّتي كان يبشّر بها المسيح أتباعه، أو الّتي كان رسول الإسلام ينشرها بين صحابته وأنصاره، أن تؤسّس أمّة متماسكة، ولكنّ إعلامها أو ذيوعها وانتشارها سيظلّ ضعيفا جدّا. وحتّى يقوى انتشار الرّسالة وجب على الأمّة الأولى أن تنتشر على الأرض للدّعوة أو التّبشير، للأسلمة أو التّنصير. وهذا الانتشار قد اقتضى من الجماعة الأولى أن تتحوّل إلى أمّة واسعة الوجود السّياسيّ أيضا بأن تعيد هيكلة تنظيمها حتّى تستمرّ الرّسالة وتتّسع رقعة تأثيرها الرّوحيّ.
هذا الدّرس الّذي يعلّمنا أنّ الدّين قبل أن يكون إيمانا ينير الأرواح وتطمئنّ به القلوب، إنّما هو في جوهره تنظيم من طبيعة سياسيّة تيولوجيّة يمثّل الفاتيكان أنموذجه القويّ في تاريخ الأديان وتاريخ الدّول السّياسيّ.