“شاكر السمين”: الخروج من معطف كياروستامي

أمير العمري

من الأفلام الثلاثة التي حصلت على جوائز مسابقة مهرجان روتردام السينمائي هذا العام الفيلم الإيراني “شاكر السمين” Fat Shaker للمخرج الشاب محمد شيرفاني، الذي عرض قبل ذلك في مهرجان صندانس.
ولعل أول ما يلفت النظر في هذا الفيلم حسه التجريبي العالي، وسيرياليته التي تبعده تماما عن تلك الأجواء المعروفة بالواقعية التسجيلية، والرمز الإجتماعي من خلال الموتيفات المألوفة في سينما كياروستامي وتلاميذه.
قد يكون فيلم “شاكر السمين” ليس واضحا تماما فيما يتعلق بتفاصيل موضوعه، فهو لا يقوم على بناء سلس تتدفق فيه الصور لكي تروي وتوضح وتكشف، بل هو أقرب إلى الفيلم الذي يجسد حالة “ذهنية”. صحيح إنه يعرض- على نحو ما- العلاقة بين أب وإبنه، تلك العلاقة القمعية البطريركية التي تقوم على هيمنة الأب على الإبن، والتعامل الدائم معه بخشونة حنى لو كان أصما كما في حالة الإبن في الفيلم،  لكنه ليس فيلما إجتماعيا، موضوعه هو العنف داخل الأسرة مثلا كما قد يتصور البعض في البداية، بل هو حالة فنية خاصة بعيدة تماما عن الأفلام الإيرانية المألوفة.

البناء لا يقوم على وحدة المكان ولا الزمان، بل إننا نرى ما يعرضه لنا المخرج من خلال بناء سردي متقطع، على شكل شذرات أو لقطات سريعة، بالكاميرا المتحركة (لا تتوقف في الحقيقة طيلة الفيلم).. سواء من الذاكرة أو من الماضي أو من الذي سيكون أو سيأتي بعد ذلك وإن كنا نراه أولا قبل أن نصل إلى نهايته.
شاكر رجل بدين للغاية، نراه في بداية الفيلم وهو يرقد على بطنه ويقوم ولده بغرس ما يعرف في الطب الشعبي بـ”كاسات الهواء” أي تلك الكؤوس التي يتم تفريغها من الهواء بواسطة النار قبل أن تلصق على الظهر تحت تصور أنها تساعد في إعادة الحيوية للجهاز التنفسي، خاصة، أن شاكر يعاني كثيرا بسبب إفراطه في السمنة.. لكنه دائم الحركة، لا يهدأ ابدا، بل ينتقل داخل تلك الشقة التي يقيم فيها مع ولده الذي يفرض عليه القيام بكل الأعمال القذرة من غسيل للصحون إلى التنظيف وما إلى ذلك.
هناك مشهد في الفيلم نرى فيه الإبن الأبكم داخل سيارة مع فتاتين. الأب شاكر يوقف السيارة على ناصية أحد الشوارع، وياخذ في ضرب قبضته في زجاج السيارة موجها هذا النوع من الأسئلة إلى الفتاة: ماذا يفعل هذا الصبي معك؟ هل تعرفينه؟ ومن يكون بالنسبة لك؟
وهو يقول للفتاة إنه من رجال شرطة الآداب العامة أي تلك الشرطة الدينية التي تراقب سلوك الناس وتفتش عليهم في إيران ويتعامل معها بفظاظة وعنف. تمنحه الفتاة بعض المال لكي يتركها وشأنها. وفي مشهد آخر نرى شاكر وولده يلتقيان بفتاة تدعى مريم، مصورة، تبحث عن مادة مثيرة، ويصطحبانها إلى حيث يقيمان. ويرتكب شاكر بالتالي مخالفة “جسيمة” من وجهة نظر الشرطة عندما يسمح بوجود تلك الفتاة في شقته كما سنرى فيما بعد. ولكنه شبه غائب عن الوعي، يترنح من فرط السكر فهو يتعاطى مشروبا مسكرا من الواضح انه يعد محليا، وهو أحد الممنوعات في إيران أيضا.
يحضر أحد رجال الأمن ومعه صاحب الشقة ويطرق الباب ويأخذ في توجيه الأسئلة: أين بطاقة الهوية؟ من هذا؟ ومن هذه المرأة؟ كيف تستأجر هذه الشقة بدون أن تكون لديك بطاقة هوية؟
صاحب الشقة يحاول التوسط من أجل إنهاء الأزمة. شاكر يقول إن المرأة أو بالأحرى الفتاة، هي زوجته، والرجل يكتشف وجود المشروب الكحولي ويصر على اقتياد شاكر للتحقيق معه في قسم الشرطة. شاكر يحاول تقديم رشوة له. الرجل يتظاهر بالرفض والاستنكار. يخرج الجميع معا ويغادرون الشقة فيماعدا الفتاة التي نراها نائمة طول المشهد لا تستيقظ أبدا حتى ورجل الأمن يطلب منها أن تجيب عن أسئلته ويصرخ فيها طالبا أن تستيقظ وتجلس.
هل معنى هذا أن شاكر قبض عليه وسيق إلى السجن، أم أن الرشوة نجحت في أن تأتي بمفعولها؟ لا نعرف على وجه التحديد ماذا حدث وليس مطلوبا منا أن نعرف، لكن شاكر يواصل تهجماته وإقباله على التهام الطعام وإحتساء الشراب دون أن يقيم وزنا لما يجري حوله. إنه نوع من الإنسحاب المجنون تماما، من المجتمع، من ذلك العالم.

هناك بالفعل ما يذكرنا أننا في إيران: الفتاة المحجبة، شرطة التفتيش على السلوك، شوارع طهران المعروفة، لكن تلك الحالة السيريالية التي تختلط فيها الصور، وتبدو الإضاءة في الكثير من اللقطات ساطعة لدرجة تجعلك لا تستطيع أن تتبين ملامح مكونات الصورة بشكل محدد، مع ذلك الدوران بالكاميرا المترنحة التي تكاد تتهاوى أيضا مع تساقط الكؤوس الزجاجية واحدا إثر آخر، على الأرض في مشهد إستجواب رجل الأمن لشاكر داخل الشقة.
فيلم “شاكر السمين” من أكثر أفلام السينما الإيرانية طرافة وطزاجة وتميزا رغم أنه ليس من الممكن التعامل معه كفيلم مكتمل أي عمل إحترافي يصلح للعرض على الجميع في دور العرض مثلا، بل إن الفيلم أعتبر بالفعل من قبل الكثيرين داخل إيران كما علمنا، من الأفلام المعادية للسلطات الإيرانية أي أحد تلك الأفلام الهجائية، لكننا نعتبره محاولة تجريبية نحو البحث عن أسلوب سينمائي مختلف، ربما يقترب من بعض تجارب السينما الأوروبية.
ليفون هافتفان في دور شاكر ممثل كبير وراسخ، يتحرك بصعوبة لكنه يتحرك، يجيد تمثيل دور الثمل، يتنفس بحيث أننا نسمع على شريط الصوت طيلة الفيلم صوت تنفسه بصعوبة بسبب سمنته المفرطة. إنه يملأ الفيلم بشخصيته الطاغية الغريبة. ولعل أداءه في فيلم “بارفيز” قد أكد موهبته الكبيرة. ولكن هذا فيلم آخر جيد جدا من الأفلام الإيرانية الجديدة التي خرجت من معطف المعلم كياروستامي، وربما يستحق مقالا مستقلا.


إعلان