من أجل إنقاذ مهرجان تطوان لسينما المتوسط
أحمد بوغابة / المغرب
السبت 30 مارس 2013، في مدينة تطوان بشمال المغرب، التي يسميها أهلها بالحمامة البيضاء لكون منازلها مصبوغة بالأبيض، وهي عادة قديمة بجميع المدن المُطلة على البحر المتوسط، فضلا عن وجودها على قمة جبل وكأنها حمامة ضخمة تحرس العبور. وتكون أحيانا غارقة في السحاب ولا يمكن رؤيتها قبل أن تصلها وكأنها تعيش أحلاما داخلها. فذلك اليوم، كانت السماء تختفي أحيانا وراء السحاب وتطل بزرقتها أحيانا أخرى تاركة لخيوط الشمس أن تعبر نحو البساط الأخضر على الأرض وتغيير ألوان البحر بين الرمادي والأزرق. كما كانت قطرات المطر تصر على الوجود وكأنها في لعبة مع السماء والشمس والأرض والبحر والناس أجمعين. هذا التناغم والتكامل الطبيعي زاده إجلالا فرح الساكنة في ذلك اليوم، خاصة الشباب منه، بفرح انتصار فريق المدينة المحلي لكرة القدم “المغرب التطواني” على أحد أهم الفرق القوية بالمغرب وهو “الرجاء البيضاوي”.
لقد كان يوم السبت 30 مارس 2013 يوم عيد بالمدينة بامتداد الفرح الرياضي بالفرح السينمائي، لأنه يوم اختتام فعاليات الدورة 19 للمهرجان الدولي لسينما بلدان البحر الأبيض المتوسط، لهذا كاد أن تتحول سهرة الاختتام إلى سهرة موسيقية نظرا لخضوع المنظمين لطلب الشباب الحاضر في القاعة بالاستمرار في الغناء الذي كان أصلا طويلا ويتكرر كل سنة بنفس المقاطع المُركبة من هنا وهناك، تقفز من أغنية إلى أخرى. ينبغي إعادة النظر في تلك السهرات بشكل جذري وهذا ما سنتطرق إليه في ما بعد أسفله إذ لا تضيف تلك السهرات الموسيقية قيمة ما إلى الحفل السينمائي بل تشوش عليه.

برنامج غني.. والجوائز
سبق ان تطرقنا في نصوص سابقة إلى البرنامج العام لمهرجان تطوان لسينما بلدان المتوسط. ونؤكد من جديد بوعي كامل على أهميته مرة أخرى حيث تم اختيار أفلام بعناية. وجلها قوية في مختلف فقراتها الروائية والوثائقية، وأيضا الندوات واللقاءات والتكريمات والورشات والاهتمام بالأطفال في المدارس سواء في المسابقات الرسمية أو غيرها رغم بعض الهفوات التي كان بالإمكان التغلب عليها بقليل من الصرامة خاصة حين يتعلق الأمر بالسطرجة sous-titrages.
إن المدينة تعيش حقا لحظة سينمائية متميزة، طيلة انعقاد المهرجان، حيث تستقبل الفضاءات الثقافية هذه التظاهرة بدون تحفظ بدءا بالقاعتين السينمائيتين: “أفينيدا” و”إسبانيول”، ومرورا بمدرسة الفنون الجميلة، وصولا إلى المعهدين الثقافيين: الفرنسي والإسباني.
وتميزت هذه الدورة بعروض لأفلام بالنظام الرقمي في قاعة “أفينيدا” وهو ما أعطى للفرجة السينمائية بعدا جديدا ومختلفا في الصورة والصوت. وهنا واكبت القاعة الرسمية تطلعات المهرجان نحو أفق الاحتراف.
ويعلم المترددين على المهرجانات السينمائية أن غالبا ما تخلق نتائج لجن التحكيم ردود فعل متباينة حيث يكون الحضور قد وضع بدوره لوائح يمنح فيها جوائز لأفلام تروقه، وأحيانا ينتظرها بشغف وإذا خاب ظنه ينتقد لجنة التحكيم ويتهمها بكل النعوت ويعتبرها منحازة أو دون المستوى. ويغضب بعض المشاركين من السينمائيين في المسابقة إذا لم يحصلوا على جوائز، خاصة إذا كان حظهم في مهرجانات أخرى كبير وسبق لهم الفوز فيها فيعتقد بالضرورة الحصول عليها دون أن ينتبه إلى أنه في أجواء مختلفة.
يتناسى الجميع أن لجن التحكيم تتشكل من حساسيات مختلفة ومتناقضة، رجالا ونساء وأيضا من سن متباعد، فيلعب كل فرد دوره في تلك اللجن حسب قدراته المعرفية وطاقته في الدفاع عن أفلام معينة. ويتضاعف النقاش بين أعضاء اللجن إذا كانت الأفلام المشاركة جلها في مستوى عال يصعب إغفالها في الجوائز. لكنه يتطلب الحسم فيها نحو اتجاه الجوائز بتفضيل بعضها على حساب أخرى. فيكون النقاش السينمائي بين الحضور هو جزء من متعة المهرجان ما دامت الأفلام هي نتاج إبداعي إنساني بمعنى يحتوي على العناصر الذاتية في تكوينها.
ولم تخرج لجن مهرجان تطوان عن هذا القالب السائد في كل مكان وزمان. فرغم أن أغلبية الجمهور، خاصة المحترفين منهم، استحسنوا الجائزة الكبرى التي ذهبت إلى الفيلم الكرواتي “طريق حليمة” إلا أن هناك من رأى فيه كتلة من الميلودراما ليس إلا. بينما يعتبرون الفيلم الروماني “ما وراء التلال” أفضل الأفلام في هذه الدورة وهو الفيلم الذي لم تنتبه إليه اللجنة إطلاقا ولم تمنحه حتى تنويها ما. كما تساءل الحضور عن سبب منح الفيلم الإيطالي “الأشياء الجميلة” جائزة العمل الأول علما أن الجميع غادر القاعة لأنه ناطق باللهجة المحلية لمنطقة نابولي وغير مصحوب بسطرجة (الترجمة) للغة مفهومة عند الأغلبية. علما أن لجنة التحكيم بإمكانها مشاهدة الفيلم بوحدها على القرص “دي. في. دي.” الذي به الترجمة. وقد لاحظ الكثيرون أن اللجنة التي تقلص عددها إلى ثلاثة أعضاء فقط، إمرأتان ورجل واحد، قد ألغت كليا النساء المخرجات المشاركات في المسابقة: جميلة الصحراوي من الجزائر، هالة لطفي من مصر، آن ماري جاسر من فلسطين. وهو ما لم يستسغه البعض.

نفس الشيء بالنسبة للأفلام الروائية القصيرة التي اعتبرها البعض مجحفة في حق بعض الأفلام خاصة المغاربة الذين شاركوا بخمسة أفلام من ضمن 17 فيلما في المسابقة، بمعنى الثلث تقريبا، ولم ينل منهم ولو واحد جائزة ما (تم تخصيص ثلاث جوائز للفيلم القصير).
لم تخرج الأفلام الوثائقية عن هذا المنحى أيضا ليتأكد الحضور القوي لعضو فيها على باقي الأعضاء وهو الذي ينتمي لمهرجان الفيلم الوثائقي بمرسيليا حيث لهذا المهرجان الفرنسي خط تحريري معروف ليس بالضرورة هو نفسه لمهرجان تطوان. ورغم ذلك “فرضه” بتسليم الجائزة الكبرى لفيلم “متران لهذا التراب”، وهو الفيلم الذي سبق أن نال تنويها من مهرجان مرسيليا، هو عبارة عن روبورتاج أو “مايكينغ غوف” (making-of) لسهرة كانت مقررة في رام الله بفلسطين حيث الافتعال واضح في الحديث عن محمود درويش. علما أن فيلم “مثل أسود حجرية في مستهل الليل” (اليوناني) أفضل منه سينمائيا بكثير، وبمعالجة درامية خارقة في الذكاء باستحضار فنون الحكي السينمائي بقواعدها الأساسية للجمع بين إطار الصورة الحاضرة التي تخفي التاريخ الماضي ضمن علاقة سلسة موظفا أرشيف صوتي فيه السير الذاتية للمعتقلين الذين لم نشاهدهم، وأشعار لأسماء مناضلة مشهورة لتمتزج المعاناة في الأطلال القابعة في الجزيرة المعزولة التي تحولت إلى فضاء سياحي. إن هذا الفيلم هو الأفضل سينمائيا في كل ما شاهدته في المسابقة الرسمية.
فيلم وثائقي آخر حصل على جائزة أول عمل وهو من إخراج مشترك ين المخرجة رانيا رافعي والمخرج رائد رافعي بعنوان “74، إعادة بناء قصة نضال” وهو لبناني الجنسية يستحق جائزته بدون تحفظ. كما نوهت اللجنة بالفيلم الجزائري “إسأل ظلك” لأمين عمار خوجة. فلولا عثرة الجائزة الكبرى التي سلمتها ل”روبورتاج” عادي لكانت لجنة الفيلم الوثائقي قد حققت المعادلة الصعبة بالجمع بين رغبة الجمهور والمتخصصين والسينمائيين.
والغريب في الأمر أن مجمل الأفلام المُبرمجة في مسابقة الأفلام الوثائقية قد تم اختيارها فقط من مهرجان مرسيليا للفيلم الوثائقي باستثناء ثلاثة منها. فقد أصبح مهرجان مرسيليا “السوق” الذي “يُمَوِّلُ” فقرة الوثائقي بتطوان.
نقطة سوداء… في المهرجان
ينبغي دق الجرس بقوة هذه السنة حتى يسمعه المنظمون لأن “سوسة” تنخر المهرجان من الداخل منذ ثلاث سنوات وهم عنها ساهون، أو غافلون لا أدري، مع أن أهميتها كبيرة حتى لا يستفيقون وهم تحت أنقاض تظاهرتهم التي ناضلوا بكل الوسائل والإمكانيات الجسدية والفكرية لكي تصمد وتصل إلى هذا البعد الدولي والإشعاع فتذهب سدى. لا ينبغي على إدارة المهرجان أن تهتم بتفاصيل اختيار الأفلام وضبط مسابقاتها الثلاث والندوات بجهد جهيد طيلة السنة لتنخر كل هذا المجهود “سوسة” في غاية الخطورة كالسرطان إن لم يكن أخطر منه بكثير.
أبرمت مؤسسة المهرجان الدولي لسينما بلدان المتوسط مع شركة خاصة إتفاقا على أساس أن تسهر هذه الشركة، طيلة الأسبوع، بالحفاظ على النظام في أبواب القاعات والفضاءات التي تستقبل أنشطة التظاهرة، وكذا استقبال الضيوف وتوفير ما يلزمهم من ضروريات العمل وتنسيق الأنشطة معهم وإخبارهم بها وخاصة بمستجداتها وما يحدث من التغييرات فيها حتى لا يضيعوا في متاهة ما. وهذا العمل الذي هو من البديهيات الأولية، والذي تقوم به شركات كثيرة في المغرب باحترافية عالية، لم تستوعبه الشركة التي تعاملت معها إدارة المهرجان خاصة في السنتين الأخيرتين. فهي بعيدة كل البعد عن الاحتراف بل لا تعرف ما معناه في قاموسها ولا تدرك بأنها تصبح هي واجهة المهرجان وعيونه وأنه غير مسموح لها بالخطأ إطلاقا وبصفة قطعية.
فقد اعتمدت هذه الشركة منذ وصولها إلى المهرجان، منذ سنتين، على عناصر لم تخرج من طفولتها بعد وتخضع للتدريب والتمرين، ولا تفقه في خصوصية “دولية المهرجان” وخصوصيته الثقافية والفنية وكأنها في مكتب الاستقبالات بأحد المتاجر في غياب المؤطرين أصلا المفروض فيهم الحضور الفعلي. هنا تبدو اللامسؤولية للشركة في ضمان ما إلتزمت به مع المهرجان. يتركون فتيات مراهقات أمام مسؤوليات كبيرة عليهن ولا يعلمن كيف يتصرفن فيفضلن الانسحاب والاختفاء خاصة في الفندق الذي يوجد به المدعوين الأجانب فندق “قبيلة”. يتم استقدام تلك الفتيات من المعهد العالي للسياحة أو مدارس خاصة بالمجان بحجة تدريبهن وقد تدعي الشركة أنها تخصص لهن تعويضا ماليا وهو غير صحيح بتاتا، فقط لضمها إلى الفاتورة النهائية.

وهذا يسري أيضا على السائقين الذين كانوا يعيشون في وضعية مزرية بالمبيت في سياراتهم والاكتفاء بسندوتشات طيلة اليوم فيتصرفون بانتقام تُجاه المدعوين كأنهم هم المسؤولون عن أزمتهم إلى حد توظيف شخص مريض كان دركيا في السابق يهدد بعض الزوار بذلك، وهذا خطير جدا في عُرف المهرجانات. ويرفضون التحرك بسياراتهم بدعوى انتظار التعليمات من مسؤولين غير موجودين أصلا.
حين يجد بعض المدعوين، من جنسيات مختلفة، أنفسهم أمام بعض التساؤلات التنظيمية واللوجيستيكية بدون أجوبة يخلق لديهم نوع من عدم الاطمئنان خاصة لمن هم متعودين على مهرجانات كثيرة. فيتم خلخلة الصورة المغربية التي تروجها وزارة السياحة في وصلاتها الإشهارية بالخارج.
إن على إدارة مؤسسة المهرجان، بكل أطيافها، استدراك هذه النقطة السوداء في تنظيم المهرجان لأنها هي إحدى الصور التي يحملها معه الزائر في الداخل والخارج. ينبغي على إدارة المهرجان أن تستوعب هذا الخلل لأنه ينخرها من الداخل خاصة وهناك تواطؤ بين الشركة وبعض أعضاء إدارة المؤسسة نفسها التي لها سوابق في الميدان حيث أتوفر على تصريحات مكتوبة وأخرى مسجلة بالصوت لبعض المدعوين الأجانب وأيضا بالصور لهذا الخلل والتواطؤ.
استرجاع المهرجان..
تبين بالملموس المحسوس أن مؤسسة المهرجان أساءت إلى المهرجان بتعاملها مع تلك الشركة مما يلزم الآن وزارة الاتصال التي خلقت لجنة خاصة بالمهرجانات أن تقف عن كثب عند مسؤولية تلك الشركة في تهديم واحد من أهم المهرجانات في المغرب وأقدمها. كما نقترح على “جمعية أصدقاء السينما بتطوان” التي تملك أحقية هذا المهرجان باعتبارها صاحبته شرعا وقانونا وثقافة وسينمائيا وتاريخيا أن تحل “المؤسسة” وتسترجع وطنها السينمائي بنفس الاستقلالية التي كانت لها من قبل ما دامت هذه المؤسسة لم تضفها جديدا أو ترتقي بها بقدر ما جرَّت المهرجان إلى الوراء… وقريبا إلى الهاوية. فلا يمكن ترك هذا المكتسب السينمائي “تلعب” فيه شركة “لا تملك إلا إسما فقط”. فهي تستقدم عند اقتراب المهرجان، كما قلنا أعلاه، فتيات بالمجان للاستقبال دون تجربة أو وعي بأهمية “دولية المهرجان وليس عرسا عائليا ينظمه صاحب الشركة الوهمية”. كما يكتري سيارتين: واحدة من هنا وأخرى من هناك لأكثر من 150 مشارك. ونفس الشيء للميكروفونات التي لا تشتغل أغلبها. وغيرها من الوسائل الضرورية للعمل بمهرجان متوسطي ببعد دولي. فهل يفهم ما معنى مهرجان دولي؟؟؟
يمكن ل”جمعية أصدقاء السينما بتطوان” أن تستغني عن كل ما من شأنه الإساءة لتاريخها وبخلق في المقابل شبكة من المتعاطفين معها والمساندين لها في مختلف الأقطار المتوسطية وهم كثيرون وعلى كامل الاستعداد لمساعدتها بدون حرج من جهة، ومن جهة أخرى أن تعتمد على الفعاليات المحلية من طاقات وكفاءات كُفأة التي بإمكانها أن تحقق لها ما لم تنجزه تلك الشركة الوهمية التي تنزفها ماليا وماديا ومعنويا فضلا عن الإساءة إليها.
إن الدورة المقبلة التي ستصل إلى رقم العشرين (20) ينبغي أن تكون دورة التحول الفعلي نحو الأمام في التنظيم. أما البرمجة فلم تعد مشكلا للمهرجان بقدر ما تتطور سنويا. فلا بد أن يسير على الطريق الصحيح ويتجاوز العطب في التنظيم والإعاقة التي تسببها له الشركة المزعومة.
تأكد بدون جدل بإن “جمعية أصدقاء السينما بتطوان” قادرة على تنظيم مهرجانها باستقلالية عن “المؤسسة” باعتمادها على تجربتها التي راكمتها لأزيد من ربع قرن. وإلا ستكون مسؤولة هي بدورها في جر المهرجان إلى الهاوية إذا لم تُجْرِ عملية جراحية استئصاليه للورم (السوسة) الذي ينخرها من الداخل.