فيلمان عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في برلين

أمير العمري

فيلمان من الأفلام التي عرضت في قسم البانوراما في الدورة الـ63 من مهرجان برلين السينمائي، يتناولان الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولكن بدا واضحا أنهما يعانيان من تشوش فكري، وعدم فهم دقيق للوضع الفلسطيني في الأراضي المحتلة، بعيدا عن النمطية التي ترتبط في أذهان الكثيرين بما يعرض مرارا وتكرارا على شاشات محطات التليفزيون العالمية، بل إن أولهما بدا وكانه مصنوع خصيصا لتلبية حاجة تلك القنوات الأوروبية.
الفيلم الأول هو الفيلم الإسرائيلي Rock the Casbah الذي يمكن ترجمته إلى “إقصف القصبة” وهو عنوان مأخوذ عن أغنية شائعة بالإنجليزية، من أغاني موسيقى الروك، ظهرت عام 1982، وتبناها سلاح الجو الأمريكي خلال حرب العراق 1991، ثم الطيارون البريطانيون أثناء غزو العراق 2003. وتعتبر تلك الأغنية إحدى الأغاني العنصرية التي تدعو، على نحو ما، إلى قتل العرب. أما القصبة فهي إشارة إلى الأحياء القديمة في المدن العربية. وهو تعبير معروف على الأخص، في بلدان المغرب العربي.
مخرج الفيلم هو ياريف هوروفيتز (مواليد 1971) وهو يقول إنه اعتمد في كتابة سيناريو الفيلم على مجموعة مقابلات أجراها مع عدد من جنود المظلات الإسرائيليين وقام بتسجيل أحاديثهم وذكرياتهم وما كان يحدث لهم من قصص طريفة أثناء الخدمة، ويضيف أنهم كانوا يشعرون أمام الكاميرا بأنهم في “جلسة للعلاج النفسي”.
تدور أحداث الفيلم عام 1989 أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى، مع صدور الأوامر لفصيلة من الجنود الإسرائيليين بالتوجه إلى غزة للسيطرة على  الأوضاع هناك.
في مدينة غزة، يواجه أفراد الفصيلة مناخا عدائيا مشحونا من جانب الأطفال الفلسطينيين الذين يقذفونهم بالحجارة، والنساء اللاتي يقابلهن باللعنات، وفي هذه البيئة الغريبة عليهم: الشوارع الضيقة والحارات الملتوية المرصوفة بالأحجار والبيوت المتلاصقة، يطارد الجنود مجموعة من الصبية الفلسطينيين، ولكن أحد الجنود يقتل بعد أن يسقط صبي فلسطيني غسالة قديمة من فوق سطح أحد المنازل. يجن جنون مجموعة الجنود، يطاردون قتلة الجندي لكنهم يفقدون أثرهم. يصدر قائد الفصيلة الأمر لأربعة منهم بالبقاء فوق سطح المنزل للمراقبة وضبط الجناة، رغم أنف صاحب المنزل الفلسطسني الذي يخشى أن يعتبره جيرانه متعاونا مع الإسرائيليين ويقتلونه.

ويصور الفيلم كيف يصبح الجنود القادمون من الخارج، إلى واقع غريب عليهم تماما، أسرى عند الفلسطينيين، الذين يرفضون وجودهم ويقاطعونهم ويطالبونهم بالرحيل ولا يكف أطفالهم عن سبهم وقذفهم بالحجارة. الجنود يقابلون هذا الجو العدائي بالغضب ولكن بنوع من ضبط النفس. ومع ذلك يفقد أحدهم أعصابه أكثر من مرة ويطلق الرصاص على ميكروفونات المسجد المجاور الذي لا ينقطع سيل التحريض الديني الصادر منه ضدهم.
هنا الجندي الإسرائيلي: منضبط، أخلاقي، يعرف حدوده، لا يستخدم الرصاص الحي أبدا، بل الرصاص المطاطي وعندما يهم أحدهم باستخدامه ضد أحد الصبية، ينهره قائد المجموعة. أحد الجنود يمزح طوال الوقت، مع طفل فلسطيني صغير يصعد من وقت إلى آخر، إلى سطح البناية.. بعد عملية قتل الجندي، صحيح أن التعزيزات تأتي في مصفحة لكنها ترحل دون أن تنزل العقاب الجماعي بالسكان، على عكس ما يحدث في الواقع، بل تكتفي بترك أربعة جنود فوق السطح دون أن يكون لوجودهم أي معنى حقيقي.
وشأنه شأن فيلم “لبنان” الحاصل على جائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا قبل سنوات، يتعامل الفيلم مع الجنود الشباب باعتبارهم ضحايا الصراع، فهم واقعون في المنتصف بين أناس يدافعون عن بيوتهم، ويقولون لهم بوضوح إنه يتعين عليهم الخروج من المدينة بل ومن فلسطين كلها أيضا، وجانب آخر هو المؤسسة العسكرية الإسرائيلية التي تطالبهم بقمع الآخرين دون مبرر حقيقي.. تنتهك براءتهم ويصبحون عرضة للقتل في كل لحظة، يدفعهم الوضع المتوتر الذي يجدون أنفسهم فيه إلى التشاجر مع بعضهم، وصب اللعنات على قائدهم، بل وإعلان نوع من العصيان أيضا، لكنهم مع ذلك، لا يفقدون روح المرح، ولا الاستمتاع بسماع أغاني الروك!
ورغم التوتر العام ومقتل زميلهم، إلا أن مجوعة الجنود تمتنع عن الإستجابة للاستفزازات الفلسطينية، حتى عندما يقوم شاب فلسطيني بطردهم بفظاظة من المقهى يذهبون إليه لتناول الفلافل والحمص وتدخين الشيشة، ويستجيبون هم بمنتهى الهدوء واللباقة!
هذه الرؤية تدخل ضمن تلك الموجة التي توجه نوعا من النقد الخفيف للمأزق الإسرائيلي، الذي تريد أن تراه مرادفا للمأزق الفلسطيني، مع غياب تام لأسباب ذلك “التورط” الإسرائيلي في غزة. فهو هنا تورط عبثي لا أصل له ولا أساس، تزداد وطأته عندما يحضر والد الجندي القتيل لكي يرى المكان الذي قتل فيه ولده، ويتطلع إلى الجنود، ويصرخ فيهم: ما الذي جاء بكم إلى هنا أصلا؟ هذا ليس مكانكم.. إن إرسال أطفال مثلكم إلى هنا جريمة!
وبهذا يتم غسل “الذنب” الإسرائيلي بهذه الرؤية “الليبرالية” المعتادة التي تقدمها تلك التي تطلق عليها الباحثة الإسرائيلي إيلا شوحاط “الموجة الناقدة” في السينما الإسرائيلية، وتتم عملية التطهير على الشاشة. أما ما يدور على الأرض فيبقى على ما هو عليه حتى إشعار آخر.
إيقاع سريع، لقطات من زوايا منخفضة ومرتفعة، كاميرا تحاصر الجنود وتتابعهم وتتحرك وتهتز مع اهتزاز السيارة التي تحملهم، أو تجري وراءهم أثناء مطاردتهم للفلسطينيين في الحارات الضيقة، لقطات من داخل السيارة العسكرية ومن خارجها، تحكم جيد في تحريك مجاميع الممثلين الثانويين من الفلسطينيين الذين شاركوا في الفيلم، ومعظمهم من غير المحترفين، ومزج جيد بين الموسيقى ذات الإيقاعات المتدفقة السريعة، وما يقع من مطاردات، ولكن بعد أن  ينقضي الجزء الأول من الفيلم ويستقر الجنود فوق السطح، يميل الفيلم إلى الأسلوب المسرحي الساكن ودون تطوير للفكرة أو للموضوع.

إن شاء الله


الفيلم الثاني بعنوان “إن شاء الله” Inch’allah للمخرجة الكندية (من مقاطعة كيبيك) أنييس باربو لافاليت (مواليد 1979) وهو فيلم مدفوع بالكثير من حسن النوايا. هنا تحاول المخرجة (وهي أيضا كاتبة السيناريو) تقديم صورة رمزية لما يحدث من عنف في الأراضي الفلسطينية المحتلة.. لماذا يفجر الفلسطينيون أنفسهم ويقتلون الإسرائيليون؟ في البداية يقع تفجير يروح ضحيته بعض الإسرائيليين، ثم نذهب في عودة للوراء (فلاش باك طويل) من خلال عيني بطلة الفيلم وهي طبيبة كندية شابة تدعى “كولي” تعمل في عيادة بالضفة الغربية، لعلاج الفلسطينيين، وتقيم معهم علاقات صداقة وتتمتع بشعبية وسطهم، لكنها تسكن في تل أبيب. ويتعين عليها بالتالي أن تعبر الحدود بين الضفة وإسرائيل يوميا عبر نقطة حدودية تعمل عليها مجندة إسرائيلية شابة (أفا) تقيم معها كولي علاقة صداقة وتسهر الإثنتان معا أحيانا، يحتسيان الشراب ويثرثران، وفي الوقت نفسه تنمو علاقة صداقة بين كولي وإحدى مريضاتها وهي “رند”، شابة فلسطينية حامل، تعيش على الحافة، تفتش في أكوام القمامة المتراكمة قرب السور الفاصل بين البلدة الفقيرة البائشة، وبين إحدى المستوطنات الإسرائيلية في الضفة.
وكما يمكن أن نتوقع، يؤدي القهر والجبروت الإسرائيلي (دبابة تسحق طفلا يعترضها) ورفض السلطات الإسرائيلية نقل رند للمستشفى عبر نقطة العبور مما يجلعها تفقد جنينها، ثم اعتقال زوج رند والحكم عليه بالسجن لمدة خمسة وعشرين عاما، كل هذا يؤدي إلى أن تفقد رند كل رغبة لديها في مد يد السلام عبر كولي، إلى أفا الإسرائيلية، بل وتدين أيضا وجود الطبيبة الكندية وتدعوها للعودة إلى بلادها.
فيلم جيد من الناحية التقنية شأنه شان الفيلم السابق، لكن مشكلته أنه يفشل في رسم صورة حقيقية لما يحدث في الضفة الغربية، بل يميل أساسا إلى المبالغة واستخراج الحالات الدرامية المبالغ فيها لكي يبرر إنفجار العنف مع تكرار مناظر الفقر والتهميش والأطفال الضائعين وسط أكوام القمامة، والجدار الإسرائيلي الحاجز..إلخ
وليس مبررا في سياق الفيلم أن تتحولعلاقة رند بكولي على هذا النحو الدرامي المبالغ فيه بعد إعتقال زوج رند، وكان الطبيبة هي المسؤولة، في حين ان كولي كانت دائما الأقرب إلى رند والأكثر إخلاصا لها وتعاونا معها.
رؤية اخرى “ليبرالية” تميل لصنع نوع من التوازن، بين الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني، فالسيناريو يصور المجندة الإسرائيلية “أفا” باعتبارها واقعة بدورها في مأزق هو مأزق “المحتل”.. فهي تشعر بالخوف وتخشى أن تقضي في أي وقت نتيجة لعملية إنتحارية أو لتفجير كما تقول لأسرتها التي تشعر بالقلق عليها. ورند من الجهة الأخرى، تريد في البداية أن تأمل في مستقبل أفضل، يمكن تحقيق التعايش فيه، ولكنها تفقد وليدها المنتظر بسبب التعنت الإسرائيلي، وهنا لا يصبح هناك مفر من أن تلجأ هي الأخرى للعنف.
الأسلوب يتأرجح بين الوصف التسجيلي، وتأجيج اللحظات الدرامية ومحاولة توليد أقصى ما يمكن من مشاعر، مما أدى إلى وقوع الفيلم في الميلودراما وبالتالي أصبح الحدث خارجيا، بعد أن فشل السيناريو في تجاوز الطرح السطحي للقضية والنفاذ أكثر تحت جلد الشخصيات، والإقتراب أيضا من الطرف الإسرائيلي بعيدا عن تلك النظرة الرومانسية (الأنثوية) التي تلعب على فكرة المثلث النسائي، الذي أفسدت الظروف رغبته في صنع السلام، فلا العدو أمكن أن يصبح صديقا، ولا الصديق ظل صديقا!
ولابد من الإشارة أخيرا إلى أن الميزة الأساسية في كلا الفيلمين تكمن في الإحاطة بالكثير من التفاصيل التي تجعلهما يقتربان من الناحية البصرية، من الرصد التسجيلي. ولاشك أن التصوير الخارجي المفتوح في المواقع الطبيعية للأحداث ساهم في مجيء الصورة على هذا النحو الجيد.


إعلان