دراسات في وثائقيات الثورة “تزهر” في كتاب

أحمد بوغابة / المغرب

تقليد جميل تَقْدِمُ عليه الجزيرة الوثائقية منذ أربع سنوات حيث أصبح موعدا قارا ضمن فعاليات مهرجان الجزيرة للسينما التسجيلية، الذي تحتضنه العاصمة القطرية الدوحة، ويتجلى في إصدار كتاب والاحتفاء به بتقديمه للجمهور والمهتمين والمتتبعين وتوقيعه من لدن مدير القناة نفسه، الأستاذ أحمد محفوظ، الذي يساهم فيه أيضا بنص افتتاحي يُبَيِّنُ فيه اختيارات القناة الوثائقية التي يديرها في علاقتها بالفكر السينمائي الوثائقي والتلفزيوني عامة والنقد المصاحب له على وجه الخصوص. 
ويشكل الكتاب السنوي جزء من الأنشطة المهمة للقناة الجزيرة الوثائقية وامتدادا لجناحها الثاني المتمثل في موقعها الإلكتروني كما قال الزميل حسن مرزوقي، رئيس تحرير الموقع، أثناء تنشيطه للقاء مع الحضور بالمهرجان في دورته الأخيرة عند تقديم الكتاب الرابع الذي يحمل هذه السنة عنوان “ربيع الوثائقي: دراسات في وثائقيات الثورة”. والزميل حسن مرزوقي هو الذي يشرف على إعداد الكتاب والسهر على ظهوره للوجود بشكله الأنيق ومحتواه العميق. وهو عمل يتطلب اجتهاد استثنائي لأنه ليس مجرد تجميع النصوص بقدر ما يتطلب منه التعمق أكثر فيها.
فقد اعتمد الزميل حسن مرزوقي في نصه الافتتاحي للكتاب الرابع بالأسئلة حول الأفلام الوثائقية التي ظهرت إبان هذا الربيع وعن منهجية قراءتها ونقدها منطلقا من مشهد اليوتوب عن ذلك المحامي والحقوقي التونسي الذي خرج إلى الشارع بالليل رغم منع التجوال للإعلان عن هروب بن علي وبالتالي سقوط النظام وظهور صباح جديد للربيع العربي. تساءل حسن مرزوقي أيضا عن الجمالية في الأفلام الوثائقية التي تناولت الربيع العربي حيث الكاميرا ليست مجرد آلة للالتقاط صور بل هي وجهة نظر وفكر وجمال تحدد المبدع من عدمه. مؤكدا في ذات الوقت أن الإنتاج السينمائي والتلفزيوني لأهم حدث عرفته بعض الشعوب العربية هو في تطور مستمر في مقاربتها له فنيا دون الحط من قيمة الأفلام التي تم إنجازها ضمن مختبر الثورة. كما يعرض الزميل حسن مرزوقي في افتتاحيته المنهجية التي اعتمدها في تكوين فصول الكتاب الأربعة حيث بناه بعودة تاريخية إلى الماضي والوقوف النقدي عند إنتاجات الحاضر ثم استشراف المستقبل، سواء بالتركيز على الأفلام بعينها أو الأحداث التاريخية، فجمع بين النظرية والمعالجة النقدية وهي معادلة حاضرة في الكتاب.
جميع النصوص الواردة في الكتاب المذكور هي منتقاة من المنطلقات السالفة الذكر، وسبق نشرها في موقع الجزيرة الوثائقية ضمن مجلتها الإلكترونية الفصلية حيث كان الموضوع المركزي للسنة الماضية 2013 يتمحور حول الأفلام الوثائقية للثورات العربية نقدا ودراسة ومتابعة وتحليلا. وعليه، فقد تم توثيقها في كتاب ورقي احتفاظا على ثقافة القراءة بإعطاء حق الاختيار وتوسيع مجال القراءة وأشكالها بهدف الوصول إلى كل الفئات من القراء.

ومن التقاليد السنوية الإيجابية أيضا، التي سنها المشرفون على هذه الإصدارات القيمة، هو فسح المجال لأحد الأسماء البارزة في الحقل السينمائي العربي لتقديم الكتاب حيث حضر هذه السنة الناقد المصري سمير فريد بنص عنونه ب”مقدمة عن سينما الربيع العربي” بالحديث عن التحولات التي شهدتها الإنسانية في العالم مع مطلع الألفية الثالثة التي بدأت عنيفة بأحداث 11 شتمبر 2001 وبعد عقد من ذلك (2011) انفجرت الثورات العربية لتؤكد على وجود “عالما عربيا” محللا البعد السياسي للأنظمة العربية التي حدثت فيها الثوارات وربطها بما حدث في أوروبا الشرقية في آخر عقد من الألفية الثانية التي ودعناها قبل عقد من الزمن ليقارن بينهما. كما توقف عند التطور التكنولوجي للصورة في وسائل الاتصال كثورة أساسية في مواكبة هذه الثورات والتعريف بها. ليخلص في الأخير أن الألفية الثالثة قد عرفت ما يمكن اصطلاحه ب”الديمقراطية السينمائية” بفضل الوسائل الجديدة للتواصل.
يحتوي الكتاب على أربعة فصول تحت عناوين فرعية تجتمع فيها نصوصا ومقالات ودراسات تتقارب في ما بينها أو تتقاطع حسب منهجية الكتابة والتحليل لكل كاتب/ناقد/باحث ومرجعياته. وهذه العناوين هي على الشكل التالي: “مشاريع وثائقية بشَّرت بالثورات” و”الثورات والصورة ونصيب التوثيق” و”محاولة في تقييم أفلام الثورات” وفي الأخير “آفاق ثورية: آفاق وثائقية”. فقد حاولت النصوص إيجاد معادلة بين الإنتاج والنقد في الأفلام التي تناولت الثورات العربية وواكبتها. وقد اجتهد مُعِد الكتاب الزميل حسن مرزوقي في استحضار أسماء مختلفة من حساسيات فكرية ونقدية متعددة، وأيضا من أجيال متفاوتة السن أو متقاربة دون السقوط في تلك المقولة الفجة القائلة ب”صراع الأجيال” وإنما التجأ إلى ذلك رغبة منه في إغناء محتوى موضوع البحث، فكان التفاعل جيد في الكتاب حيث لا تطغى نظرة ما على الأخرى. وهو ما أعطى للكتاب ذلك الغنى الذي يحتويه ببعد فكري متعدد فتشكلت صورة ديمقراطية بألوان قوس قزح حيث نجد إسم المخرج والناقد والباحث والسينمائي الكبير هاشم النحاس ومعه الناقد المتميز عدنان مدانات وكذا ابراهيم العريس إلى جانب النقاد الشباب كرامي عبد الرزاق ومحمد اشويكة ووسيم القربي وبينهما جيل وسط كبشار إبراهيم وعصام زكريا وأحمد القاسمي على سبيل المثال لا الحصر. كما تنتمي الأسماء التي ساهمت في الكتاب إلى جنسيات عربية من أقطار تمتد من البحر إلى البحر. وأحيانا قد نجد أكثر من إسم من بلد واحد باختلافاتهم العلمية والمنهجية لتأكيد على أن الأمر ليس مرتبطا بالجنسية أو البلد أو بالسن وإنما لحرية الفرد نفسه. وبالتالي، فلن يجد القارئ نفسه مغلقا في إطار ضيق واحد بل النصوص مفتوحة ضد القوالب الجامدة ما دمنا بصدد الحديث عن الثورات العربية التواقة للحرية والديمقراطية، فكان الكتاب أفضل جواب وبالملموس الذي تفوق فيه زميلنا المشرف على إعداده لهذه الروح الجديدة التي يسافر ريحها الآن في مختلف أقطار الخريطة العربية. الكتاب شامل وفي ذات الوقت نفسه تتميز نصوصه بالاستقلالية.
الكتاب “ربيع الوثائقي: دراسات في وثائقيات الثورة” الصادر عن “الجزيرة الوثائقية” في هذه السنة 2013 هو مجهود فكري وجمالي من مُعِده بالقَدْرِ نفسه لأصحاب النصوص باعتبار انتقائه لها جزء من صياغة الكتاب من منظور تحريري للعنوان الرئيسي، ولتقسيم مواده إلى فصول منسجمة أو متكاملة ضمن خط التحرير الذي يعتمده للوصول إلى المبتغى العلمي في نهاية المطاف كنتيجة التي نقرأها. والكتاب هو أيضا وثيقة متعددة الأصوات والأقلام كأرضية للعمل مستقبلا على تقييم وإعادة تقييم الأفلام التي تم الوقوف عندها والتي قد تشكل قنطرة لإنجازات سينمائية قادمة بعد المسافة التي سيفرضها الواقع الجديد حينها، غدا أو ربما بعد عقد أو أكثر مما نتصور.  


إعلان