” المنزل الذي نعيش فيه ” او حرب امريكا الطويلة
طاهر علوان
انها حرب طويلة ، كلمة يكررها الساسة في الولايات المتحدة الأمريكية مرارا ولايملون تذكير الرأي العام بها وما تلبث تلك الحرب الواحدة ان تتفرع الى حروب اخرى تضطلع بها الإمبراطورية لتحقيق قيم امريكا في الديموقراطية والعدالة وحقوق الأنسان وكان من ثمارها حرب الثنائي بوش الأب والأبن وهذا الأخير الذي اضاف لها قداسة في واحدة من شطحاته و احاديثه وخطبه طيلة قرابة عقد من الزمن عندما كان يتحدث عن ما يسمى الحرب على الإرهاب في مقاربة قوامها ومعادلها الموضوعي الحرب على الأسلام ونسف القيمة والمكانة والسمعة والوجدود الأسلامي من الداخل في عدد من الحواضر والحالات وصولا الى التجييش الأعلامي الذي لم يتوقف يوما عن ايصال فكرة ان الأسلام ليس الا دين شر كما يذهب متطرفون وشوفينيون متعصبون كثر.
لكننا سننتقل الى واحدة من حروب امريكا بل هي الحرب الحقيقية لها والأطول على مر تاريخها على الأطلاق وحتى اليوم ، انها حربها مع ذاتها وفي دخل المجتمع الأمريكي ممثلة في الحرب على المخدرات وهو مايناقشه هذا الفيلم الوثائقي المتميز ” المنزل الذي نعيش فيه ” للمخرج “ايوجين جاريكي” والذي كان قد توج في مهرجان سندانس وعرض باهتمام كبير في مهرجان امستردام الدولي للسينما الوثائقية في دورته الأخيرة .

الحقيقة الصادمة الأولى التي يقدمها الفيلم بعد بحث معمق في الظاهرة وتجوال مضن في اكثر من 20 ولاية امريكية ، هذه الحقيقة الصادمة تقول ان امريكا حققت اعلى رقم على مستوى العالم في عدد السجناء المتهمين بقضايا المخدرات اذ بلغ عدد هؤلاء السجناء 45 مليون سجينا واذا علمنا ان عدد سكان الولايات المتحدة يشكل مامجموعه فقط 5% من عدد سكان العالم فأنها في المقابل لديها 25 % من عدد السجناء في العالم اي بمعدل مواطن امريكي واحد من كل مئة هو في السجن وهي اعلى نسبة في العالم كما ذكرنا على ان الظاهرة بدأت بالنمو والتفاقم ابتداءا من خمسينيات القرن الماضي وعششت ونمت بالتدريج في تجمعات السود حيث الفصل والتممييز العنصري والعرقي آنذاك ، مجتمعات الفقر وانعدام المساواة وانعدام العدالة الأجتماعية حتى بلغ عدد المحكومين بجرائم المخدرات حتى هذه الساعة قرابة نصف مليون امريكي يقبعون في عشرات السجون في انحاء الولايات المتحدة خاصة بعد ان تضاعفت اعداد متعاطي المخدرات كما المعتقلين بسببها بنسبة 126% ابتداءا من العام 1980 وفي هذا العام تحديدا اعتقل مليون ونصف المليون امريكي على ذمة قضايا تتعلق بالمخدرات وسجن نصف مليون منهم بعقوبات جزائية ..
يعود الفيلم بالذاكرة الى جذور مقولة العدو الرقم واحد لأمريكا مؤكدا انها بدأت تنتشر وتشيع وتتحول الى لازمة متكررة ابتداءا من مطلع الستينيات من القرن الماضي ولم تكن الأعلانات والبرامج الدعائية وحملات السياسيين الأنتخابية الا الواسطة الفعالة التي رسخت اسم ومعنى هذا العدو في اوساط الرأي العام .وهو ذات المعنى الذي تصدى له رؤساء امريكا على تعاقبهم من جونسن (1963-1969) وحتى اوباما ( 2009- …..) لكن الملفت للنظر هو ان تعلن اعلى هيئة امريكية لمكافحة المخدرات ان الحرب على المخدرات قد فشلت على مستوى العالم او هي في طريقها الى الفشل وذلك في اعلان رسمي نشر في حزيران يونيو 2011 هذا اذا علمنا انه منذ العام 1971 مثلا بلغ مجموع ماانفق على حرب المخدرات الف مليار دولار وبلغ مجموع من تم سجنهم منذ ذلك التاريخ على ذمة قضايا مخدرات اكثر من مليونين ، ومعلوم ان العام 1971 شهد اعلان الرئيس الأمريكي نيكسون ( حكم 1969- 1974) الحرب على المخدرات .

يعرض الفيلم من بين مقابلات عدة ، مقابلة مع ” ديفيد سيمون ” الباحث في شؤون المخدرات الذي يقول : ان المشكل يكمن في سهولة انتشار المخدرات في اوساط المراهقين بشكل خاص ، ولاننسى ان صورها في وسائل الأعلام وافلام الكارتون ومشاهد التعاطي التي تظهر في مئات الأفلام السينمائية كان لها دور مباشر وغير مباشر والحصيلة هي ان الولايات المتحدة هي الأولى في الأنفاق على المخدرات وانتشارها ومليارات الدولارات انفقت على ادارة سجون خاصة بالمطلوبين على ذمة قضايا مخدرات فضلا عن مئات من رجال الشرطة والمحققين والقضاة والباحثين الأجتماعيين والنفسيين “.
ومقابلة اخرى مع الباحث ” ديفيد كنيدي ” المتخصص في العدالة الجنائية الذي يذهب الى ان المشاهد المتكررة لألقاء القبض على مراهقين بتهمة الأتجار والتعاطي تثير العديد من علامات الأستفهام ، انهم باختصار لديهم شعور برفض المجتمع ، يشعرون بوطأة غياب العدالة الأجتماعية وذلك مايؤكده ايضا الدكتور ” غابور مايت ” المتخصص بالمعالجة النفسية للمدمننين في مقابلة اخرى بقوله ” ان من اعالجهم هم اناس محبطون ، متألمون ، ضائعون ، يعيشون في دوامة لاتنتهي وسط نظام اجتماعي لايلتفت اليهم ، مثال على ذلك ” موريس تيوانجر” المحكوم حاليا ، بدأ تعاطي المخدرات وبيعها منذ كان عمره 14 عاما ، وهو يعيش في كنف عائلة متورطة مابين جرائم القتل والسرقة وتعاطي المخدرات ، فماذا نتوقع ان يكون سلوك ذلك المراهق ؟”.
” اياوا ، نيبراسكا ، ميسوري ” هذه هي الولايات الأمريكية الأشهر في تجارة المخدرات والحواظن الأكبر لها وهي التي تروج الى ان المخدرات الأمريكية هي الأرخص والأحسن جودة والأقل سعرا ..
هذا مايؤكده الفيلم وهو يغوص في وسط هذه الدوامة التي يعيشها المجتمع من الداخل ، انه يغوص عميقا في تقصي الظاهرة من خلال كم كبير من المقابلات مع قضاة واطباء ومدمنين وغيرهم والحاصل اننا ازاء اشكالية معقدة للغاية لاسبيل للأحاطة بها بسهولة لأنها تبدو في شكل اخطبوط متشعب تداخلت فيه المشكلات والتعقيدات الأجتماعية والتمايز الطبقي مع مستحدثات التكنولوجيا وسهولة الأتصال وظهور اجيال من الهامشيين والمحبطين الذين لايشعرون بأي شكل من اشكال الأنتماء .

وبموازاة ذلك نجد ان حرب امريكا الطويلة والمعقدة على المخدرات والتي امتدات لأكثر من نصف قرن حتى الآن وماتزال ، يلفت النظر فيها انها تعد حربا غير مباشرة وغير مرئية فكثير من الأمريكيين لامعرفة لهم بمايجري من حولهم بهذا الخصوص ولا يعلمون شيئا عن جسامة تلك الحرب الشرسة وتكاليفها الباهضة وخسائرها الجسيمة .
وينتقل الفيلم الى ماهو خارجي وابعد من حدود الظاهرة المحلية الى حيث الحدود الأمريكية المكسكية التي تعد هي الأخرى معضلة مزمنة بسبب تفاقم ظواهر تهريب المخدرات عبر الحدود الطويلة التي تمتد الى اكثر من ثلاثة الاف من الكيلومترات ومابين التهريب والتسلل عبر الحدود تبرز معضلة الأتجار بالمخدرات تحديا هائلا يقض مضاجع السلطات .
المنزل الذي يعيشون فيه ، منزل الرفاهية يتهدده هذا الوباء وتستنفده جهود شاقة في صراع طويل مع المخدرات ولهذا فأن مايرافق هذه المعضلة هي ظواهر العنف والقتل في بيئات موبوءة تتطلب على الدوام مواجهات مسلحة مع بارونات المخدرات والمرتزقة الذين يعملون تحت امرتتهم ..
هذه الخلاصة وخلاصات اخرى يمضي الفيلم في تتبعها بدقة وموضوعية ليقدم فيلما – رسالة وثائقية غزيرة الدلالة والمحتوى تتصدى لظاهرة متشعبة وخطيرة تفتك بشرائح اجتماعية واسعة وتستهلك مايعادل ميزانيات دول بأكملها ولكن من دون جدوى فالظاهرة تتسع وتتفاقم كل يوم .