“من طهران إلى لندن”: بين التجريد والتجريب

 

أمير العمري
تشهد السينما الإيرانية موجة جديدة تتجاوز الموجة الأولى التي تميزت بها تلك السينما منذ أوائل التسعينيات، وهي الموجة التي نسج مخرجوها على منوال الأب الروحي للفيلم الإيراني الحديث، عباس كياروستامي. الموجة الجديدة لا تنشغل كثيرا بالبعد الاجتماعي على صعيد رمزي، باستخدام الأطفال بدلا من النساء، بل بكسر ذلك “التابوه” الذي كان قائما عند تناول العلاقات المتشابكة بين الرجل والمرأة، وتقترب في الكثير من الأفلام الجديدة التي ظهرت خلال العامين الأخيرين منذ ظهور فيلم “إنفصال”، من التجريب.
ليس المقصود بالسنيما الإيرانية الأفلام التي تنتج فقط في الداخل الإيراني فقط، بل وفي المهجر أيضا، أي خارج إيران من جانب السينمائيين الإيرانيين الذين يعيشون خارج بلادهم، وهم على كل المستويات- الفكرية والجمالية- أكثر تحررا – دون شك- من أقرانهم الذين يعيشون في الداخل.

من هذه الأفلام الأخيرة فيلم “من طهران إلى لندن” (70 دقيقة). هذا الفيلم بدأت المخرجة مانيا أكبري في تصويره في إيران تحت عنوان “النساء ليس لديهن صدور”، لكنها لم تستطع أن تستكمله بعد اعتقال عدد من زملائها في طهران فكان أن غادرت إيران إلى العاصمة البريطانية لندن، حيث إستكملت الفيلم هناك وقامت بتغيير عنوانه.
قامت مانيا أكبري بكتابة وإخراج الفيلم والقيام بالدور الرئيسي فيه أيضا، ويمكن إعتباره فيلما تجريبيا بامتياز، سواء في موضوعه الجريء الذي يعالج للمرة الأولى على هذا النحو من الوضوح والصراحة، المشاكل “الداخلية” بين الرجل والمرأة، ويجمع بين الثنائي التقليدي في مشاهد ولقطات قريبة دون وجود طرف ثالث كما تنص الرقابة الإيرانية، من خلال التركيز على العلاقة بين زوج وزوجة من الطبقة الوسطى في طهران، يقيمان في فيلا فخمة في ضواحي المدينة، تطل على منظر طبيعي مبهر. الزوجة “أفا” (التي تقوم بدورها مانيا أكبري) شاعرة وكاتبة، في حين أن زوجها أشكان رجل أعمال ثري مثير الأسفار.
لا توجد في الفيلم “أحداث” أو خدث يتطور من خلال الصور وتعاقب اللقطات والمشاهد، بل موقف درامي يفجر الكثير من التداعيات، وبالتالي فالفيلم عمل ذهني أكثر منه عمل حركي.
يدور الفيلم تقريبا في مشهد واحد داخل حمام الفيلا الفخمة، حيث تقوم الزوجة بوضع مساحيق التجميل، في حين يحلق الزوج ذقن أمام المرآة. ومن خلال الحوار الطويل المتبادل بين الزوجين، يتصاعد إيقاع الفيلم، وتصل المبارزة اللفظية بينهما في لحظات مختلفة، إلى ذروة التعقيد، لكي تنفرج قليلا، وتترك المشاجرة مساحة لتبادل بعض كلمات التقدير والود ولكن سرعان ما ينكشف هذا النفاق المبتادل الذي يرغب كلا الطرفين في استخدامه للحفاظ على علاقتهما الزوجية، لكي يعود الصراع مجددا بين الزوجين من خلال ذلك الاشتباك اللفظي الذي لا يتوقف أبدا بل ويصل إلى ذروة لا يبدو أنها يمكن أن تهبط مرة أخرى فالفيلم يعكس لحظة تجسدي لاستحالة العلاقة بين الزوجين.
الزوجة مهتمة بالفن والجمال والشعر، والزوج يشكو دائما من إهمالها له واهتمامها بكل شيء فيما عدا تقديم ما يريده، وهي ترفض بالطبع نظرته السلبية إلى المرأة- الزوجة باعتبارها مجرد “خادمة” يجب أن تعمل على  راحة مخدومها، لكنه يأخذ في التبرير والشرح وترد هي عليه لكي يصل الاشتباك بينهما مرة أخرى إلى نقطة اللاعدوة.
خلال ذلك يجرح الزوج ذقنه، بسبب توتره، وتفشل الزوجة في وضع ما كانت تريده من لمسات تجميل، ومع مواجهتهما لبعضها البهض يواجه كل منهما نفسه أيضا.
الإثنان يستعدان للسفر في رحلة معا إلى خارج البلاد.. لكن الشد والجذب القائم بينهما يهدد بعدم تحقق هذا الهدف أي الرحلة المنشودة.. شكوى الزوجة تتصاعد من أنانية الزوج.. وهي تهدد بالامتناع عن الذهاب في حين يصيح هو شاكيا من ضياع كل التكاليف وتبخر العطلة التي أخذها خصيصا من عمله للقيام بالرحلة.
تستعين الزوجة “أفا” بالفتاة التي تقوم على خدمتها في المنزل “مريم”.. الشابة الجميلة الهامسة، في حين يغيب الخادم رحيم الذي يبحث عنه أشكان طول الوقت، عن المشهد.

المخرجة مانيا أكبري

أفا تشعر بالتوتر الشديد بسبب عجزها عن التفرغ لما تحبه أي لعالم الشعر والإبداع، وعدم تفهم زوجها لاهتماماتها ومشاركتها إياها، ويتصاعد تعبيرها عن الشعور بالوحدة، في حين يشعر أشكان أيضا بالوحدة بسبب انفصاله (روحيا) عن زوجته وعدم رضائه عما تفعله.
تغيب مريم الفتاة الجميلة التي تعول عليها أفا كثيرا في مساندتها والتخفيف من وحدتها عن المشهد في النصف الثاني من الفيلم، هنا يتصاعد إحساس أفا بالوحدة بل وبالحصار من جانب أشكان الذي لا يكف أيضا عن التساؤل عن رحيم الغائب.. تحضر شقيقتها “رويا” التي تعيش بدون زواج وتشعر بوحدة شديدة بسبب ذلك.. إنها الشقيقة التي تعتمد عليها أفا في دعمها معنويا.. في مشاركتها جموحها الفني وتطلعاتها وأحلامها، لكن رويا تنصح أفا بالمحافظة على زواجها والإبقاء على علاقتها بزوجها. أفا حملت للمرة الثانية كما نعرف لكنها أجهضت نفسها لأنها تعتقد أن علاقتها بأشكان يمكن أن تنتهي في أي لحظة.. تحين لحظة المواجهة لكن الأمور تنتهي إلى لاشيء.. يستمر الوضع الراهن… تستمر العلاقة الزوجية السطحية المزيفة. يرحل الزوجان معا ولكننا لسنا واثقين من أنهما سيعودان مرة أخرة إلى استئناف حياتهما معا كما كانت.
ربما لا يوجد جديد في الموضوع: استحالة التعايش بين زوجين بسبب تناقض شخصيتهما، لكن الجديد هو أسلوب معالجة الموضوع.
يعتمد الفيلم على ثلاثة عناصر: الحوار والميزانسين والتمثيل. الحوار يتدفق بتلقائية وفي إيقاع سريع يصل أحيانا إلى الذروة، مكتوب ببراعة، وتستخدمه المخرجة كدليل للانتقال من لقطة إلى أخرى. وهي تدير الأداء داخل المشهد بتحكم تام مع مجموعة الممثلين الأربعة (وهي من بينهم).. كما تلعب الإضاءة والتفاصيل الخاصة بالصورة (الخلفية.. الضوء.. استخدام المرايا.. اللقطات المنعكسة..إلخ) دورا بارزا في إضفاء أجواء السجن على الفيلم.. فالشخصية الرئيسية أي شخصية أفا Ava تعاني من الشعور بالوحدة الخانقة، بالعجز عن التحقق، بالحصار، بالإحباط. ويتم التعبير عن هذه المشاعر كلها من خلال حركة الكاميرا التي تحصرها في لقطات قريبة close up معظم الوقت، وتنتقل في حركات عصبية من وجهها إلى وجه أشكان ثم بالعكس مما يزيد الإحساس بالتوتر وتصاعد الاشتباك بينهما.
الإضاءة طبيعية تماما.. إننا نتقبل أحيانا التطلع إلى الطبيعة المزهرة في الخارج، لكننا نشعر معظم الفيلم، بالفضاء الضيق للحمام.. بردهات المنزل الضيقة.. بتحليق السقف فوق الشخصية وهي تتحدث نتيجة اختيار زاوية التصوير من أسفل.

ويستخدم المصور المتمكن، علي محمد قاسمي، الكاميرا المحمولة الحرة بحيث يتمكن من اقتناص التعبيرات المباشرة على وجوه الشخصيات.. ويتمكن من التحرك بسهولة مع تلك الحركة العصبية المستمرة للشخصية الرئيسية (أفا) بحيث يجعل الفيلم كله يبدو كما لو كان رحلة بالكاميرا داخل شخصية مهتزة تشعر بالتمزق بين ما تريده وما تعيشه. إنها تلك الحالة العصابية neurosis التي تصيب المرأة عادة بعد أن تتجاوز حاجز منتصف العمر.
ليس هناك أي نوع من الغمزات في الشأن السياسي على عادة الكثير من الأفلام الإيراني، فمن دلائل إخلاص مخرجة الفيلم لموضوعها أنها تجرده كثيرا من الواقع الخارجي.. من البعد السياسي.. من سطوة المجتمع الخارجي وانعكاساته. إنها تريد أن تتعامل مع “حالة” ذهنية ونفسية أكثر مما تتعامل مع حالة إجتماعية، فهي لا تناقش مثلا التناقضات الاجتماعية أو وجود تلك الطبقة الجديدة داخل مجتمع “الحكومة الإسلامية” مثلا، بل تميل إلى عزل شخصياتها عن المحيط بل وعن الخلفية البصرية من خلال تلك اللقطات القريبة والقريبة جدا وأحيانا المتوسطة في مساحتها على الشاشة، لكي يكون التركيز على الانفعالات، وعلى المشاعر دون أن يترك لنا كمشاهدين مساحة كبيرة للتحليل والتأمل.
إن فيلم “من طهران إلى لندن” تجربة سينمائية وبصرية ممتعة رغم ما قد يسببه للمشاهد غير المدرب من إرهاق.


إعلان