أصغر مخرج يفوز بجائزة حقوق الإنسان ب”الجزيرة”
أحمد بوغابة / المغرب
فاز بجائزة الحريات العامة وحقوق الإنسان بمهرجان الجزيرة للأفلام التسجيلية في صنف الأفلام المتوسطة الطول أصغر مخرج شارك في المسابقة الرسمية وهو جوزيبي كارييري من إيطاليا عن فيلمه « In Utero Srebrenica » (من قلب سريبرينيشا) حسب الترجمة الموجودة في كُتَيِّب المهرجان والذي تم ترجمته أيضا في مهرجان آخر بالفرنسية (في رحم سربرينيشا) فيكون الثاني أقرب إلى الفيلم من الأول باعتبار أن الترجمة صحيحة من الإنجليزية من جهة ومن جهة أخرى وجود حديث أو حوار في الفيلم يتحدث عن “الرحم” من خلال تلك المرأة التي لا نراها حيث أخفت وجهها وكانت قد تعرضت للاغتصاب وشاهدت عن قرب “اقتلاع” رحم أمها بعد اغتصابها. هذا إذا تحدثنا بشكل مباشر عن العنوان. علاقة “الرحم” بالفيلم وثيقة جدا بحيث نشاهد طيلة 55 دقيقة النساء/الأمهات يتحدثن عن أبنائهن المختطفين قسرا وتم اغتيالهم في ما بعد، يتحدثن عن فلذات أكبادهن خرجوا من رحمهن.

ونُذَكِّرُ بأن المهرجان المذكور قد اختتم فعاليات دورته التاسعة في الأسبوع الماضي بالدوحة، عاصمة قطر، وعرف كثير من الأنشطة الفكرية أيضا إلى جانب العروض المختلفة.
الصدفة وحدها – وليس بتفكير مسبق – وراء نشر هذا النص يوم عيد ميلاد المخرج الشاب. فقد ازداد جوزيبي كارييري يوم 28 أبريل من سنة 1985 بمدينة نابولي جنوب إيطاليا. وقد وصل سنه هذا اليوم بالضبط إلى 28 سنة التي لا تبدو على ملامحه الطفولية وكأنه لم يخرج منها بتصرفاته العفوية وحبه للحياة وللناس والأجواء المرحة المعروفة عن الإيطاليين إذ هي جزء من ثقافتهم. بدأ جوزيبي الإخراج السينمائي قبل سنتين فقط، في سنة 2010، بفيلم روائي قصير لينتقل مباشرة بعد ذلك إلى الفيلم الوثائقي حيث في جعبته الآن 8 أفلام قصيرة أو متوسطة الطول حصلت بعضها على جوائز وتنويهات. وكانت بدايته المهنية كمصور صحفي ومراسل لبعض القنوات أو المؤسسات الإعلامية.
… وفاء الأمهات
لم نر قط طيلة مدة الفيلم رجلا يتحدث إلينا أو يحكي معاناته لنا. وحتى ممثلي الهيئات الدولية وأطبائها لم يكونوا من الرجال قط وإنما فقط من النساء. وأغلب النساء مُسنات وتبدو على وجوههن آثار الزمن الصعب الذي عايشوه عن كثب بشكل يومي. وفراقهن عن أبنائهن الذين لا يعرفن مصيرهم. هذا الاختيار الذي اعتمده المخرج كهدف لإنجاز فيلم عن المرأة/الأم/الزوجة باعتبارها الحلقة الضعيفة في الصراع وفي ذات الوقت الأقوى فيها بصمودها وتحملها لكل الصعاب وتُشَكِّل ذاكرته أيضا. فقد أخرج المخرج من إطار صُوَرِهِ / لقطاته / مَشَاِهِده الرجل بشكل مباشر ولم يعطه الكلمة إلا من خلال مشاهد من الأرشيف لأحد زعماء الصرب حينها راتكو ميلاديتش حيث كان يتحدث للتجمهر من السكان المواطنين الذين كانوا تحت رحمته حيث فصل النساء عن الذكور ل”ينجز” مجزرته في يوليوز 1995. وهذا المشهد ليس من إنتاجه وإنما استشهد به فقط لتأكيد كلام النساء عنه. أعطى الكلمة إذن فقط للأمهات واقتصر عليهن بشكل قطعي بينما نرى الرجال في ومضات (فلاشات) قصيرة بدون ملامح يتعرضون للاعتقال والتنكيل والقتل دون الإطالة فيها أو التمطيط لإثارة عواطفنا بقدر ما تركنا نركز على الأمهات بوضعنا أمامهن في الكادر (الإطار) نستمع إليهن وهن يحملن صور أبنائهن أو تحيطهن الصور الكثيرة المعلقة في الغرف وغرفة اللقاءات للمفقودين أو المغتالين.
هذه الرؤية الإخراجية للمخرج باشتغاله على التقارب بين الصورة التي تحمل في طيها حكايات معاشة محكية من أصحابها (اختار النساء/الأمهات) والشريط الصوتي الذي نسمع من خلاله أصوات طلقات النار كتأكيد على أن جرائم القتل والإبادة تمت خارج إطار القانون وفي جنح الظلام وبدون شهود. وهي بالتأكيد كانت بشعة بمخلفاتها التي سنكتشفها خلال تقدم زمن الفيلم لتبقى الشهادات المرئية / البصرية هي بقايا العظام وحاجيات أصحابها كأدلة قاطعة على الإبادة حيث قالت إحدى النساء في بداية الفيلم أن “هذا البلد مليء بالعظام”. وستؤكد أخرى في ما بعد لنفس الفكرة بقولها أن “هذه الأرض حمراء بها كثير من الحديد لا تعرف أين يبدأ الدم وأين ينتهي التراب”.
يبدأ الفيلم بشاشة سوداء لبضع ثوان بينما نسمع رنينا يشبه الأصوات التي نسمعها عادة في أفلام الخيال العلمي. فلا ندري هل هو ظلام الليل أم ظلام التاريخ؟ فهو يؤهلنا منذ البداية للاستعداد لمواجهة أزمة إنسانية جرت أطوارها في نهاية القرن العشرين وفي قلب أوروبا “المتحضرة / الديمقراطية / العقلانية / المتقدمة علميا”.

وستتجلى، من خلال ذلك الظلام، خيوط العنكبوت وهي إحالة فنية جميلة باعتبار أن الجميع يعرف أن وجود خيوط العنكبوت في مكان ما أنه مهجورا ومر الزمن عليه. وحين غرس كاميراته داخل تلك الخيوط لإزالتها وبالتالي تنظيف التاريخ وما إلتصق به من شوائب الماضي المرير تظهر الأسلاك الشائكة بين العشب كعرقلة للرغبة المُعلنة، وأن حاجز مازال قائما أمام التاريخ. ثم جسم إمرأة غير واضحة المعالم تشق طريقها وسط الغابة كأنها تائهة وهي تتحدث بصوت خارج إطار الصورة تقول: “ثلاثة أسئلة نتهرب من طرحها في أيامنا هاته، وهي 1) ماذا كنت تفعل خلال الحرب؟ 2) كيف حال زوجك؟ 3) كيف حال إبنك؟ وسيتبين لنا هنا ضوء النهار على أنه أول خطوة بكتابة التاريخ وبالضبط البحث عن المفقودين حيث ينتقل بنا المخرج بعرض علينا في الشاشة مجموعة من الصور ملتصقة مع بعضها لمختلف الأجيال من الرجال – شابا وأطفالا وكهولا – ونسمع في نفس الوقت طلقات الرصاص. هنا يكمن ذكاء المخرج في تشكيل فيلمه فنيا بإمكانيات متواضعة بما توفر لديه وليس البكاء عن غيابها وغلاء الأرشيف للاختباء وراءها وتبرير العجز. يمكن للإبداع أن ينطلق من لاشيء تقريبا لصنع ما هو أجمل. بعد ذلك يتوقف عند مسيرة الأمهات في الساحة الرئيسية في شكل دائرة شكلتها قطع الأثواب المربوطة ببعضها كمصير واحد حيث كل أُمٍّ قامت بطرز إسم إبنها وتاريخ ازدياده إذ لم يكتفين بكتابها بالمداد فقط.
… وَلَوْ الرفات
يتقدم بنا زمن الفيلم فنعرف أكثر عن الأحداث وما وقع من مجازر وقتل وإبادة من أفواه الأمهات. تقول إحداهن بأن شعبها عاش تراجيديا حقيقية. كان الرجال من مختلف الأعمار – حتى الأطفال منهم – يُساقون إلى المقابر الجماعية لمن لم يستطع الفرار والهروب نحو المناطق الأخرى الأكثر أمانا أو خارج سريبرينتشا. كانت بعض الأمهات يتوقفن أحيانا لكي يسردن لحظات الفراق ولا يعلمن هل وصل أبناؤهن إلى بر الأمان حيث اكتشفت بعضهن، بعد سنوات طويلة، أن كثير من أبنائهن سقطوا في أيادي الصرب وتم اغتيالهم بينما كن يعتقدن بأنهم أفلحوا في الهروب. وبموازاة مع ذلك كان الجيش الصربي ينتقم من النساء، حين لا يجد الرجال، بالاغتصاب إلى حد بقر رحمهن. ولم يقتصر ذلك على الفتيات أو النساء الشابات بل حتى المتقدمات منهن سنا وهذا ما جاء على لسان كثيرات في مواجهة الكاميرا باستثناء واحدة التي كانت تعطي للكاميرا بظهرها والتي لم يعد بإمكانها الحمل والولادة جراء ما تعرضت له.
منهن من فقدن 150 فردا من عائلتهن وأخريات تشتت أسرتهن وكلهن ينتظرن العثور على رفات أولادهن. فهو الأمل الوحيد، والمطلب الوحيد، لديهن ولا يردن من أحد غير ذلك لمساعدتهن في تحقيقه قبل وفاتهن. لقد شكلن هيئة للتضامن في ما بينهن بعد أن استقرت الأوضاع نسبيا وهدأ الرصاص وصوت المدافع والهجوم المباغت.

لكن الفيلم غلب عليه الطابع الصحفي المحقق من خلال التصوير والمونتاج وليس هذا نقص من قيمته بل يمكننا القول أن المخرج أراد أن يطلعنا ويعرفنا عما جرى بلسان النساء أكثر من أي شيء آخر حيث يبدوا جليا أنه احترم تلك الوجوه النسائية وتعاطف معها بتأطيرها صحبة صور أولادهن في إطار يسمح لهن بالوجود. هن اللواتي يعشن، منذ سنوات، مع الموت والغياب والفقدان بجانب أمل العثور ذات يوم على الرفات. صَوَّرَهُنَّ بعطف وحب وتقدير.
بعد ما عرَّفَنا على القصص التراجيدية الواقعية والحقيقية لتلك الأمهات، يعرض علينا لائحة من أسماء ضحايا العنف الذي شهدته سريبرينتشا ويصور وجوه تلك النساء بلقطات جد مكبرة. وهو ما يؤكد ما أسلفناه عن تعاطفه معهن ليعود بنا إلى تلك المرأة في الغابة التي بدأت تحفر الأرض بالفأس ثم بيديها في الليل بحثا عن إبنها باقتناع أنه دُفِنَ فيها وتقول عنه “هو الآن يناضل من تحت الأرض وسينبث منها كالشجرة التي تخرج إلى سطح الأرض.. وإذا نجح ستكون أجمل شجرة في البوسنة”
لينهي فيلمه بفراشة داخل زجاجة تتحرك فيه كالجنين في الرحم ثم على السواد من جديد ليُختم بإهداء “إلى من بقوا ومكثوا…” (هل لمن هم على قيد الحياة؟… أم الذين مازالوا يناضلون في البوسنة؟…) .