المهرجان الدولي بفرايبورغ: الاحتفاء بسينمات الشعوب

وسيم القربي – سويسرا

تسنّت لي الفرصة مؤخرا لكي أكون عضوا في لجنة تحكيم النقد السينمائي في المهرجان الدولي للفيلم بفرايبورغ بسويسرا في دورته السابعة والعشرين وذلك خلال الفترة الفاصلة بين 16 و23 مارس، وقد كانت هذه التظاهرة سانحة لمشاهدة مجموعة هامة من الأفلام العاكسة لثقافات مختلفة واكتشاف مدينة جميلة زادت من رونقها جمالية الحركية السينمائية والمتابعة الكثيفة لعشاق السينما.

سويسرا الحلم… ضجيج الصمت:
من نافذة الطائرة يراود الناظر الجمال السويسري وتسحره الجبال البيضاء التي تكتسيها الثلوج، من بعيد تلوح بحيرات تكاد تخالها بحارا لشساعة مساحتها. عندما تطأ قدماك أرض جنيف تستقبلك نسمات باردة تقابلها ابتسمات ترحاب من هنا وهناك، يسلك القطار طريقه ليتجوّل بين الثلوج والأراضي الخصبة ويصل بعد ساعة ونصف إلى مدينة فرايبورغ التي تحتضن الدورة السابعة والعشرين من المهرجان الدولي للفيلم.
في هذه المدينة الهادئة لا شيء كان يدلّ على احتضانها لمهرجان سينمائي ما عدى اللافتات العملاقة، شوارع شبه خالية وأزقة أثرية لمدينة تراوح بين الأصالة والحداثة والتي تعود بناياتها التي لازالت محافظة على خصائصها المعمارية إلى القرن الثالث عشر. غير أنّ ما المفاجأة الكبرى حين نكتشف أنّ سكان المدينة خلال هذه الفترة “يقطنون” القاعات السينمائية. قاعات ومركبات سينمائية تكتظ بعشاق السينما الذين ينتظرون بفارغ الصبر أملا في إيجاد تذكرة لولوج قاعات السينما واكتشاف أفلام قادمة من هنا وهناك.
السينما في هذه المدينة هي المحرّك الفعلي لتأجيج حركية تحت الأرض، هناك في ذلك العالم السفلي تعتلي الصورة السينمائية عرش الثقافة وتولول زغاريد العشق السويسيري وتتحرّك الأيادي للتصفيق عند بداية الفيلم ونهايته. وعلى غرار التنظيم المحكم والاحترام المذهل في طرقات فرايبورغ، يسيطر الصمت على القاعات لتحتفي الأبصار برقصات الصورة.

وثائقي “الأخوات الثلاثة” يصنع الحدث…
كان المهرجان الدولي للسينما بفرايبورغ فرصة للاحتفاء بسينمات الشعوب، حيث شاركت أفلام من مختلف الدول مثل كوريا الجنوبية واليابان والصين والفيتنام والعربية السعودية والأرجنتين والمكسيك وألمانيا… كما استضافت المدينة الفنان “شارل أزنفور” واللاعب السابق لفريق مانشستر يونايتد “إريك كونتونا” للحديث عن فيلمه ولقاء الطلبة وتلاميذ المدارس…
وقد توّج فيلم “الأخوات الثلاثة” للصيني “وونغ بينغ” بجائزة المهرجان “النظرة الذهبية” وثلاث جوائز أخرى مما خلق جوا من المرح لدى الحاضرين باعتبار سيطرة هذا الفيلم الوثائقي على أغلب جوائز المهرجان. كما تحصل الفيلم الأرجنتيني “لوس سالفاجاس” للمخرج الأرجنتني من أصل سوري “أليخندرو فاضل” على جائزة لجنة التحكيم الخاصة.
بالرغم من أنّ الفيلم الوثائقي “الأخوات الثلاثة” قد امتد عرضه طيلة 153 دقيقة، وبالرغم من بطئ النسق السردي فقد استطاع هذا الفيلم أن يحصد نجاحا منقطع النظير وهو من إنتاج سنة 2012 – فرنسا وهونكونق. يوثق الفيلم ليوميات ثلاثة أخوات تعشن فقرا مدقعا في أحد القرى، ولعل أهمّ خصوصيات هذا الفيلم هو تمكن المخرج من رصد واقع مرير بطريقة كاميرا المراقبة حيث لم تكترث الشخصيات بتاتا بعدسة الكاميرا، وقد اعتمد المخرج بساطة جعلت الفيلم يمرّ من مجرّد نقل بديهي إلى معالجة سينمائية فريدة من نوعها. “الأخوات الثلاثة” في ظاهره نقل واقعي لإنسان لا يختلف في طريقة عيشه عن الحيوان لكنه يحمل في باطنه عمقا نقديا من جانب إيديولوجي واجتماعي واقتصادي، وهو نافذة إحساس تهتم بإنسانية الإنسان.

الفيلم السعودي “وجدَة”… جائزة الجمهور:
في دورة قياسية حسب ما صرّح به المدير الفني للمهرجان “تيري جوبان” حيث واكب المهرجان داخل القاعات السينمائية 36 ألف متفرّج، وقد ترك فيلم “وجدة” للمخرجة السعودية “هيفاء المنصور أطيب الإنطباعات وتحصل على جائزة الجمهور. عالج هذا الفيلم واقع المجتمع السعودي من زاوية غير معتادة وأظهر صورا خفية جاءت في مجملها نقدية، وهو ما فتح باب التسويق والعرض بداية من شهر أفريل في القاعات السينمائية السويسرية.
المهرجان الدولي للفيلم بفرايبورغ كان فرصة للاحتفاء بسينمات الشعوب بين جمهور عاشق للسينما وترحاب منقطع النظير. لقد كانت اللقاءات فرصة للقاءات حميمية وتقارب ثقافي تغذيه جغرافية الإحساس وأبعاد الصورة السينمائية التي تتجاوز الشاشة لتقتحم القلوب.
سويسرا الحلم… هناك نستمع إلى ضجيج الصمت، ضجيج صامت وصورة تؤجج حُرقة العشق السينمائي وتجعلنا ننتظر بفارغ الصبر الدورة القادمة من 29 مارس إلى 5 أفريل 2014.


إعلان