ضعف البناء السينمائي في الفيلم الروائي الفلسطيني

فيلم “لما شفتك” نموذجا

أمير العمري
المبدأ الثابت في الفن عموما، وفي الفن السينمائي بوجه خاص، أنه كلما كان السياق السينمائي أو السياق السردي narrative مركبا، كلما كان أكثر رونقا وجاذبية. وليس المقصود بالسياق المركب هنا.. البناء المعقد الذي يجعل العمل السينمائي (الفيلم) يستغلق على الفهم، أو يصبح مثل الأحاجي والألغاز ويقتضي مذكرة تفسيرية مثلا، أو يصبح عملا “نخبويا” بعيدا عن إستيعاب الجمهور المتوسط وقدرته على الاستقبال.

إن السياق السردي هو المسار الذي تتخذه رواية الأحداث إذا كانت هناك أحداث بالمعنى الدرامي، أو طريقة عرض وتقديم ما يتضمنه الفيلم من عناصر مرئية، أو تجسيد “الحالة” الدرامية أو الشعرية التي يجسدها الفيلم. ومهما كان الفيلم خارج عن الأنواع genres السينمائية المألوما فة التي تخضع لنظام تصنيف محدد، فدائما يكون هناك شكل للسرد، منهج، طريقة لتقديم الأحداث/ الشخصيات/ الحبكة/ المضمون/ الفكرة.

أما “البناء السينمائي” (الدرامي) فيعتمد على شخصيات محددة قد لا تبدو أن هناك صلة مباشرة بينها، إلا أنها يمكن أن تؤدي إلى “بؤرة” فيلمية تتجمع من حولها الأحداث، وقد تعود لكي تنبثق منها مجددا، لتتفرع وتتشابك ثم تلتقي في النهاية أو تنسحب نحو بداية جديدة يمكن للمشاهد أن يتخيلها بعد أن تنتهي أحداث الفيلم وينزل الستار عليه، ويغادر الجمهور دار العرض.

آن ماري

يتكون سياق السرد من نقاط محددة وخطوط تصل بين هذه النقاط، لا يكون لكل منها بالضرورة “ذروة” درامية خاصة، بل هي محاور إرتكاز تقوم عليها الدراما السينمائية.. تماما مثل الأعمدة التي تقوم عليها العمارة أو البناء أو الهيكل المعماري. هناك إذن “البناء” وهناك “الشكل السردي”.

 البناء الفيلمي هو باختصار، هيكل الفيلم، أي محتوى السيناريو الذي يكون من مشاهد محددة تنبثق منها لقطات متنوعة.  أما شكل السرد أو الحكي فهو الإطار الذي يوضع فيه المحتوى، ويمكن له أن يكون تقليديا صاعدا نحو ذروة تتعقد عندها الخيوط الدرامية قبل أن تسير نحو الحل أو النهاية أو ما يسمى في الدراما الأرسطية بـ”التطهير”. ومن الممكن أيضا أن يكون شكل السرد متعرجا، أي يسير في خطوط صاعدة ثم هابطة، وهنا من الممكن أن يتداخل الماضي مع الحاضر، والمستقبل مع الماضي، والخيال مع الواقع، ويمكن أيضا أن يتفتت المشهد (عن قصد بالطبع وبطريقة مدروسة تماما) إلى شذرات بصرية أي لقطات قصيرة جدا تتداعى أمامنا على الشاشة.

هذا الشكل هو ما يمكن أن نطلق عليه “الفوضى الظاهرية” التي تخضع لتنسيق داخلي دقيق ومحسوب مسبقا، لكنها توحي بالانسابية والتلقائية وتجعل الفيلم يبدو كما لو كان يتدفق إلى الأمام من تلقاء نفسه، وبدون تدخل قصدي من الكاتب- المخرج- المونتير. هذه العناصر الثلاثة هي التي يقوم عليها الفيلم في صورته النهائية. أما باقي عناصر الفيلم مثل: الديكور، التصوير، الملابس، التمثيل…وغير ذلك، فهي عناصر أساسية لكنها تكمل عمل العناصر الثلاثة الأولى، أي أنها عناصر تكميلية تساهم في “حشو” الهيكل ودفع الحياة داخل الشخصيات التي رسمها كاتب السيناريو، ويحركها المخرج داخل ذلك الهيكل، ويتحكم المونتير في إيقاعها وفي سرعة الانتقال من مشهد إلى آخر، ومن لقطة إلى لقطة أخرى.

وليس من الممكن بالطبع أن نقطع هنا بأيهما أحسن، فهل الأحسن أن يكون البناء السينمائي تقليديا أم حداثيا. لكن البناء السينمائي المركب يظل هو الأكثر رونقا وجاذبية وعمقا، فهو الذي يمنح الفيلم السينمائي قيمته وقوته. إنه الفرق بين البناء السطحي الذي لا يقف فوق أعمدة، والبناء السينمائي العميق الراسخ الذي يستند إلى أسس حقيقية.

من هذا المدخل النظري ننتقل إلى الحديث عن الأفلام الفلسطينية الروائية الحديثة التي تظهر من وقت إلى آخر، باستثناء الأفلام التي يخرجها ميشيل خليفي.

إن مشكلة هذه الأفلام أنها تخضع لبناء سطحي عادة، وشكل سردي بدائي، أي يطمح لرواية حكاية بسيطة تبدو كما لو كانت موجهة للأطفال، رغم أنها موجهة أساسا للكبار. وليس معنى هذا بأي حال التقليل من شأن الأفلام التي تخاطب الأطفال فهي تتطلب مهارة خاصة وتوفر خيال خاص يمكنه الوصول إلى عقول وقلوب الأطفال. أما ما نقصده فهو أن معظم هذه الأفلام (الفلسطينية) هي أفلام تتصف بنوع من السطحية سواء في السرد أم في البناء.

ولعل السبب الرئيسي الذي يجعل الأفلام الفلسطينية التي يخرجها سينمائيون يعيش معظمهم في المهجر، أو في الشتات الفلسطيني، سطحية وساذجة ومباشرة، يكمن في غلبة الرسالة السياسية على مادة وفنيات الفيلم نفسه كفيلم، مع ضعف واضح في الخيال، وميل للجوء إلى المباشرة مهما إتخذ الفيلم أبعادا رمزية أو حاول صانعه الإستعانة بالرموز والاستعارات والمقاربات، فـ”الرسالة” التي يقولها الفيلم لجمهوره، هي دائما أهم عند هؤلاء السينمائيين من الإبتكار في الخيال وفي طرق السرد، فـ”الهم السياسي” يبدو عند هؤلاء السينمائيين أكثر أهمية من “الهم السينمائي”.
ثاني العوامل التي تعيق إنطلاقة الخيال لدى السينمائيين الفلسطينيين الذين يسعون إلى التعبير عن القضية الفلسطينية، وتصوير المأساة، والبحث عن مخرج من الوضع القائم، أو الحلم بالعودة، أو توجيه النقد لمعوقات التقدم الإجتماعي في فلسطين نفسها، أو تناول موضوع المرأة الفلسطينية وتصوير ما تواجهه من مشاكل وعقبات، أقوى وأكثر تعقيدا ربما، مما يواجهه الرجل في مجتمع لايزال مجتمعا شبه عشائري- شبه مدني، هو ذلك العامل الذي يتعلق بمخاطبة جمهور مؤهل من البداية لاستقبال الحدث/ الفيلم/ المضمون دون الرغبة في بذل جهد خاص في استخدام خياله الشخصي.

كمثال على ما نقول هنا دعونا نتوقف أمام فيلم واحد فقط الآن هو الفيلم الروائي الطويل الثاني للمخرجة الفلسطينية آن ماري “لما شفتك” (2012).
 
يدور الفيلم عام 1967 بعد هزيمة الجيوش العربية أمام إسرائيل فيما عرف عالميا بـ”حرب الأيام الستة” أو حرب يونيو/ حزيران، في أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، أي على الضفة الأخرى من نهر الأردن الذي يفصل بين الأردن وفلسطين.

تدور أحداث الفيلم من وجهة نظر طفل صغير يفتقد والده الغائب منذ إندلاع الحرب (توفي في الحرب غالبا) وهو يعيش في المخيم مع والدته، هذه السيدة القوية الشكيمة التي تحاول بشتى السبل، تنشئة الصبي دون أن تقسو عليه لكنها تحاول في الوقت نفسه، السيطرة عليه وكبح جماح مشاعره المتدفقة.
 
بطلنا الصغير “طارق” لا يهدأ له بال، فهو دائم الحلم بالعودة إلى بلدته في فلسطين، لا يستطيع أن يفهم كيف أنه ووالدته أرغما على تركها، وهو شديد المتمرد في ردود فعله تجاه معلم المدرسة الجديدة التي ألحق بها في المخيم، يرفض قبول الأمر الواقع ولا يقبل بسهولة التعامل مع الآخرين من حوله الذين لا يثق بهم، إلى أن يهتدي إلى معسكر لتدريب الفدائيين، يلتحق به ويعتبر نفسه عضوا أصيلا مع أعضائه، إلى أن إننا نراه في نهاية الفيلم يتمرد أيضا على فكرة البقاء رهن المعسكر فيتجه للعبور إلى فلسطين دون أن يدري حقيقة الواقع الجديد الذي خلقته الحرب على الأرض، وكأن الفيلم يريد أن يقول لنا إن طارق بطفوليته، أكثر ثورية ونقاء ووعيا من أولئك “الكبار”، فهو يرفض قبول أي شكل من أشكال الأمر الواقع الذي يفرض على الفلسطينيين فرضا. بل إنه يدفع أمه في النهاية إلى التسليم بجدية رغبته والاندفاع وراءه أيضا قبل أن تظهر في ثياب عسكرية كمقاتلة محتملة من أجل التحرير!.

 
غياب الأب، يعوضه البديل الذي يتمثل في صورة تلك المرأة- الأم الشامخة، لكنها بمشاعرها المباشرة تخشى كثيرا على ولدها وتريد جذبه للوراء باستمرار ودفعه للنكوص عما يعتزمه من التقدم للأمام نحو الوطن الذي إنتزع منه. من هذه الفكرة البسيطة الساذجة ينتقل الفيلم إلى نقد سلبية مجتمع الرجال بشكل كاريكاتوري مباشر يفتقد لروح المرح، ثم إلى تقديم صورة (أممية) للفدائيين المشاركين في المقاومة الفلسطينية، حيث نشاهد نماذج من شباب العالم من بلدان مختلفة يتدربون مع الفلسطينيين تضامنا مع القضية، وهي فكرة أخرى شديدة السذاجة بالطبع.

يسير الفيلم في مسار مسطح، إستعراضي، لا يتوقف أمام حالة إنسانية واحدة لكي يتعمق في فهم مشاعرها ودوافعها. وتعوض المخرجة الهشاشة الواضحة في بناء الفيلم من حيث نمطية الشخصيات وهامشيتها وسطحية ما تقوم به، بالأغاني والموسيقى والرقص وكأنها تريد أن تقول: أنظروا.. إن الفلسطينيين بشر أيضا، فهم يعرفون كيف يحتفلون ويغنون في قلب المأساة!

حتى شخصية البطل الصغير طارق، تميل أيضا في تضاريسها البسيطة إلى النمطية، فهو لا يجيد القراءة والكتابة بسبب نزوعه للتفكير بعيدا عن أسوار المدرسة، لكنه يمتلك ذاكرة حديدية تستطيع إحصاء عدد الطلقات التي تنطلق من مدفع رشاش، وكأنما تريد المخرجة- المؤلفة أن تقول لنا إنه الجيل الذي يحتفظ في ذاكرته بتلك الأرض التي ضاعت لكنه لايزال مصرا على إستعادتها!
 
 ولعل المشكلة الكبرى التي يعاني منها هذا الفيلم أنك تشعر – كمشاهد – وأنت تتابع مساره، أنه من الممكن أن يستمر لساعات مع إضافة العديد من الشخصيات النمطية والتهكم عليها من حين إلى آخر، وفي الوقت نفسه، تشعر وكأن من الممكن أن ينتهي الفيلم في أي لحظة. فليس هناك بناء محكم، محسوب، وشخصيات تضيف إلى الفيلم وتدعمه، والفكرة (الرمزية) بأسرها قد تكون أفضل حالا في فيلم قصير لا يزيد على 20 دقيقة، بل وربما يمكن في هذه الحالة التخلص من كثير من الاستطرادات، ويصبح الفيلم أكثر إتزانا.

ولا يخضع سياق السرد في الفيلم من البداية إلى النهاية، لمنعرجات الفيلم ذي السياق المركب، لكنه يسير بشكل تقليدي لا يصعد نحو ذروة معينة باستخدام طريقة التراكم الذي يؤدي إلى تلك الذروة، بل هو ببساطة شديدة يقول التالي:
طفل أرغم على الخروج من بلده يريد العودة إليه مجددا. أمه تحاول كبحه بسبب معرفتها بالظرف السياسي والعسكري القائم، لكنه لا يفهم بل ويرفض فهم هذا المنطق (فكرة أيديولوجية سياسية يريد الفيلم توصيلها للمشاهدين وهي فكرة ساذجة بسبب مباشرتها الشديدة وعدم إتساقها مع المنطق فأنت لست هنا أمام فيلم واقعي)- ثم مجموعات من الرجال: بعضهم يجلس في المقاهي يحملق في الفراغ، مهزوم من صدمة الهزيمة، والبعض الآخر (من الشباب) التحق بالمقاومة المسلحة (التي نعرف جميعا أنها لم تحقق الهدف المنشود أبدا!) لكن الرغبة في إثارة حماس المشاهدين من العرب تجعل الفيلم يتنبى المقاومة كوسيلة لإستعادة الوطن، كحلم آخر من الأحلام الفلسطينية، وكأنما الحلم هنا أهم من الواقع، والأسطورة أبقى من الحقيقة. لكن المشكلة أيضا أن المخاطبة التي تلعب على المشاعر أكثر أهمية من الوصول إلى عقل وقلب المشاهد، عن طريق السينما وليس عن طريقة الصراخ السياسي بالشعارات. وهذه هي المشكلة حقا.
 
 
 
 

 
 
 
 
 
 
 


إعلان