زواج المتعة.. بمجهر سينمائية ايرانية
حين صدر كتاب الدكتورة شهلا الحائري “المُتعة ـ الزواج المؤقت عند الشيعة ـ حالة ايران 1978 ـ 1982” أثيرت وقتها عاصفة من ردود الأفعال المتباينة لخلاصاته الجريئة والتي تفيد بأن زواج المتعة، أو كما يسمى في الفارسية “الزواج المؤقت”، تكريس ذكوري واستغلال جنسي للمرأة، وبعد قرابة ثلاثة عقود على صدوره تعود الايرانية سودابا مرتضاي لتتناول نفس الموضوع سينمائياً. المساحة الزمنية الفاصلة بين الجهدين، تبدو انقطاعاً، مردّها كما هو معروف الى شدة الرقابة الحكومية على النتاج الإبداعي النقدي، ومثال المخرج جعفر بناهي ساطع للعيان.

دون أخذ الحالة الأمنية في الاعتبار لا يمكن الحكم موضوعياً على الفيلم ولكن هذا لا يلغي تقييمه كمنجز إبداعي في نهاية المطاف وهذه الملاحظة تنسحب أكثر على بناهي نفسه، التي لم تبرر قلة حريته، الضعف الذي ظهر على مستوى فيلمه الأخير “الستارة المسدلة” وبذات القياس يمكننا قياس فيلم “زواج المتعة في ايران” لخضوع لذات الظروف المتشددة والتي لا تسمح كفاية بإنجاز فيلم يمس موضوعاً حساساً وخطراً، لكن الفرق هنا يتمثل بنوعه كفيلم وثائقي وليس روائياً شأنه شأن فيلم بناهي الأسبق “هذا ليس فيلماً” والذي قُبل بدرجة أفضل من”الستارة المغلقة” كونه حاول توثيق فترة اقامته الجبرية في طهران بجهد فني مقتصد ومفهوم. الأمر يتكرر هنا مع سودابا، بفارق اختيارها اسلوباً جمعت فيه بين الجدية المفرطة والفكاهة المبطنة في موضوع معقد تتداخل فيه عوامل دينية واجتماعية واقتصادية، محاولة في ذات الوقت التملص من حدة كل ذلك التشابك الموضوعي بحيل مبررة ليبدو شغلها ظاهرياً، بالنسبة للجهات الرسمية الايرانية، وكأنه نوع بسيط من العمل التلفزيوني التعليمي، لهذا تعمدت مقابلة رجال دين كُثر لمعرفة موقفهم من زواج المتعة دون ايحاء منها بحقيقة نواياها الهادفة الى كشف تبعاته على المرأة بشكل خاص، ووفق هذا الفهم سنعرف لماذا نبشت في تبعاته الإجتماعية الاقتصادية لا الفقهية، بوصفه عقداً توافقياً بين رجل وامرأة، يتفاهمان بينهما على مدة الزواج والثمن الذي يدفعه المتزوج للزوجة المؤقتة. وبدلاً من الخوض في التفاصيل الشرعية وموقف علماء الشيعة من هذا النوع من الزواج أخذت عينات من المتزوجين بهذه الطريقة وعرضت الموقف الإجتماعي منهم وبالمقام الاول الموقف من النساء، اللواتي يفضل الكثير منهن إبقاء زواجهن سراً خشية من ردود أفعال سلبية قد تصدر من الأهل أو الأقرباء، فالغالبية في ايران ليسوا مع هذا النوع من الزواج ويفضلون عليه التقليدي الذي يضمن للمرأة وأطفالها حقوقاً لا تتوفر في زواج المتعة. كما يُظهر الوثائقي اتجاهاً رافضاً لهذه الممارسة بين قطاعات واسعة من الشباب لرؤيتهم فيها انتقاصاً من قيمة الإنسان واستغلالاً صارخاً للمرأة وضعف حالتها الإقتصادية.
أكثر رجال الدين وكبار الملالي الذين التقتهم صاحبة الفيلم أكدوا أن هذا النوع من الزواج شرعي وأنه يجنب المرء ارتكاب المعاصي والفحشاء وبالتالي وفي الحالات التي يتعذر فيها الزواج العادي تكون هذه الممارسة المؤقتة مقبولة وهي تحمي، بشكل خاص، المرأة اقتصادياً وتمنع بالتالي ظهور “الدعارة” في المجتمع. على الجانب الآخر يجد آخرون فيه وبالتطبيق، كما سجلته عدستها الحذرة، نوعاً من تجارة الجسد المستترة يدفع الرجل الممارس لها ثمن متعته نقداً متجنباً المساءلة الشرعية ولا تضمن للمرأة حقوقاً، بل تُفيد بعض رجال الدين من الذين أصروا على وجوب تسجيل الزواج المؤقت في مكاتبهم الخاصة مقابل مبالغ نقدية وبذلك أمنوا مصادر ربح لهم من ورائها، مع أن أغلبية من حاورتهم وبينهم بمراتب دينية عليا لم يشترطوا تسجيل العقد بل بعضهم أجازه بموافقة الرجل والمرأة دون حضور أولياء أمورهم، وكما ظهر في المشهد الذي صور شابين جاءا وسجلا زواجهما عند أحد رجال الدين وأعلنا رغبتهما الحقيقة في زواج قصير الأجل. بدوره بارك الملا لهما ما ابتغوه وأكد أن مدته، حتى لو اقتصرت على نصف ساعة فقط يبقى شرعياً!
مرافقتها الطويلة لسائق تاكسي في مدينة أصفهان بيَّنت حقيقة موقفه من زواج المتعة وموقف المجتمع ككل، فالرجل اعترف بأن لديه عدة زوجات مؤقتات، في انتظار عثوره على المرأة “المناسبة” ليتزوجها وينجب منها أطفالاً وأنه لجأ لهذه الزيجات لرخصها فزواج متعة لا يكلفه الكثير عكس ما عليه دفعه لو أراد زواجاً تلقيدياً. هنا تتجاور بشكل جلي المشكلة الاقتصادية مع الاجتماعية، الى جانب تحفظات يمليها المجتمع المحافظ نفسه فشراء شقة دون زواج رسمي يكاد يكون أمراً عصياً، لأن الكثير من أصحاب الشقق لا يبيعون ولا يؤجرون لمن لا يبرز عقد زواجه الشرعي ويفضلون من عندهم أطفالاً على العزاب. بالمقابل يرفض أغلب الرجال تطوير علاقة الزواج المؤقت بزواج دائم إذا كان للمرأة أطفالاً وفي الحالات التي شاهدنها ظهر لنا كيف يُخيّروهن بينهم أو بين أطفالهن، وكيف يَستغل بعضهم الأطفال في أعمال اجرامية مثل: توزيع المخدرات وغيرها، بسبب ضعف موقف أمهاتهم.

حالات النساء المتزوجات مؤقتاً، كما رواها لنا “زواج المتعة في ايران” تكفي لدحض فكرة حماية المرأة اقتصادياً، فزواج المتعة في جوهره في صالح الرجل ويرسخ بقوة ذكورية المجتمع حين يجردها من فرصة استقلالها الاقتصادي ويخضعها لهيمنة الرجل المتفوق ولهذا ظهرت جمعيات خيرية قسم منها بإدارة رجال دين غايتها توفير فرص عمل للنساء وبخاصة الأرامل والمطلقات منهن، ووسط الشباب تتداول أفكار حول المساواة بين الجنسين كما تشهد مقاهي الأنترنيت حوارات ساخنة حول زواج المتعة ورفض الكثير منهم ممارسته، كما لاحظنا خلال زيارة أحد رجال الدين الشباب لواحدة من هذه المقاهي حين اصطدم بموقف أقران له بالعمر يعارضون زواج المتعة ويعلنون موقفاً واضحاً منه لدرجة دفعته لسؤال أحدهم “هل أنت ضد الرجال مع النساء؟”. هذا السؤال يتداول اليوم بقوة بين أوساط الايرانيين وثمة حراك شبابي يربط بين الزواج المؤقت وبين طبيعة النظام السياسي في ايران وضرورة تغييره ويبدو أن رياحه قد بدأت تهب ويستشعر بقدومها رجال الدين أنفسهم، وهذا ما يفسر محاولة ملاءمة وضعهم مع المزاج الاجتماعي الرافض في أغلبيته لهذا النوع من الزواج كما سجلته سودابا مرتضاي باسلوب سهل وممتع.