الناقدة ندى الأزهري، والسينما الإيرانية الراهنة

صلاح سرميني ـ باريس

يبدأ كتاب (السينما الإيرانية الراهنة) ـ منشورات دار المدى ـ بمقدمةٍ إحتفائية كتبها الناقد السينمائيّ اللبنانيّ “إبراهيم العريس”، وأخرى للمُؤلفة “ندى الأزهري” نفسها، ومن خلالها تُفسّر، تُوضح، وتلخص المنهج النقديّ الذي تخيّرته حيث تقول في مقدمتها :
“أقمتُ في إيران في النصف الثاني من العقد الأول لهذا القرن، وكنتُ على إتصالٍ يوميّ مع السينما الإيرانية، والسينمائيين.
ويُعتبر “هذا الكتاب صدى لهذه التجربة، وهو لا يدّعي الشمولية حول وضع السينما الإيرانية، وتاريخها، إنه يقترح فقط، تسليط الضوء عليها في فترةٍ محددة من تاريخها من خلال مجموعة مقالاتٍ، وحواراتٍ نُشر القسم الأعظم منها على مدى أربعة أعوام، في جريدة الحياة.
عبر سلسلة لقاءاتٍ مع شخصياتٍ سينمائية من إيران، نتعرف بالتناوب على مخرج عالميّ ظلّ في وطنه، وآخر غادره، مخرجات، وممثلات من أجيال مختلفة طبعن سينما بلدهن بطابع خاص، نقاد عارفين، ومدراء، ومسؤولين في بلدٍ تلعب فيه المؤسّسات الرسمية دوراً مرجعياً في الإنتاج، والتوزيع،..”.

***
“ندى الأزهري”، كاتبةٌ، وناقدةٌ سينمائيةٌ سورية مُقيمة في فرنسا، إختارت، أو شاءت الظروف، والأقدار أن تكتب عن السينما بروح الهواية بدون أن تحوّلها إلى مهنةٍ تعيش من دخلها، وإبتعدت بقدر الإمكان عن طموحاتٍ هوسية تدّعي تطوير، ونشر الثقافة السينمائية، هذه الأهداف التي  نُبالغ عادةً في إعلانها بين سطورنا، ونختبئ خلفها كي نمنح هذه المهمّة التي تُوشك على الإنقراض قدسيةً عُظمى.

الكتاب والكاتبة

في المشهد السينمائيّ النقديّ العربيّ، هناك ـ وهم قلائلٌ على أيّ حال ـ من يعمد، أو يتعمّد إستخدام لغة طلسمية تحتاج إلى قواميس لفهم معانيها، بينما النصوص عن السينما ـ إلا ما ندر منها ـ ليست أدباً، أو شعراً، وهي تتطلب لغةً مفهومة، وهو حال كتابات “ندى الأزهري”، إذّ حالما نبدأ بقراءة مقالاً، أو حواراً كتبته، تقودنا كلماتها من البداية، وحتى النهاية، واضحة، بسيطة، وسلسة مثل السينما الإيرانية التي وقعت يوماً في غرامها، وإرتبطت معها بعلاقة شغف.
اليوم، إذا أردنا الإشارة إلى ناقدٍ سينمائيّ عربيّ إختار سينما معينة للكتابة عنها، وتقديمها إلى القارئ، فإننا ـ على الفور ـ سوف نتذكر واحداً مُدعياً يكتب عن السينمات الهندية، وأخرى أقلّ إدعاءً تكتب عن السينما الإيرانية التي أصبحت بالنسبة لها مشروعاً حياتياً، وهكذا، فإنها، كما تقول، تُفضل ـ على سبيل المثال ـ متابعة مهرجاناتٍ مثل مهرجان أفلام القارات الثلاث في نانت (فرنسا)، ومهرجان السينما الآسيوية في فيزول (فرنسا) عن مهرجان كان الذي يمكن أن تشاهد معظم أفلام مسابقاته في الصالات الباريسية، وتُفسّر هذا التوجه، بأنها تهتمّ بـ “سينما الأطراف” كي تتوّغل في تفاصيلها، تكتشفها، وتكشفها للقارئ.
عند التفكير بمحتوى هذه القراءة، تذكرتُ بأنني قرأتُ نصف صفحات كتابها خلال رحلة قطار من باريس إلى كان، والنصف الثاني في جوف طائرة عملاقة كانت تنقلنا من باريس إلى دبي، وبالقراءة المُتأنية (ورُبما الكسولة)، لفت إنتباهي، بأنّ طقوساً خاصة تسبق حواراتها، إنها ليست صحفية مُنبهرة بهذا السينمائيّ، أو تلك الممثلة، وتكتفي بإرسال أسئلة مكتوبة مسبقاً، وتنتظر أن يكتبوا أجوبتهم بأنفسهم، حواراتها أقرب إلى قصص قصيرة تقترب من أدب الرحلات.
وبالعودة إلى مقدمتها، يتبيّن لنا، بأنها، ومنذ البداية، واعية لهذا الأسلوب، حيث تقول:
“…في هذه الرحلة، لن يكتشف القارئ السينما الإيرانية في وضعها الراهن فحسب، بل سيتلمس أيضاً بعض سمات المجتمع الإيراني، حراكه الإجتماعي، والثقافي، وما يعتمل فيه من تحولات…
بشكلٍ عام، يمثل هذا الكتاب مقارنةً بعرضٍ منهجيّ، ما تمثله مشاهدات رحالة بالنسبة لبحث جغرافيّ، أو إحصائيّ، ومثل أيّ سيرة، أو مشاهدات رحلة، فإنه لا يعطي سوى لمحاتٍ سمحت بها المصادفة، أو هوى الرحالة، ورغباته العابرة، لذا فهو لا يدّعي الإحاطة بكل شيء.
لكن، قد يحصل، وتكشف مشاهدات رحلة ما، رغم عفويتها، وربما عشوائيتها، بلداً أفضل مما يفعله عرض أستاذ في الجغرافيا،….
يؤثر الرحالة رؤية ما سبق أن سمع عنه غير أنه يرغب في الوقت ذاته بالإكتشاف، وإذا ما تحلى بشيءٍ من الإبتكار، فسيحيد مساره عن المحطات السياحية التي سبق لها أن عُرفت بل، واستهلكت، وسيتجه إلى حيث تقوده معرفته الناشئة عن ملامسة الواقع،…”.
أكانت الحوارات التي أجرتها “ندى الأزهري” في مدينة “نانت” التي عاشت فيها سنواتٍ طويلة، وتركتها متوجهةً نحو باريس، أو خلال فترة إقامتها المُؤقتة، والثرية في طهران، نقرأ عن الشخصيات السينمائية التي تختارها، بعد أن تشاهد ما تيّسر لها من أفلامهم، تُجهز نفسها، وتبدأ في البحث عن السينمائيّ، وكأنها شخصية في أحد أفلامه، وقبل الوصول إلى بيته، واللقاء معه، والبدء في طرح أسئلتها، تكون قد قدمته لنا، وأوجزت خصائص أعماله، وأسلوبه، ويأتي الحوار مُكملاً تنبش من خلاله بعض التفاصيل التي لم يعثر عليها أحد قبلها، وفقرةٌ واحدةٌ أستعيرها من حواراتها هذه تُوضح أسلوبها في أبهى صوره :

نكي كريمي

“زقاقٌ مسدود، في نهايته دار من حجر آجر أصفر تتميز به بيوت طهران القديمة، تحيط بالدار أشجار وارفة، في الجوار، ترتفع بناية في طور البناء، إختفى قرميدها خلف رخام أبيض بارد، تبدو في الزقاق مثل سدّ يحجب منافذ الضوء، كم مرة دقوا الباب على هذه الدار ليسألوا صاحبها عن نيته للبيع.
ـ لا، ثم لا، ثم لا !…
ـ حسناً، ستضطر إلى ذلك يوما !… كانوا يردون واثقين.
 ـ لن أغادرها إلاّ إلى القبر.
عباس كيارستمي ينتظرنا في داره، كان مصاباً ببعض الرضوض جراء وقوعه أمس، عليه المغادرة في اليوم التالي لحضور مهرجان ما في دولة أوروبية، لا يكف عن الأسفار هنا، وهناك، يدعونه إلى تكريم، مشاركة في لجان تحكيم، أو لعرض أعماله التصويرية،…
دعانا للدخول، وهو يردّ بالإنكليزية على مكالمة هاتفية، كان يكتفي ببضعة عبارات شديدة الإيجاز، خشيت أن يفعل المثل في حواره معي…
على الطاولة كانت أطباق من فواكه الصيف، والمكسرات، والحلوى بانتظارنا، كعادة الإيرانيين المحببة في الاستقبال، سألنا بلطفٍ إن كنا نرغب بالشاي.
– سيد كيارستمي, لقد حددت لنا موعد اللقاء من الرابعة بعد الظهر إلى الخامسة، لا أرغب بأن تضيع دقائق منه في تحضير الشاي”….
حالما ننتهي من قراءة حوار ما مع أحد السينمائيين حتى تمتلكنا الرغبة بمُشاهدة أفلامه، أو التفكير بمُشاهدتها للمرة الثانية (وهي إحدى أهداف الكتابة عن السينما).
ينتقل القارئ من فصلٍ إلى آخر، وكأنه في رحلةٍ سينمائية، ونتذكر أيضاً بأنّ السينما الإيرانية مغرمة بالإنتقال من شخصيةٍ إلى أخرى، وهكذا نتابع سلسلةً من الشخصيات يجمعها موضوعٌ واحد.
يتضمّن كتاب (السينما الإيرانية الراهنة) سبعة فصولٍ، نُتابع من خلالها التيمات التالية :
ـ مخرجون على حدة : عباس كياروستامي، أمير نادري.
ـ نساء في السينما الإيرانية: رخشان بني إعتماد، تهمينة ميلاني، نيكي كريمي، ليلى حاتمي، فاطمة معتمد داريا، مانيا أكبري.
ـ مخرجون خارج السرب : جعفر بناهي، أبو الفضل جليلي.
ـ مخرجون شباب : أصغر فرهادي، رفيع بيتز.
ـ السينما الإيرانية في عيون نقادها : فريدون جيراني، أميد روحاني.
ـ أفلام علامات.
ـ السينما الإيرانية، والمُتغيرات الاجتماعية، والسياسية، السينما الإيرانية، ومهرجان “فجر” ، السينما الإيرانية، ومؤسساتها، والمسؤولون عنها، السينما الإيرانية، والرقابة، حين تصبّ الرقابة في “المصلحة الأخلاقية” للفنان.
وكما تقول “ندى الأزهري”  :
“تعتمد المُقابلات خياراً يخضع إلى المنطق نفسه، فمن جهة إرتأيتُ مقابلة بعض أولئك الذين شغلوا طهران ما بين الأعوام 2006 و2010، ومنهم من يتمتع بسمعةٍ عالمية، ويعتبرهم محبو السينما، ومتابعوها شخصيات رئيسية في الواقع السينمائي الآني، ومن جهةٍ أخرى، أوليتُ إهتماماً لبعض آخر لم يحظ بنفس الإهتمام العالمي، وربما كان غير معروفاً إلاّ في بلده، لكن آراءه، وأعماله تحظى بوزنٍ يضاهي ما للنجوم المعروفين عالمياً.
وهكذا، سيسلط الكتاب الضوء على مخرجين مكرسين، وآخرين صاعدين، صانعي أفلام متفردين، ومخرجات ملتزمات بقضايا إجتماعية، نجمات في السينما الإيرانية حيث للنجومية مفهومها الخاص، وفنانين خارج السرب في بلد يتعرف فيه أهلها إلى أفلامهم عبر كلّ الوسائل إلا شاشاتها الكبيرة،…”.
خلال لقاء مع “ندى الأزهري” في أحد مقاهي شارع “فوبورغ سان دوني” في قلب الحيّ الهندي، حدثتني بحنينٍ عن إقامتها في إيران، وفاجئتني بفرحة التحضير للإنتقال مع زوجها للإقامة في نيودلهي لبعض السنوات، وعندما تطرقنا إلى موضوع غيابها عن المهرجانات العربية، أو غياب المهرجات العربية عنها، قلتُ، بأنّ الأسباب ـ رُبما ـ لأنكِ ….
حاولت العثور معها على كلمةٍ مناسبة تصف طبيعتها، وعلاقتها مع الوسط المهرجاناتيّ، وتبادلنا حواراً برقياً :
ـ هل تقصد بأنني متواضعة ؟
ـ لا..
ـ مُتكبرة ؟
ـ لا…
ـ غير مُكترثة ؟

عباس كيارستمي

ـ لا…
لم ننجح في العثور على الصيغة المناسبة، ولكن، في نفس اليوم ليلاً، أنقذنا زوجها الديبلوماسي الفرنسي، وإقترح الكلمة التي أبحث عنها : مُترّفعة.
نعم، هي بالأحرى مترفعة في تواصلها مع الصحافة، النشر، المهرجانات، والدعوات، ولأنها لا تُجيد فنون العلاقات العامة، فهي غائبة، أو مُغيّبة عن المهرجانات السينمائية العربية في الوقت الذي نعرف أشخاصاً آخرين أقلّ منها موهبة، جديةً، ومتابعةً، يحملون على ظهورهم صفاتٍ مهنية وهمية، مزيفة، أو مبالغة في حجمها، وطبيعتها، ومع ذلك يقفزون من مهرجان إلى آخر بدون أن يتحقق أحدٌ من طبيعة عملهم، وخبراتهم الحقيقية.
أخيراً، وخلال حديثنا عن السينما الإيرانية، وإستعدادها للسفر إلى الهند، قالت “ندى” : 
ـ لقد تحدثتُ مع زوجي عن شغفكَ بالسينما الهندية، سوف تكون فرصة كي تأتي لزيارتنا في الهند،….
ـ إذاً، سوف تصبحين منافسةً لي، وتكتبين عن السينما الهندية التي لا تحبينها.
ـ فعلاً، أنا أرتاح كثيراً في إيران، وأحب السينما الإيرانية أكثر.
ـ إذاً، بعد ثلاث سنوات رُبما سوف نقرأ لكِ كتاباً عن السينما الهندية ؟
وإستيحاءً من السينما التي تجمعنا، أختتمُ هذه القراءة بضحكات “ندى الأزهري” تختلط مع فقرة قصيرة إقتطعتها من خاتمة إحتفائية كتبها الشاعر، والناقد السينمائي السوري “بندر عبد الحميد” على صفحة الغلاف الأخير من الكتاب :
“قرأت ندى الأزهري السينما الايرانية من الداخل، وكتبت عنها بحبّ، ونقد متوازن، وحرية، دون مبالغة، أو خوف، أو مجاملة، …”.

هامش :

في (الصفحة 28) من الكتاب، ورداً على سؤال من “ندى الأزهري”، يقول “عباس كياروستامي” :
– “…..ثمة أمرين لا أحبذ تواجدهما لدى الفنان، الأول هو الضوضاء، واللغط الذي يثيره هذا من حوله دائماً للفت النظر، والثاني إعتماده السلبية في مواقفه، أفضل الوقوف بين الطرفين، ….أنا أعتبر أنه من المُسيء لحكومةٍ أن تعتقل فنان، وتحبسه، وبنفس القدر من السيئ أن يفعل الفنان ما يستدعي حبسه،……”.


إعلان