كيف نتعرَّفُ على الفيلم الوثائقي ؟
تقول القاعدة أنه يمكننا التمييز بين الفيلم الوثائقي والفيلم الروائي دونَ أن نُسائل أنفسنا لماذا؟ بل يمكننا معرفة التزييف ، الذي قد نسخرُ منه ، إلى جانب ملاحظة التوظيف المتعمّد للتزييف . على أَنَّ البلبلةَ والحيرة تظلان استثناء، رغم أن بعض الأفلام يتلاعب على ذلك لزرع الشك وزعزعة نظام الأشياء من حولنا أو ليبيعنا “خردوات رخيصة” .
الجوابُ على هذا السؤال البسيط ، مُعقّدٌ لأنَّ كل ما يدخلُ ضمن نطاقِ عاداتنا (ومنه اللغة) وكل ما هو يقيني (ومنه المرئي) قد طوَّرَ منظومات مركبة ومعقدة للإدراك والتفريق والحُكم، نمارسها بلا وعي. لنبدأ بما يسمّى عملية صياغة السياق . غالباً ما نعرف أننا سنشاهد فيلماً وثائقياً، سواء في السينما أو في التلفزيون . فنحن قلّما نشاهد فيلماً لا نعرف عنه شيئاً، ومن النادر أن نتابع فيلما في التلفزيون نعثر عليه، مصادفة، أثناء البحث بالريموت كونترول، دون الرجوع إلى مجلة البرامج لمعرفة شيءٍ ما عنه وعمّا يدور موضوعه.
إذًاً ما هو معيار التمييز الذي يعمل لدينا تلقائياً ؟ يبدو أن عنوان الفيلم والأسماء في ختام الفيلم والسيناريو والممثلين والأدوار التي يؤديها بعض الممثلين … أي كلّ ما لا نجده إلا نادرا في الفيلم الوثائقي . فعبارات الشكر وبعض الإحالات الخطيّة تؤكد أحياناً نوعية التمازج بين العالم الواقعي والعالم المُصوَّر المُؤفلَم. وبهذا يمكن للنص المكتوب الذي يقدمه الفيلم أن يشي بأشياء، لكن تحصل في مجرى عملية صياغة السياق أشياء غير واضحة المعالم بالنسبة لنا تماما تتعلق من ناحية بما نعرفه عن الحياة والعالم وما نعرفه من ناحية أخرى عن السينما.

ويبقى السؤال الجوهري هنا: أيٌّ العلامات نلتقطها في مجرى سياق الفيلم ، التي تُمكِّننا من التمييز بين الفيلم الوثائقي (الواقعي) والفيلم الروائي (الخيالي) ؟ ويبدو من غير المعقول البحثُ عن خصائص أسلوبية مُطلقة (وحصرها بالتعليق أو المقابلة، أو حتى بزاوية نظر الكاميرا كما في الفيلم الوثائقي.. إضافة الى ذلك فنحن لا نخلط (إلاّ في النادر) بين الفيلم الوثائقي والفيلم الروائي .
لنتفحّص استعداد المشاهد لإبداء الثقة المطلوبة منه… كأن نقولَ هذا فيلم روائي ضعيف (أي لا يبدو مقنعاً)، إن هذا القول لا يعني أنه بعيدٌ عن الواقع ، بل أننا لا نصدقه ، لأنه لا يدخلنا الى عالم حكايته. ولا يُقنعنا بأن العالم، الذي أضافه، يضيفُ شيئاً لواقعنا المُعاش. على العكس من ذلك عندما نقول إن فيلماً وثائقياً ما، غير متماسك، فإننا لا نعني بذلك أنه فيلم روائي مموَّه، بل إنه يتضمن عدداً من الكليشيهات التي تصوّر أناساً وحالاتٍ بشكل مخطط مسبقا وأن شخصياته يُصدرون ردودَ أفعال آليّة محسوبة مسبقاً .
قد يُراودنا الشك عندما نشاهد فيلماً وثائقياً… شكٌّ لا ينسحب على كل شيءٍ، إنما يتعلّقُ بمظاهر وحالاتٍ محددة، ننتظر منها إيضاحاتٍ عن (ماذا وكيف) تترابط “خيوط” الصلة. فالشك مرتبطٌ فعليّاً بكيفية تلقّي الفيلم الوثائقي. السؤال: هل أن ما يُعرضُ أمامنا هو واقع حقيقي، أو أن ما يجري سرده هو واقع صادقٌ ؟ مع أن مثل هذه الأسئلة ليست ذات معنىً في حالة الفيلم الروائي، لأننا لا نحاكمه وفق هذا المعيار . فعندما نعقب على فيلمٍ وثائقي (لا أُصدِّقُ هذا) فإننا نقصد بذلك سلوكاً خاطئاً أو كذبة أو حتى تزويراً. وهذا يعني أننا نشكك بمصداقية شخوصه وأحداثه ، أو حتى بمصداقية المخرج نفسه وبمصداقية ما يعرض أمامنا .
من هنا يمكن للمرء أن يستنتج بأن آفاق التوقع في الفيلم الوثائقي ترتفع بشدة إلى مصافِّ منطق علمي ذي طبيعة تاريخية، يشكل فيها الشك حجر الزاوية . واستنادا لهذا التوقع ، تنشأ الحاجة إلى الاستخدام المتزايد للشهود والمقابلات وما يقوله الاختصاصيون والتعليق. ويتضح عبر ذلك الجانب التعليمي للفيلم الوثائقي، رغم أن غالبية المعاجم والقواميس تُهمل نوعيته الشاعرية. في حين أن الفيلم الروائي يستخدم معايير فهم السلوك الإنساني بصيغة دراماتيكية أو ملحمية كحجر زاوية للمصداقية. بينما يمكن للفيلم الوثائقي أن يتضمن مشاهدَ من فيلم روائي أو صوراً من الأرشيف كما يمكن للفيلم الروائي ان يتضمن أيضا مشاهد وثائقية وأخبارا تلفزيونية ومشاهد تُصوَّر في شوارع المدن…
يمكن أيضا للمشاهد أن يُضلَّل أو ينخدع، ينشرح أو يُصاب بالدهشة عندما لا يعرف أيَّ نمطٍ من الحكاية يُعرض عليه : تحديداً أكان استعارة ، أمثولة ام مفارقة؟ أكان توثيقاً أم من صنع الخيال، أي فيما إذا كان تشويهاً غير مفهومٍ وغير واضح لقواعد الإخراج والتمثيل. ويكمن الفارق بين التمثيل والتشويه، بين المزحة والتمثيل الرديء في أنه في الحالة الأولى يكون التشويه ملحوظاً ومُتضمناً أفكاراً غزيرة (كما هو الحال في الفكاهة والمرح الذي قد يرافقهما تعليقُ غني فكرياً).. أما في الحالة الثانية فإن الأمر يتعلّقُ بطريقة غير فاضحةٍ لخداع المشاهد بتقديم موضوع (قصة) خيالية وإلباسها لَبوس الفيلم الوثائقي (وهو ما يحصل غالباً في أفلام الريبورتاجات) أي تقديم شيءٍ مُصنَّعٍ أو أُعيد بناؤه واختلاقه على انه الواقع، أو ما تمَّ تصويره مجدداً على أنه صورة من الأرشيف، أو ما يتم تصنيعه رقمياً (ديجيتال) وتقديمه على أن تصويره جرى في مسرح الحدث! وعليه فإن أساس الثقة المطلوبة في هذا المجال لم يعد ينسجم مع طريقة إنتاج الفيلم : وهذا ما يسمى بالتعريف الوظيفي للجانب المغلوط والمُخادع في الفيلم الوثائقي .
فلكل فيلم، وثائقياً كان أم روائياً/خيالياً، أَعرافٌ ( تقاليد) وابتكارات متضمنة في مستويات بنائه المتنوعة، ويضم في ثناياه عدداً من الإحالات الخفيّة، التي تهمس للمشاهد كيفية الفهم في أي مستوىً .. فالفكاهة والسخرية أم تَعدُّد المعاني تنطوي على تضارب بين ما يُعرض ويقال مباشرة وبين ما يتوجب فهمه ورؤيته .
وفي الوقت نفسه تُتيحُ هذه الطريقة في التعامل، بكسرِها حواجز التقاليد المألوفة، إيضاحَ السبب في اختراق هذا الحاجز ولماذا يتم التلاعب فنيا في عملية زعزعة أركانه. وغالباً ما يسلط الضوء في الفيلم الوثائقي على تعدُّد معنى الحقيقي والمزيَّف ويختلق معنى مزدوجاً للصورة كما في إعادة بناء أمينة للواقع وتمثيل يستند إلى الوهم في آنٍ، البرهان المخادع للمونتاج والايمان الحقيقي للمشاهد. وبفضل إدراك المشاهد المختلف تنشأ مؤثرات هزلية وفكرية: فالمشاهد “يحقّقُ” فعلياً شيئاً ما. ويبدأ التضليل واستغلال الثقة والتزوير بحيث لا يجد المشاهد قرينة، تمكِّنه من الاستمتاع بالاختلاف . فتحوُّل التغريب المُصنَّع إلى اغتراب سيءٍ، يبدأ عندما يريد الفيلم أنْ يكون ما ليس فيه، عندما يُخفي الطريقةَ المُراد بها مشاهدته ويتستَّر على التصوير والمونتاج.
في النهاية يتعلق ألأمر أصلا بـ(جهاز/وسيط) يصور الحياة لكي يعيد إنتاجها في الأشكال التي يتطور نفسه فيها، سواء كان خَبَبُ حصان، او رقصة شرقية سواء كان سباق سيارات أو استقالة وزيرٍ، سواء كان إرضاعُ رضيع او تمثيل سارة بيرنار سواء كان موت زرافة او تأبيدُ ابتسامة لأنغريد بيرغمان ..؟