البرنامج التسجيلي الفائز بجائزة ” Rose d’Or “

أمستردام – محمد موسى
حتى أشد قوى اليسار الاوربي حماسة، لم تعد قادرة على تقديم دِفاع مُحكم ضد الخلاصة التي وصلت اليها أحزاب اليمين السياسي الاوربي في السنوات الأخيرة، عن الفشل الذريع لسياسية إندماج المهاجرين وأبنائهم، وخاصة أولئك الآتين من دول العالم الإسلامي، مع مجتمعاتهم الأوربية، فالتوتر بين المهاجرين والسلطات الأوربية يَتفجر الآن بشكل سنوي تقريبا ( السويد كمثال أخير)، وموضوعة الهجرة، تحولت منذ سنوات الى إحدى القضايا الحساسة للغاية في الحياة السياسية لمعظم الدول الاوربية، إذ وجدت أحزاب يمينية ومتطرفة كثيرة في تعرقل وفشل سياسات الإندماج، مطية لتحقيق مكاسب شعبية سريعة، مستندة على عدم رضا شعبي، لم يعد بالإمكان إخفاؤه وتجميله. وحتى بريطانيا بماضيها الكولينالي المعروف، والتي كانت مواقفها الأخيرة التي تخص المهاجرين حازمة كثيرة، كقضية النقاب الحساسة ( رفضت الحكومة هناك مناقشة قضية منع النقاب في الأماكن العامة)، شهدت بدورها هي الأخرى إنفجارات عنيفة قبل بضعة أعوام في عدد من المدن البريطانية الصغيرة، بين شباب من إصول آسيوية وقوى الأمن هناك.
في العام الماضي، أقدمت القناة الرابعة البريطانية (C4)، على تجربة تلفزيونية مثيرة للجدل بجمع أفراد من مدينة بريطانية، بخلفيات إثنية وإجتماعية مختلفة تحت سقف بيت واحد، وتسجيل ردود أفعالهم على تجربة العيش المشترك لأيام قليلة، في محاولة للوصول الى تعريف مشترك مرضي للجميع عما يعنيه أن يكون الشخص “بريطانياً” في الوقت الحاضر، في مدينة أوربية حديثة، تملك كل المكونات المطلوبة للتعايش او الأنفجار. هذه التجربة، قدمت ضمن حلقتين تسجيليتين بعنوان (جَعل برادفورد بريطانية). البرنامج حاز مؤخراً على جائزة “Rose d’Or ” الرفيعة كأفضل برنامج تسجيلي.

يَصف البرنامج مدينة برادفورد بأنها أكثر المدن البريطانية إنعزالاً وتقسيما، من جهة القطيعة بين سكان أحياء المدينة الواحدة، والمقسمة الآن على أساس عرقي، فهناك الأحياء الإنكليزية البيضاء، والأحياء الآسيوية، مع قليل جداً من الاحياء المختلطة، ضمن هذه التقسيمات العرقية هناك تقسيم آخر طبقي واقتصادي لم يَعره البرنامج إهتماماً كبيراً، لكنه سيحضر في البرنامج، ممثلا بشخصيتين من الطبقة البريطانية الوسطى المتعلمة، والتي بقيت بمجملها بعيدة عن نقاش المهاجرين اليومي الساخن، على عكس الطبقات الفقيرة، والتي وجدت نفسها مهددة من زيادة أعداد المهاجرين الفقراء، والذين سيقاسموهم المكان والأرزاق.
تُخضع التجربة التسجيلية المشتركين الى إختبارات عدة، لتسريع التقارب الذي تنشده، فالمشتركون الذين يتفقون جميعا على كونهم “بريطانيون” ( على عكس مهاجري دول اوربية عديدة اخرى، والذين مازالوا لا يشعرون بالإنتماء الكامل للبلدان الجديدة وكما بينت إحصائيات عدة من السنوات الأخيرة)، سيفشلون في معظمهم في الإختبارات الإلزامية لطالبي الجنسية البريطانية. هكذا ومنذ البداية يَتكشف إن تعريف “المواطنة” لازال ملتبساً، ولا يعني بالضرورة المفاهيم والتعريفات نفسها للجميع، وإنه بالإمكان أن يكون كل شخص بريطانياً على طريقته، حتى إن أختباراً وضعته الحكومة البريطانية لمهاجريها الجدد، لقياس درجة “بريطانيتهم”، فشل في إجتيازه على السواء، بريطانيين بيض، وآخريين من الأتين من دول أفريقية او آسيوية.
وصل أغلب المشتركون في التجربة التلفزيونية محملين بأحكام مُسبقة عن أبناء مدينتهم من الأعراق الأخرى، فأودري ( إبنة زواج أبيض وأفريقي)، تعترف إنها لا تملك أي تعاطف او تفهم للباكستانيين في مدينتها، وإنها تخشى على الحانة التي تملكها من الإفلاس إذا إستمر تدفق مهاجرون مسلمون للسكن قريبا من الحانه، لانهم لا يرتادون الحانات البريطانية بسبب دياناتهم او تقاليدهم. الشاب البريطاني الأبيض والذي لا يتعدى الخامسة والعشرين كشف، إنه لا يملك أصدقاء من أبناء المهاجريين. شهادات البريطانيين من الإصول الاسيوية ستكون محملة بخوف أقل من الآخر، لكن مع تواصل التجربة التلفزيونية سيتكشف إن هناك إختلافات كبيرة بين المسلميين المشتركين، من جهة التعامل مع تفاصيل الحياة اليومية والرغبة في إيجاد حلول للمشاكل التي تواجه المجموعة، ف “صبيحة”، الشابة البريطانية المسلمة، تعارض أن يُعرقل إلتزام “رشيد”، لاعب الركبي السابق، بالتوجه خمس مرات يومياً للصلاة في الجامع، خطط المجموعة او مواعيد تناول وجباتها الغذائية الجماعية، وهو الأمر الذي يتفق معها فيه “محمد”، الشاب الذي هاجر أهله من باكستان الى بريطانيا قبل أكثر من أربعين عاماً.
البرنامج يَدفع المشتركين فيه الى مزيد من التقارب، عندما يُرتب أن يستبدل كل مشترك حياته ليومين بتلك لمشترك آخر، قادم من طبقة إجتماعية مختلفة عرقياً وإجتماعياً (يتضمن السكن في بيت المشترك الآخر وإداء الأعمال اليومية التي يقوم بها)، هذا بدوره سيقود الى لحظات الأنفجار العاطفية الأكثر شدة في البرنامج، فصبيحة المحجبة، التي ستعمل في حانة زميلتها في التجربة التلفزيونية، ستصدم بالأحكام المسبقة لرواد الحانة عن المسلميين، رغم إن صبيحة ولدت وتعلمت في مدينة برادفورد، وتتكلم باللهجة الخاصة نفسها التي يتحدث بها زبائن الحانة.

يخلق الفيلم التسجيلي ” جعل برادفورد بريطانية ” تجربة ومناخاً خاصيين، لكنه وكحال هذا النوع من التجارب التسجيلية التي تخلق عالمها الخاص، سيتحول الى إمثولة بدل تقديمه لوثيقة مقتطعة من الواقع المعاش، هذا رغم إن صناع التجربة شددوا على المشتركيين أن يتصرفوا على سجيتهم أثناء وقت البرنامج، وأن لا تدفعهم التجربة الى لبس أقنعة، لكن، ورغم أن اغلب المشتركين بدآ قريبا من ذواتهم وشخصياتهم الحقيقية معظم الوقت، إلا إن سجن “الآخ الاكبر” التلفزيوني ترك بعض آثاره عليهم ( القناة الرابعة البريطانية هي نفسها من قدم برنامج الواقع الشهير الآخ الاكبر للبريطانيين وتملك خبرة كبيرة بهذا النوع من البرامج). لكن تبقى أهمية التجربة في تلك التفاصيل الصغيرة، ولدها التقارب الحميمي الأول لمعظم المشتركيين في التجربة مع بعضهم، والذي قاد الى نقاش إجتماعي وإعلامي لازال متواصل في بريطانيا، ويبدو إنه كان أحد الأسباب الذي جعل هذا الفيلم يحظى بجائزة ” Rose d’Or “.
وتُعد جوائز ” Rose d’Or ” الأرفع تلفزيونيا في العالم، وتقدم في عدة فئات تلفزيونية كالدراما، والكوميديا، والبرامج التسجيلية. إنطلقت الجوائز في عام 1961 في سويسرا، وانتقلت في هذا العام لأول مرة الى عاصمة الاتحاد الاوربي في بروكسل. تُهمين برامج القنوات التلفزيونية البريطانية بالعادة على أغلب الجوائز في الأعوام الأخيرة مع حظور أقل لدول اوربية اخرى.

 


إعلان