تقنية الرسائل في صياغة القصة السينمائية
فلم (الرحيل عن بغداد) لقتيبة الجنابي أنموذجاً
لندن / عدنان حسين أحمد
لا شك في أن (الرحيل عن بغداد) هو الفلم الروائي الطويل الأكثر رصانة في تجربة المخرج السينمائي العراقي قتيبة الجنابي (المقيم في لندن حالياً)، إذ بذل جهداً واضحاً لتحقيق معظم الاشتراطات الفنية التي يتطلّبها الفلم الناجح بدءاً من القصة السينمائية المُحكَمة وما ينجم عنها من سيناريو مقنع يساعد الممثلين في فهم التفاصيل الدقيقة للقصة السينمائية وتجسيدها على أكمل وجه، مروراً بحرفية التصوير الذي يستنطق أمكنة التصوير ويعبِّر عنها أفضل تعبير في علاقتها بحركة الشخوص المُنْشدّين إلى مواقعهم الجغرافية القابلة على توليد وإنتاج الدلالات الرمزية القوية التي تشدّ المتلقي وتأسره إلى الدرجة التي يتماهى فيها مع المُعطى المكاني الذي يحيل إلى هذه التجربة الحياتية أو تلك ولا يدعها تنفلت وتتشتّت إلى دلالات عائمة قد لا تحيل إلى أمكنة محددة بعينها، وانتهاءً بالرؤية الإخراجية التي حققها الجنابي بواسطة توظيف مجمل العناصر والمعطيات التي وفَّرها طاقم العمل من ممثلين وتقنيين قدّموا أفضل ما عندهم لإنجاز هذا الفلم الروائي الذي فاز بالجائزة الأولى في الدورة الرابعة لمهرجان الخليج السينمائي، كما قوبل بالاستحسان من الجمهور والنقاد على حد سواء في مهرجان رين دانس السينمائي الدولي بلندن هذا العام.

تقنية الرسائل
لابد من الإشارة إلى أن (الرحيل عن بغداد) هو فلم روائي مطعّم بلقطات ومَشاهِد وثائقية كنّا قد شاهدناها بأسىً كبير في بعض القنوات الفضائية التلفازية العراقية والأجنبية مثل الـ (سي أن أن)، ولكن توظيف الجنابي لها قد منحها أبعاداً جديدة تتناغم مع الفكرة الرئيسة للفلم التي تتناول حياة المصوِّر الشخصي للرئيس العراقي السابق صدّام حسين وزوجته ساجدة خيرالله طلفاح (سيدة العراق الأولى آنذاك)، إضافة إلى تصويره لمَشاهد القتل والتعذيب المروِّعة التي كان يوثقها هذا المصور الخاص بحيث أصبحت مثل خطيئة يحملها في عنقه أينما حلّ أو ارتحل. وعلى الرغم من أهمية هذا التلاقح بين ما هو روائي ووثائقي إلا أن المخرج قتيبة الجنابي قد استعان بتقنية الرسائل في كتابة قصته السينمائية وهي تقنية جميلة أتاحت لنا، نحن المشاهين، أن نتعرّف على قصة الفلم بطريقة مغايرة لما هو مألوف ومتعارف عليه. فالقصة بمجملها تُسرَد لنا بتقنية (الفويس أوفر) بصوت المخرج نفسه الذي تقمّص شخصية المصور الفوتوغرافي للرئيس ليضعنا بالصورة النهائية للثيمة الرئيسة للفلم. قبل أن نتتبع تفاصيل الفلم عبر تقنية الرسائل التي أشرنا إليها تواً لابد لنا أن نشير إلى اللقطة الافتتاحية للفلم التي اشتملت على مقدمة استهلالية تسبق بعض الأغاني العراقية الحزينة ومطلعها (أويلي) التي تتكرر ثلاث مرات غالباً ثم تُقفل بـ (أويلاخ) الأكثر ثقلاً ووقعاً، وهي تجسّد الحزن العراقي في أعلى درجاته. يوحي هذا الاستهلال المفعم بالحزن، للمتلقي العراقي والعربي في الأقل، بأن هناك محنة أو كارثة ما سوف تقع لا محالة لذلك نتوقع أن الفلم لا ينطوي بأي حال من الأحوال على كوميديا أو أي عنصر من عناصر الفرح والمسرّة، وهذا ما حدث بالضبط. لنفحص متن الرسالة الأولى التي وجهّها الأب صادق إلى ابنه الوحيد سمير الذي ترك النعمة التي تنغمس فيها الأسرة والتحق بالحزب الشيوعي العراقي المعارض للنظام السابق، الأمر الذي سيفضي إلى هرب والده إلى هنغاريا التي تدور فيها بقية أحداث الفلم. يتساءل صادق، والد سمير، مدهوشاً: (لا أعرف كيف أبدأ رسالتي لك، ولكن لدي سؤال أود أن أطرحه عليك: لماذا لم تتمتع بكل ما عملته أنا إلى العائلة وكل ما قدّمه الرفيق والقائد صدام حسين إلى عائلتنا من رعاية ومكافآت)؟ ومن الواضح جداً أن ولده سمير غير معني بهذه الرعاية (الأبوية) أو المكافآت المجزية التي كان يقدّمها الرفيق القائد، لأنه منغمس بهمومه الفكرية التي تقف بالضد من توجهات رأس السلطة في بغداد، ولذلك فقد آثر الالتحاق بالمعارضة على الرغم من الخطورة الجدية لهذا القرار.

المُلاحَظ من سياق هذه الرسالة أن الوالد صادق كان يحلم منذ زمن طويل بأن يكون مصوِّراً فوتوغرافياً، وحينما انتمى إلى حزب البعث لم يكن انتماءه عن مصلحة شخصية، وإنما جاء عن قناعة تامة وإيمان مطلق بأفكار هذا الحزب العروبي. كما أنه يحب صدام حسين من أعماق قلبه، ونتيجة لهذا الحب المطلق والولاء التام له فقد أحبّوه رفاقه في الحزب ومنحوه كل الثقة والدعم لأن يكون واحداً منهم، وخيطاً من نسيجهم المُحكَم، فلاغرابة أن يصف الرئيس بأنه (كان حنوناً ودافئاً وأباً للجميع). إن شخصية الأب صادق يقينية جداً، ولا نستغرب حينما يقول عن نفسه بأنه قد أصبح ( أسعد مخلوق على وجه الأرض عندما كُلِّف بأن يصوِّر سيدة العراق الأولى) وأكثر من ذلك فقد أحبّ الرفاق والمسؤلون في القصر صوره وأخلاقه وإخلاصه. وعلى الرغم من أهمية المكانة التي يحتلها صادق والمهمات الكبرى التي كُلف بها، إلا أن المهمة الأعظم التي أُسنِدت إليه هي أن يكون المصور الشخصي للقائد صدام حسين الذي وصفه بأنه (درع العراق والعرب). ثم يختم رسالته بالقول: (أنت لا تعرف حجم الثقة التي أُعطيت لي بأن أكون في بيت الرئيس وعلى مقربة من عائلته الحاكمة التي كانت كريمة معي). إن المصور صادق لا يحب الرئيس حسب، وإنما هو يتغزل به ويتماهى معه حينما يقول بأنه (لا يستطيع أن ينسى إطلالاته وقامته العظيمة) فلا غرابة أن يذهب في ولائه الأعمى إلى أقصى الحدود الممكنة، ويحاول أن يشدّ أفراد عائلته في الأقل إلى دائرة الانجذاب التي وقع فيها وأصبح أسيراً أبدياً لها.
اللقطات والمَشاهِد الوثائقية
يستمثر الجنابي هذه المناسبة ليقدّم لنا لقطات ومشاهد وثائقية من المظاهرات المؤيدة لصدام حسين، ومروره ببزته العسكرية على جواد عربي أصيل من تحت قوس النصر بساحة الاحتفالات، وزيارة السيدة الأولى لأحد المعارض التي أقامها اتحاد نساء العراق، وحفل عيد ميلاد (حلا) ابنة الرئيس، والإطلالة المفاجئة لـ (علي)، الابن الثالث للرئيس صدام من زوجته الثانية سميرة الشاهبندر، الذي لم نره هو وأمه في وسائل الإعلام العراقية. وإضافة إلى هذا المشهد النادر الذي يجمع بين الرئيس صدام وابنه علي ثمة مشهدين مروِّعين لتعذيب بعض الضحايا، أحدهم يضربون يده بالسيف والثاني ينهالون عليه بالهراوات والكيبلات المطاطية. يجمع صادق ملابسه وأوراقه الثبوتية ويدسها في حقيبته ويغادر بغداد متجهاً إلى شمال العراق حيث يتبنى أحد الأشخاص مساعدته لكي يجتاز الحدود.
يعرب صادق في رسالته الثانية عن خشيته وقلقه المتواصلين من ملاحقة العناصر الأمنية العراقية له طالما أن بحوزته مثل هذه الوثائق الخطيرة التي تكشف عن جرائم النظام السابق التي دأب على تصويرها وتوثيقها بشكل دائم. لنتمثل فحوى الرسالة الثانية التي يقول فيها: ( أنا الآن تجاوزت الحدود العراقية وأحس نوعاً من الأمان، ولكن البعد عن العراق وبغداد لا يعني شيئاً أحياناً حيث أن رجال الأمن العراقي متواجدين في كل البلدان. لدي إحساس بأنهم سوف يتابعونني بكل تأكيد كوني أحمل أسراراً كبيرة ولن يتروكنني طليقاً. الخوف والشعور بالمراقبة مسيطران عليّ دائماً). ينطوي الجزء الثاني من الرسالة على مناجاة لابنه سمير الذي كان يتمناه أن يكون موجوداً معه في كل القطارات التي يستقلها والرحلات التي يقوم بها. ويسأله إن كان يتذكر تلك الرحلة التي أخذه بها إلى بحيرة الرزازة التي اعتَقدَ أنها البحر؟ وقد وعده أن يأخذه ذات يوم إلى البحر. وها هو الأب يذهب لوحده إلى البحر، مع الأسف الشديد، من دون أن يعرف مصير ابنه وإلى أين آل به المطاف؟
يطعِّم قتيبة الجنابي فلمه الروائي، كما أشرنا سابقاً، ببعض اللقطات والمشاهد الوثائقية وقد اختار بعد الرسالة الثانية مشهداً لا يقل ترويعاً عن المشاهد السابقة إن لم يكن أفظع منها، فقد اختار الجناة اثنين من الضحايا ووضعوا في جيبي قميصيهما متفجرتين صغيرتين جداً كانوا قد ربطوهما بسلك كهربائي، ثم فجروهما من مسافة بعيدة وتلاشى جسداهما في لمح البصر!
حينما يصل صادق إلى بودابست، العاصمة الهنغارية التي عاش فيها المخرج ردحاً من الزمن، يتصل بزوجته التي لم نرها قط في الفلم، ولم نسمع صوتها أبداً، ولكننا كنا نثق بوجودها من خلال صادق الذي كان يرّد على الحجج التي تتذرع بها وكأنها لا تريده أن يصل إلى لندن، ولا تحبِّذ اللقاء به، وربما تعتبره السبب الأول والأخير في غياب ابنها وموته المحقق لاحقاً. يعزز الجنابي تقنية الرسائل بتقنية المكالمات الهاتفية التي تحدث بين صادق، المأزوم والعالق في بودابست من جهة، وبين زوجته المسترخية واللامبالية في لندن من جهة أخرى. وقد أعرب في هذه المكالمة عن تذمره من ملاحقة الجهات الأمنية العراقية له، وأن النقود التي يطلبها ليست له، وإنما لشخص آخر يريد أن يساعده في الخروج من هنغاريا بغية الوصول إلى لندن. وفي أثناء ساعات فراغه الطويل يلتقي بأحد الأشخاص العرب الذي ينصحه بالعودة إلى بلده، فهو مهاجر مقيم في هذا البلد منذ سنوات طويلة، ولم يجنِ سوى الغربة والمتاعب اليومية المتواترة.

يتأكد لنا بعد هذا المشهد مباشرة أن هناك أحد الأشخاص العراقيين يتابع تحركات صادق في بودابست حيث نراه وهو في جوف سيارته يقلّب صوراً عديدة لضحيته الجديدة، بينما يمشي صادق إلى جوار سياج عال. في المكالمة الثانية يحاول صادق أن يبتز زوجته حينما يخبرها بأن المبلغ الذي يطلبه ليس له، وإنما لكي يصرفه في البحث عن ابنهما المفقود أو الذي تلاشى في شمال الوطن وقد قرّعها بالقول بأنها قد تركت الزوج والابن معاً، وأنها لا تفكر إلا بنفسها. وحينما يتضايق جداً تفلت من لسانه عبارات غير مألوفة من قبيل: (ماذا خلّف لنا صدام غير القنابل والقتل والدم) على غير عادته في الدفاع عن صدام وقامته المهيبة التي أصبحت درعاً للعراقيين والعرب على حد سواء! ثم يطلب منها أن تنفِّذ ما تقول وأن لا تكتفي بإطلاق الوعود الكاذبة وهددها بأنه سيحطّم الهاتف الذي يتكلم منه إذا استمرت في تعاملها البارد معه فهي مسترخية بلندن بينما يعاني هو من اليأس والغربة والإفلاس في بودابست.
يلتقي صادق في المترو شخصاً مصرياً ينصحه بأن لا يسلّم لحيته بأيدي النصّابين واللصوص (العرب تحديداً) الذين يتكفلون بإيصاله إلى لندن، وطلب منه أن يؤمِّن المبلغ المادي عند صديق موثوق وحينما يصل إلى هدفه يسلّمه النقود. وقد أعطاه رقم هاتفه المجري للاتصال به في الحالات الطارئة، ودلّه على المهرّب (أتيللا) الذي سيتبّنى عمليه تهريبه إلى لندن. وقد أخذ هذا الأخير جواز سفر صادق ووعده بأن يلتقيا بعد ثلاثة أيام وقد أمنّ له سكناً متواضعاً فيه فرشه ينام عليها وبقايا طعام يسد به رمقه. لم يستطع صادق أن ينام لأن الكوابيس كانت تؤرق لياليه وقد استفاق ذات مرة وهو يرى الضحية يسقط من سطح بناية شاهقة ويرتطم بالأرض الكونكريتية ليفارق الحياة في لمح البصر!
في رسالته الثالثة يُلقي صادق اللوم على ابنه ويحمّله مسؤولية تفكك العائلة وانهيارها وتشتتها في خاتمة المطاف حيث يقول في مطلع الرسالة: (أنني آسف لأن أقول لك بأنني فقدت مكان عملي المميّز بسببك لأنك أخذت طريقاً آخر وذهبت إلى المعارضة. ماذا تفعل مع الحزب الشيوعي؟ أنت تعرف جيداً بأنني أعمل في القصر الجمهوري. الرفاق والمسؤولون غضبوا عليّ عندما عرفوا بقصتك، فما الذي دفعك للسياسة)؟ لا يريد الأب أن يحمّل نفسه أية مسؤولية حينما اختار العمل في القصر الجمهوري ليؤازر نظاماً مستبداً يعذب أبناءه ومواطنيه ويوثِّق تعذيبهم بأشرطة فيديو، وأكثر من ذلك فهو يحملّه قضية تفكك الأسرة وتشرذمها: ( بسببك بدأت كل المشاكل داخل عائلتنا. أمك تركتني وغادرت، كما أخبروني أن أترك عملي. غادرت كل تلك النعمة والخير ولا أستطيع أن أعود مرة أخرى، فعودتي تعني نهايتي). ربما الشيء الوحيد الذي يعترف به الأب صادق أنه يحْمل عاره وخطيئته معه حيث يقول: ( لقد أُجبرت أن أترك الحزب والثورة والقصر. ماذا نفعك الشيوعيون؟ أنا أحمل عاري وخطيئتي معي وكل ما عملته من خلال عدسة كاميرتي. إنها محنة الثلاثة، أنا وأنت والوالدة، ويجب أن تعرف بأنكَ السبب في كل ذلك). قد يكون الابن سمير هو أحد الأسباب، ولكنه ليس السبب الرئيس بالتأكيد، فالمصور صادق وضع ثقته الكاملة في الحزب والقائد وأخلص لهما، ونسي أو تناسى أنه جزء من آلة الجريمة حتى وإن كان برغياً صغيراً في ماكينتها العملاقة.
بنية التوازي
تتكرر المكالمات الهاتفية مع زوجته التي تركته ووصلت إلى لندن وكأنها تحمّله تبعات فقدان الابن ومسؤولية غيابه الأبدي، فالمكالمات الهاتفية تكاد توازي الرسائل التي كتبها لابنه أو تزيد عنها بقليل وهي في مجملها شكوى من ضيق ذات اليد وتشبث بأمل ضعيف. فالزوجة، على ما يبدو، لا تريد أن تمدّ يد المساعدة إليه لأنها تعتبره السبب الأول والأخير في انهيار هذه الأسرة وضياعها وتشتتها في ثلاثة بلدان متفرقة في أصقاع الأرض. كما يشكو الأب من ملاحقة العناصر الأمنية والوحشة وتفاقم المرض الذي يضاعف من ضغوطه النفسية المريرة. لا يستطيع الأب أن يتخلص من هاجس الابن المفقود الذي يحمل صورته معه ويعرضها لكل من يصادفه ويتجاذب معه أطراف الحديث مثل العراقي الذي المغترب الذي دعاه لتناول الشاي في منزله وتبين لاحقاً أنه مكلف بمراقبته، أو المرأة الطاعنة في السن التي التقته في المتنزّه. يفشل (أتيللا) في تهريبه لأن وثائقه مزوّرة فيغادر هذا الأخير إلى غير رجعة. وعندما يتلاشى هذا الأمل الضعيف يأخذ كلام الشخص العراقي الذي كان يلاحقه على محمل الجد.
في المكالمة الرابعة والأخيرة يتأكد صادق بأن زوجته لم تبعث له أية نقود البتة، ويبدو أنها تلعب على أعصابة المُتعبة أو الموشكة على الانهيار. وفي خاتمة المطاف يقرر صادق أن ينفِّذ اقتراح الشخص العراقي في الذهاب إلى المنطقة الحدودية حيث سيهرِّبه بعض الأشخاص والمعارف شرط أن يترك وثائقه كلها عنده بما فيها جواز السفر، وإذا ما وقع في فخ ما فإن السلطات لن تعرف هويته في الأقل. يصل صادق إلى القرية الحدودية ويقيم في بيت مهجور لم ينم فيه لمدة ثلاثة أيام، ثم يستضيفه أحد القرويين البسطاء الذين لا يتقنون الحديث إلا بالهنغارية، ومع ذلك يرسم له خريطه لمغادرة البلد تقود إلى برلين في أضعف الأحوال. يتصل الشخص الذي كان يطارده في بودابست بـ (لاسي) ويجلب معه بندقيته القناصة التي تشي بأنه قَتَله قبل أن يغادر الحدود. وربما يكون هذا التداخل هو أحد العناصر الفنية في نجاح الفلم بحيث يُوهم المتلقي بأن صادق قد قُتل فعلاً برصاص القناص، خصوصاً وأننا شاهدناه يسقط صريعاً على أرض الغابة العذراء، لكننا في لقطة لاحقة نشاهده يدخن سيجارة في غرفة قديمة متداعية.
اللحظة التنويرية

تكشف الرسالة الرابعة والأخيرة عن التفاصيل الكاملة لبنية القصة السينمائية برمتها، كما تفضح بعض الأساليب الدنيئة التي تستهدف ضرب العلاقة الإنسانية بين الابن وأبيه، وقد حدثت فعلاً خلال الحقبة الدكتاتورية أن وشى بعض الآباء بأبنائهم، فيما أقدم أحدهم على قتل ابنه ونال وساماً رفيعاً عن هذه الفعلة الشنيعة. يقول صادق في رسالته الأخيرة لولده: (إن عدم حُبِّك للقائد صدام حسين والثورة كلّفني الكثير. لقد أجبروني على أن أخبرهم عن مكان اختفائك حيث كان لديّ أمل واحد هو أن يعفوا عنك كوني واحداً منهم. لقد أعطوني مكافأة مادية للوشاية عنك ولو رفضت المكافأة لكان مصيري الموت ووعدوني بأن لا يعاقبوك). وعلى الرغم من عدم قدرة صادق على تبرير ما أقدمَ عليه من وشاية مدمرة إلا أنه بدأ يشعر بتأنيب الضمير حيث يقول: (أنا لا أستطيع أن أنسى وجهك كيف كنت تمشي، أنا أشعر بالعار من كاميرتي، الخطيئة ساكنة في روحي، أنا لا أستطيع أن أنسى تلك اللحظات، كيف حدث كل هذا أمامي)؟ كان صادق يخفي خبر موت ابنه على أمه وقد أوحى لنا على مدار الفلم أنه التحق بالحزب الشيوعي المعارض وضاع أثره في شمال الوطن، لكن الرسالة الأخيرة تقطع الشك باليقين بأنه قد فارق الحياة بطريقة بشعة تقشعر لها الأبدان. لنكمل بقية الرسالة التي يقول فيها: ( عندما جلبوكَ أنا كنت خلف الكاميرا، كنت أصوِّرك، أصوِّر موتك، لقد صورت قطع رأسك! كم أتمنى الموت وكم أتمنى أن أموت بجوارك)! لا أظن أن هناك مشهداً أبشع من هذا المشهد القاسي في الوجود، ولا أظن أن أباً يستطيع أن يصوِّر مشهد قطع رأس ابنه الوحيد اللهم إلا إذا كان جسده خالياً من الدماء بحيث لا يستطيع أن ينتفض أو يثور على هذه اللحظة المفجعة التي ينزل فيها السيف الحاد على رقبة فلذة كبده. لقد مات الأب موتاً افتراضياً حينما أرداه رجل الأمن الذي كان يتعّقبه في لحظة مكهربة تزامنت مع اعدام ابنه بالسيف وهي إشارة إلى أن هذا الرجل يحمل خطيئته معه أينما ذهب. إنها حقاً محنة الثلاثة معاً في آنٍ واحد. فإذا كان الابن قد أُعدم بطريقة بشعة ولاقى حتفه على أيدي الجلادين القتلة، فإن الأب يموت يومياً وهو يتذكر سلسلة من مشاهد التعذيب والقتل والاعدامات المتواترة التي لا تفارق مخيلته وهو ينتقل من بيت مهجور إلى آخر يعاني الخيبة والوحشة والإفلاس، أما الأم فقد خسرت الاثنين معاً، الأب الجاني والابن المجني عليه، كما خسرت نفسها أيضاً لأنها كانت تمعن في إيذاء زوجها ولا تمد له يد المساعدة في أحلك الظروف التي كان يمرّ بها بينما كانت هي تعيش في فراغ موحش لا يتخيله إلا الذين يعيشون الإحساس المفجع بالفقد والخسارة. ومثلما بدأ الفلم بالاستهلال المفجع للتمهيد الغنائي الحزين انتهى به لنصل إلى الإهداء الذي كرّسه الجنابي لذكرى والده وإلى كل ضحايا السنوات المظلمة في العراق الجريح.
لابد من الإشادة في خاتمة المقال بالدور المُتقن الذي جسّده صادق العطّار بشكل عفوي صادق يخلو من أي شكل من أشكال الافتعال، إذ نجح في نقل شخصية الرجل المأزوم والمُطارَد من قبل عناصر الأمن العراقي إلى الشاشة بشكل مقنع جداً يتناسب مع طبيعة السياق التراجيدي الذي كانت تعيشه هذه الشخصية القلقة والمُحاصرة التي تدور في مناخ خانق يقطّع الأنفاس.