عندما تعجز المقابلات عن كشف كل الحقيقة

أمستردام – محمد موسى
صالات السينما الهولندية الفنية التي تعرض حاليا الفيلم التسجيلي “فعل القتل” للمخرج الأمريكي جوشوا اوبنهايمر (فاز الفيلم بجائزة الجمهور في الدورة الأخيرة من مهرجان برلين السينمائي وحفنة من الجوائز الرفيعة من مهرجانات اخرى)، تعرض أيضا وضمن مجموعة الأفلام الحديثة التي إختارتها لشهر يونيو الجاري، الفيلم الروائي ” حنة أرندت ” للمخرجة الألمانية مارغريت فون تروتا، عن الفيلسوفه الألمانية اليهودية حنة أرندت، والتي تركت بلادها قبل الحرب العالمية الثانية، وأستقرت في مدينة نيويورك الأمريكية. يختار الفيلم بداية عقد الستينات من القرن الماضي كنقطة البداية لأحداثه، وهي الفترة الزمنية التي أعقبت نشر الباحثة لكتابها المعروف ( سطحيّة الشّر)، والذي فتح أبواب الجحيم عليها من اليهود والمتعاطفين معهم، لأنها زعمت أن “شّر” النازية تم تحويله لأفعال على الأرض بواسطة البيروقراط والبرجوازيين والتافهين من موظفي الدولة الألمانية، وأن أكثر أفعال الدولة النازية وحشية، كمحارق اليهود، نفذت بآلية، وبدون أن يكون للفعل الشنيع ذلك أي دوافع فكرية او قومية عند معظم الفاعلين.

سنوات قليلة فقط ستفصل بين نشر كتاب الفيلسوفه الألمانية، وبدء المجازر الوحشية في أندونيسيا في عام 1965، والتي راح ضحيتها أكثر من مليوني مدني، في صفحة أخرى من كتاب البشرية العنيف الأسود والمجهولة للكثيرين. العلاقة بين نظرية حنة أرندت، والتي ستخصص لها حياتها المهنية كلها، ومجازر أندونيسيا، إن الأخيرة هي مثال جديد عن بنية “الشّر” وتركيبته، والمسار الذي يقطعه، وكيف ينطلق كرغبة مريضة شاذة عند زعيم او زعماء وحشيين الى فعل القتل والتصفية، والذي ينفذ من أفراد من قاعدة هرم السلطة او لاعقي أحذيتها، فقادة الإنقلاب العسكري في إندونيسيا في عام 1965، أوحوا للناس إن بلدهم في خطر التحوّل للشيوعية، وإن الشيوعيون، وبالخصوص من الأندونيسيين من الإصول الصينية يستعدون للإنقضاض على الحكم وتغيير هوية البلد الآسيوي. ردة الفعل ستكون تشكيل ميليشيات دموية ستقتل في عامين فقط مليون شخص، في مجازر لازالت لليوم بعيدة عن المحاسبة او العقاب، لان التاريخ يُسّنن شرائعه المنتصرون، وحسب أحد قادة تلك الميليشيات.
يعود المخرج الأمريكي جوشوا اوبنهايمر، الى المجازر تلك، لكنه وبدل أن يستعيد أحداث تلك السنوات عبر مقابلات مع قادة ذلك الزمان وضحاياه، يقنع مجموعة من أبرز قادة الميليشيات التي نفذت أعمال القتل في إعادة تمثيل بعضا من أفعالهم وقتها. يوافق قسم من هؤلاء، والذين كانوا قبل المجازر من قطاع طريق ورجال عصابات ورعاع ساقطين. تَفتّن السينما رجال العصابات السابقين لكي يبوحوا بالكثير. لاشك إن علاقتهم القديمة بالسينما كانت السبب الأبرز لقبولهم هذا العرض الغريب من فريق إنتاج الفيلم التسجيلي، فبعضهم كان يعمل في صالات سينما في إندونيسيا ، كحراس وبائعي تذاكر، وللسينما عندهم مكانة لا زالت أثيرة ولا تقاوم.
يمنح الفيلم الحرية الكاملة لرجال العصابات السابقين لإخراج المشاهد التي يرغبون، لا يتدخل المخرج في محتوى تلك المشاهد، بل إن فريق الإنتاج يوفر لهم في المقابل، كل الإمكانيات التقنية وعدد المكياج والمؤثرات الخاصة، لكي تظهر المشاهد كما يتذكرها هؤلاء، بعنفها وتفاصيلها الدموية. لن تكون المشاهد كلها مقاطع من فيلم رعب طويل، فهناك حصة لأفلام الموسيقى في تلك المشاهد، وتحضر الفانتازيا الكوميدية في بعضها الآخر، فأنور كانغو، والذي يعد أكثر مجرمي تلك الفترة وحشية، يتلقى في مشهد كتبه بنفسه أوسمة من “أرواح” من قتلهم، لإنهو أرسلهم بسرعة كبيرة الى “الجنة”. فيما تعيد أغلب المشاهد الآخرى طرائق التعذيب التي كانت تنفذ في الضحايا، فعندما أصبحت رائحة الدم والجثث لا تحتمل في البناية التي اتخذتها العصابة مقرا لعملياتها، يبتكر أنور كانغو طريقة رحيمة لقتل ضحاياه بخنقهم بحبل يشده من طرف، ويعلق الطرف الآخر على عمود حديدي، فيما ستكون الضحية في المنتصف.

بدت الدقائق الإولى من الفيلم غريبة بل نافرة، وكأن هؤلاء الرعاع والذين كانوا يتضاحكون عند إستعادتهم ما أسموه “بطولاتهم”، سينفذون بجلدوهم مرة أخرى من الجرائم التي إرتكبوها، لكن المشروع سيكشف  لاحقا تهافتهم الكبير وخوفهم والكوابيس التي تطارد معظمهم، هذا رغم قناع الصلابة الذي يضعونه على وجوههم. يُورط الفيلم رجال العصابات السابقين في لعبة ستدفع بهم بعيداً من مناطق نفوذهم المجازية، وتعريهم أمام ماضيهم، وكأن الفيلم بمنحه الحرية لهؤلاء لسرد التاريخ كما عاشوه، جعلهم تحت رحمة “لا شعورهم” والذي يتلظى بنار الذنوب الكبيرة. يتغير مناخ الفيلم وإيقاعه وحسب المشاهد التي يقدمها أبطال الفيلم، والحالة النفسية التي يعيشوها يوم التصوير، فبدا إن الفيلم التسجيلي نفذ  الى عقول هؤلاء او خرائب تلك العقول وسجل كل شيء، من الوحشية التي لازالت ماثلة، الى لحظات الندم ومراجعة النفس التي تقترب من التطهير النفسي، الى إستراجعات قاسية للذاكرة، كان من مظاهرها نوبات مرض جسديّة تشبه إنتزاع الروح، أصابت أنور كانغو والذي لاحقته الكاميرا وحيداً في مشاهد مرعبة، عندما كان يزور بناية القتل تلك، والتي تحولت اليوم الى محل لبيع الحقائب النسائية.
ليس فيلم “فعل العنف” هو أول الأفلام التسجلية التي تطلب من أبطالها إعادة تمثيل الحوادث الشخصية والعامة، موضوع الأفلام، فهذا إتجاه قديم قِدَم السينما التسجيلية نفسها، لكنه أخذ يتخذ في السنوات الأخيرة طابعاً تحليلياً، وكان الأداة الناجعة لكشف تعقيدات قصصاً وأحداثا ملتبسة من التاريخ القريب، يمكن هنا إيراد أمثلة مثل : غرفة “164” للمخرج جيانفرانكو روسي والذي عرض قبل عامين، عن قاتل مكسيكي مأجور، الذي قدم شاهدة طويلة عن عمله في المافيا، وهو يختبيء خلف قناع، وكيف نفذت من تلك الشهادة الطويلة، لحظات إنسانية مؤثرة. او ما منحته شهادات الجنود الأمريكيين، والتي قدمت في فيلم ” إجراءات العملية القياسية ” للمخرج الامريكي إيرول موريس والذي عرض في عام 2008.، من نافذة على ما جرى فعلا في سجون أبو غريب العراقية، هذا الإتجاه من العمل يضرب عصفوريين بحجر واحد، فهو من جانب يقلل من رتابة المقابلة الصحفية في الفيلم التسجيلي، كما إنه، وبمحنه الحرية لشخصيات الفيلم لإعادة تمثيل قصصها على طريقتها، يأمل أن يحصل على ذَروات نفسية وشطحات، تكون بالعادة عصيّة على الظهور عبر المقابلات التقليدية التي يُستعَّد لها جيداً، وتتضمن، وكما تخبرنا التجارب، الكثير من المبالغات الكذب والتَجميل.


إعلان