أين يبدأ الإخراج، وأين ينتهي التوثيق ؟
عندما نتحدث عن الفيلم الوثائقي، إنما نعني الإخراج (صنعة الفيلم + صناعة الكادرات + المونتاج ). لكن لا يمكن لأحدٍ أن يقنعني بأنّنا نُحدَدُ مسبقاً للشخوص الفعلية المصوَّرة في الفيلم الوثائقي، ما يتعيّنُ عليها فعله وقوله، أو إعطاؤها تعليمات كما يفعل المخرج مع الممثلين !
ويأخذ المؤلف مثالاً تعليمياً لفهم التدرجات من الوثائقي وحتى الخيالي. ويركز تحليله على التفريق بين ثلاثِ مراحل متداخلة ومتشابكة في خطة الفيلم : خِطة الإخراج، نوعه وكيفيته، والاستعداد المطلوب من جانب جمهور المشاهدين لتصديق ما يُعرض عليهم.
موضوع التجربة سيكون : تصوير دكان، لمصورٍ، في حيٍّ، عند منعطف الشارع.
المرحلة صفر: نصور الدكان بفترينته(واجهته) وقد ننتظر حتى يدخل أحدٌ إليه، أو ليتوقف بعض المارة وهم يتطلّعون في الصور المعروضة أو يعلّقون عليها (هل يتمكن ميكروفوني من التقاط كلماتهم دون أن يشعروا بذلك ؟) نرصُدُ المصوِّرَ (صاحب الدكان)، ونصوره عندما يخرج من الباب، أو عندما يرفع المُشبَّكَ عن واجهة الدكان.
هنا لا يتم أيَّ تدخل في إخراج (صنعة الفيلم)، كل شيءٍ يجري تصويره بصورة خفيَّة، ولنقُلْ بدون إذنٍ وبدون أنْ يلاحظ الفُرقاءُ (المصور والمارة) ذلك. هنا يقتصر الإخراج و(الـميزان- سين) على عمل الكادرات والمونتاج مع الصوت (المُلتَقط سرياً). يرى البعض أنَّ الفيلم الوثائقي يجب أن يلتزم بذلك ولا يتدخَّلُ في ما جرى تصويره. ففي الوقت الذي يمكن فيه للمرء القول بأنه لم يجرِ تمثيلٌ أمام الكاميرا، وأنه جرى الالتزام الصارم بعدم التدخل في إعداد المَشاهد، لكن هناك تحفظان على هذا القول :
1. طريقة التصوير والمونتاج تكتسب رغم ذلك أهمية وتأثيراً على ما يُعرض أمام الجمهور.
2. الموضوع يبقى أسيرَ مظهره الخارجي فقط، دون إمكانية أن يبوح شيئاً عن نفسه. يتولَّدُ هنا انطباع لدى المشاهد بأن كل شيءٍ جرى بعفوية تامة حقاً، دون تهيئة مسبقة. وقد تتسرّبُ إليه دَغدَغةٌ المُتلصّصِ لَمّـا يرى صوراً .سُرِقَت. ولم يجرِ التقاطها (عالماشي).

المرحلة الأولى : أطلب من بعض المارّة أن يدخلوا الدكان أو يتوقفوا عند واجهته أو أطلب من صاحب الدكان أن يقف في باب محلّه…
تأثيرنا على الفيلم هنا سيكون في حدوده الدنيا. فمن أجل بثِّ شيءٍ من الحياة في المشهد، سأبتدع حالة يبدو فيها كما لو أنني كنتُ بانتظارهم. هنا يلعب الميزان-سين، وإن بدا مُنظماً في مجراه، يلعب دوراً إضافياً مؤثراً على الحدث من خلال المونتاج وترتيب الكادرات ( يمكن للمرء أن يُقدِّرَ بأن الحدود “الدنيا” لتأثير الميزان-سين ستزداد .. لتصل إلى الإخراج التام للمَشاهد وبذلك تصل حَدَّ الخيال!) سيتولّد لدى المُشاهد هنا نفس الانطباع، كما في المرحلة صفر: لا أرى حقاً أيَّ نوع من التدخل في ما تمَّ تصويره، باستثناء بعض المواضع غير المُتقنة فنياً.
المرحلة الثانية : نتخفّى ونتحركُ خلف أحدٍ ( قد يكون شخصاً، كومبارساً أوممثلاً ) يجري تصويره، بموافقته وموافقة المصور. هنا يتسع الميزان-سين: عمق مجال التحديد البؤري (عمق الميدان) في التصوير وفي المشهد/ اللقطة). ليشمل عنصراً من عناصر الفُرقاء، بحيث لا يعود أي شخص منهم مبهماً، بل شخصية فعلية، سواء كان زبوناً، كومبارساً أم ممثلاً.
فالمُشاهد يعرف أنّ هذه اللقطة ليست واقعة حقيقية، بل يتعلّق الأمر بفيلم وثائقي ـ مما يفترض موافقة ضمنية من جانب الفُرقاء ـ الذين يضنهم مسبقاً أنهم “شخوص أصلية”
المرحلة الثالثة : أن رتبُ ونهيئ الأمر داخل دكان المصور (بموافقته طبعاً ) ونشرع بتصوير عمله : جلسة تصوير (بحيث يجب أن تتمّ بموافقة الشخص المُصوَّر)، الغرفة المظلمة للتحميض والإظهار، عملية البيع…
يركّز الميزان-سين على إيمائية حركات المصور وعلى دوره كرب مهنة. أو على دوره كوسيط يحدثني عن موديلاته. هنا يفهم المشاهد أن الأمر يتعلق بفيلم وثائقي عن مصور وزبائنه، وأنهم موافقون على تصويرهم. المرحلة الرابعة : أطلبُ من الكومبارس (الممثل) أَنْ يجلس (كموديل) أمام المصور ويقوم ببعض الحركات المرتجلة (العفوية ) أو المُعَدّة.. في هذه الحال، يكتسب الميزان-سين عنصر الخديعة (التآمر)، نصفها خيال، فيما يتعلّق بالموديل، ونصفه الآخر وثائقي في ما يخص المصور الذي لا يعرف كل ما يدور. لكن لو أنه عرفَ ووافق على لعب الدور، عندئذ يتحول الوضع إلى خيالٍ مُمثّل بمشاهد، وهو ما يقترب من الوثائقي.
المرحلة الخامسة : نلتزمُ بتوجيهات التصوير في المكان، ونعتمد على الأدوار، التي يؤديها المصور وزبائنه. هنا يكتسب الميزان-سين مفهوم تفسير الأدوار. فالمشاهد يرى فيلماً يفسّره إما بكونه جيداً أو عكس ذلك، أو يرى فيه فيلماً وثائقياً جيداً. فالخيال يفترض أيضاً أن يجري تصديقه.
المرحلة السادسة : نبني في الأستوديو دكاناً كدكان المصور ونطلب من المصور الحقيقي نفسه، أن يحظر ويتصرف بصورة عادية، كما لو أنه في دكانه (مع الأخذ بنظر الاعتبار حقيقة صعوبة أن يقوم بذلك حرفياً كما يفعل في مكان عمله الأصلي مهما كان الديكور قريباً جداً من الواقع ). وبما أنه سيكون من الصعب تصوير “المارة” سنطلب من بعض الزبائن أن يأتوا إلى الأستوديو لـ” يمثلوا” دوراً “من الحياة الواقعية ” أعددناه بعدة مشاهد استنادا إلى مراقبتنا على الأرض.
يستند الميزان-سين هنا، بهذه الدرجة أو تلك، إلى الاختلاف بين الطبيعي والمُصنَّع – بتأثيرات متعاكسة- : مُصنَّعٌ لأنه تمثيلٌ لبشَرٍ واقعيين أمام ديكورات وكواليس أُعِدّت بدقة لتكون طبيعية. وسيتساءل المشاهد هنا عن الظاهر الطبيعي، فيما إذا كان التمثيل جيداً أم سيئاً، فيما إذا كان التماهي بين الشخص وشخصية الدور الذي يؤديه (الدور الحياتي) الطبيعي وبين ما ُ��عرض على الشاشة.. هل أنه فن أم سلعة رخيصة ؟ وإذا ما تمَّ فهم الفيلم بصورة مباشرة، هل سيكون فلماً وثائقياً أم فلماً عادياً؟ وإذا ما تمَّ فهمه مباشرة إما أن يكون هزلياً مثيراً للضحك أو مضلِّلاً. طبقاً لمواصفات الاختلاف سيقيّمُ المُشاهد الفيلم فيما إذا كان ناجحاً أم لا، ساذجاً أم بلا معنى، خلاّقاً أم دَعيّاً…
المرحلة السابعة : ديكورات وكواليس في الأستوديو، ممثلون ينفذون سيناريو مكتوبا “يقوم الميزان-سين هنا على التعليمات المُعطاة بشأن الكواليس، والأكسسوارات، والحوارات، وأداء الممثلين، خطة المونتاج وحركة الكاميرا..عندها سيكون المُشاهد، ببساطة، أمام “فلم خيالي” ينتظر منه حالاتٍ وشخصياتٍ تحفّز انفعالاته وحواسه. وفي كلا الحالين ( وثائقي، أم خيالي) لا يطالب بنسخ الواقع كما هو، إنما ينتظر كما يتطلب من أيِّ عملٍ خلاّقٍ، تأثيراً حسِّياً وعقلياً لفهم العالم بصورة أفضل.