في البحث عن النفط و الرمال
قراءة التاريخ بعيون أرستقراطية
بقلم أحمد حسونة
قراءة التاريخ و تحليله عادة تتغير تبعا للظروف و الأوضاع و اللح��ة التاريخية التي تتم القراءة خلالها، و أهم هذه العوامل من القابع علي كرسي السلطة؟. فالسلطة تكتب التاريخ الرسمي، و تفسره بالشكل الملائم لها ليخدم أغراضها وأهدافها للبقاء في الحكم لأطول فترة ممكنة.
وتغض السلطة الطرف دائما عن كثير من الحقائق عن طريق التأويل الخاطئ و التزييف، و الإخفاء، و المحو. و يستمر التاريخ الرسمي في الوجود حتى تفقد السلطة الداعمة له قوتها. و يظهر علي السطح التاريخ الغير الرسمي لحقبة تاريخية تجعلنا نعيد النظر إليه، و رؤيته من منظور مختلف، و نكتشف علاقات جديدة بين الماضي و الحاضر لتبصرنا بالمستقبل، و هذا ما يطرحه فيلم ” في البحث عن النفط و الرمال”.

موضوع الفيلم
يدور فيلم “في البحث عن النفط و الرمال ” الذي أخرجه وائل عمر و فيليب الديب ، حول حقبة الانقلاب العسكري في مصر عام” 1952″ – كما يراها الإنجليز والطبقة الأرستقراطية في مصر- ضد العائلة الملكية التي تمتد أصولها إلي محمد علي باشا، صاحب مشروع الحداثة في مصر. و ظهور أمريكا على الساحة كلاعب جديد في منطقة الشرق الأوسط يتحالف مع العسكر بدلا من النظام الملكي في مصر الذي فقد شعبيته. هذا التحالف هدفه في المقام الأول الحفاظ علي المصالح الإستراتيجية الأمريكية، و ضمان الحصول علي النفط من المنطقة. وانعكس سلبا علي الطبقة الملكية و الأرستقراطية، مما أدي إلي زوالها تقريبا و اختفاء الدور الذي كانت تلعبه في مصر، كأن لم يكن لها وجود قط .
الشخصية الرئيسية
أختار المخرجان وائل عمر و فيليب الديب شكلا بسيطا و ممتعا لسرد هذه الوقائع و التحليلات التاريخية، من خلال الكاتب و المؤرخ محمود ثابت ذو الأصول الأرستقراطية. و محمود شخصية شديدة الجاذبية في الحكي، يتحدث بلكنة بريطانية رائعة. كان والده، عادل ثابت مديرا للتصوير السينمائي، و الخال الثاني للملك فاروق، و كان علي علاقة وطيدة بالأسرة الملكية. و قد أجبر –الوالد- بعد الثورة علي الهروب خارج مصر و معه أسرته بعد أن أتهم ظلما بضلوعه في شبكة تجسس فرنسية. و بعد فترة طويلة تعود أسرة ثابت إلي مصر ، و ينتقل محمود ثابت إلي قصر والده ليقيم به.
البحث عن الفيلم القديم
يبحث محمود في مقتنيات أبيه عن فيلم روائي بعنوان “البحث عن النفط و الرمال”، كان والده عادل ثابت قام بتصويره في مايو 1952 قبل ثورة يوليو بأسابيع قليلة، كما يذكر الفيلم. و أنتج الفيلم و أخرجه بولينت رءوف زوج الأميرة فايزة أخت الملك فاروق. لم يكن للفيلم أي غرض غير هوس الأميرة فايزة و زوجها و أصدقائها للسينما و قد مثلت بالفيلم والدة محمود ثابت ، ذات الأصول الأجنبية، و كانت لها تجربة سابقة في هوليوود. لم يكن يتوقع أحد ممن شارك بالفيلم أن حياته ستنقلب رأسا علي عقب بعد هذا الفيلم.
و علي المتابع للفيلم أن يدرك أنه أمام فيلمين بنفس الاسم يفرق بينهما بحرف جر. فالفيلم الأول، فيلم تسجيلي للمخرجين وائل عمر و فيليب الديب بعنوان “في البحث عن النفط و الرمال” و هو من إنتاج 2012، و الفيلم الأخر، هو فيلم روائي بعنوان “البحث عن النفط و الرمال” للمخرج بولينت رءوف و هو من إنتاج 1952.

يدور الفيلم الروائي – فيلم بولينت رءوف – حول حاكم يتم الانقلاب ضده، و دخول الأمريكان إلي المنطقة للسيطرة علي الأراضي والبحث عن النفط. يلجأ الحاكم إلي احد شيوخ القبائل العربية لمساعدته في الحصول علي نصيب من النفط . يقوم شيخ القبيلة بخطف ابنة السفير الأمريكي كورقة للضغط والتفاوض، و لكن الأمريكان لا يقعوا بسهولة تحت طائلة الابتزاز، و ينجحوا في فك أسر الفتاة.
الشكل السردي و البصري للفيلم
أستطاع المخرجان من خلال العناصر المتعددة التي وظفت بالفيلم، خلق بناء فيلمي معتمد علي التعددية و الثنائية. كان اختيار أسم الفيلم ” في البحث عن النفط و الرمال” المحمل بالمعاني المتعددة اختيارا ذكيا. فالعنوان لا يتوقف عند الحبكة الخاصة بالفيلم فقط، وهي البحث الذي قام به محمود ليجد الفيلم و” يركب” أجزاءه، إنما يتعداه ليعقد مقارنة من خلال ربط و دمج المؤرخ محمود ثابت بين أحداث الفيلم الذي تم تصويره في 1952، و الانقلاب العسكري “كما يراه محمود ثابت”الذي حدث في مصر و التي اعتبرها بمثابة تنبؤ للأحداث التي تلت على مصر بعد ثورة يوليو1952.
و تعددت بدايات الفيلم لتحاكي فصول فيلمية لم توضع بعد في شكلها النهائي. يبدأ الفيلم بمشهد لجهاز تسجيل يتم تشغيله ليبث حوارا مسجلا عن فيلم “البحث عن النفط و الرمال”، و سهولة تنفيذ الفيلم لوجود الأميرة فايزة كراعية له . و يصاحب الصوت لقطات للأميرة فايزة و الملك فاروق و صفحات من السيناريو. ينتقل الفيلم مباشرة و بشكل مفاجئ إلي النشرة السينمائية التي تعلن عن الانقلاب العسكري عام 1952 في مصر، كأنها “homage ” علي طريقة سينما ما بعد الحداثة, أو تأثر اللاوعي عند المخرجين بالفيلم الأمريكي المعروف ” المواطن كين ” للمخرج أورسون ويلز، و الذي يبدأ بداية غامضة ثم ينتقل فجأة إلي نشرة سينمائية تعلن عن موت تشارلز فوستر كين و معلومات عن تاريخه. ثم يكتب علي شاشة سوداء عن الانقلاب العسكري علي الملك فاروق و وتفكك الطبقة الراقية و تدميرها، وبعد مرور ستون عاما يعثر المؤرخ محمود عادل ثابت علي عدة فصول فيلمية بمنزل أحد أقارب الملك لينتقل بنا إلي بعض المواد الأرشيفية و أجزاء من الفيلم القديم ليحكي لنا عن الفيلم الذي صوره والده و ما آل إليه مصيره. و كيف أن زوج الأميرة فايزة قرر أن يحرق النسخة الأصلية للفيلم (16 مللي ألوان) خوفا من أن يستخدم ضدهم. و يظهر عنوان الفيلم أخيرا علي لقطة لفصول فيلمية تحترق. و قد دعم المخرج الفيلم بصريا من خلال القطع المتوازي السلس بين الأماكن و الشخصيات في الحاضر و الماضي مما خلق دينامكية بصرية تدعم الروايات التي تتحدث عن الماضي .

إعادة قراءة التاريخ
هناك عدة نقاط يؤكد عليها الفيلم من خلال المؤرخ محمود ثابت، و الأميرة نيفين عباس حليم التي مثلت بالفيلم القديم، وهي أن الملك تنحي عن كرسي العرش حقنا للدماء، و أن الانقلاب تم بواسطة حفنة من العسكريين و ليس كل الجيش، وأن التدخل الأمريكي و مساعدته لنظام عبد الناصر كان لحفظ مصالحه الإستراتيجية بالمنطقة، و كيف انقلب عبد الناصر على أمريكا فيما بعد، و تزايد عدد المعتقلين السياسيين في عهده، و تحول النظام الناصري إلي نظام شمولي.
وكان أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت عائلة محمود تهرب من مصر بجانب اتهام والده بالجاسوسية هو التلاعب بعقل ابنهم محمود بالمدرسة و أقناعة بان عبد الناصر هو الأب و التقليل من أهمية والده الفعلي.
نوستالجيا و نهايات درامية
يخلق الفيلم حالة من النوستالجيا (الحنين) من خلال الصور القديمة و المقاطع السينمائية من هذا العالم الجميل و الراقي الذي كانت تعيشه الطبقات الراقية في مصر، و ساعد علي ذلك الموسيقي المؤلفة بعناية لتعبر عن فخامة هذه الحقبة و الحنين إليها.و يصاب المشاهد بحالة النوستالجيا بدرجة ما حسب الانتماء الطبقي للمشاهد و فكره الأيدلوجي. فالمقاطع الفيلمية في بدايات الفيلم لا تجعل المشاهد متعاطف مع هذه الشخصيات و يشعر بأنها طبقة مستهترة لديها فراغ لا تعرف أن تستغله في عمل نافع، غير أن المخرجان استطاعا بمهارة أن يجعلونا نتعاطف مع شخصيات الفيلم بشكل خاص و مع أبناء الطبقة الأرستقراطية بصفة عامة. و ذلك من خلال مشاهد مؤثرة لبيع مقتنيات العائلة الملكية في مصر في مزاد علني، و القبض علي بعضهم بتهمة التجسس، و سرد مصير بعض الشخصيات التي ظهرت بالفيلم و انتهت نهاية حزينة أو مأساوية، مثل بولينت رءوف الذي أنفصل عن الأميرة فايزة في منتصف الخمسينات. و أقام عند عائلة محمود في غرفة المعيشة ثم في المطبخ لمدة عامين وتحول إلى شخص نحيفا للغاية.

و في مشهد أخر مؤثر، يذهب محمود في الوقت الحاضر إلي قصر الزهرية, التي كانت الأميرة فايزة تقيم به الحفلات و المسرحيات مع أصدقائها والذي تحول بعد ثورة يوليو إلي مدرسة للبنات و أراد محمود أن يلتقط صورا تذكارية له إلا أن إدارة المدرسة رفضوا بشدة.
التاريخ يعيد نفسه
يأخذنا محمود إلى أهمية مراجعة التاريخ مرة أخري، و أن التاريخ يعيد نفسه في كثير من الأحيان، و ما لم يتعلم المرء من التاريخ سيعيد أخطائه مرة أخري. و الفيلم بذلك يدفعنا للنظر إلى حاضرنا و كيف أن ما حدث أثناء الانقلاب أو ثورة يوليو كما يطلق عليها البعض يتكرر مرة ثانية من خلال الاتفاقات السياسية التي تلعبها أمريكا في المنطقة بدون أن يدخلنا المخرج في متاهات الفترة الحالية.
و ينتهي الفيلم بصوت محمود ثابت مع عرض صور للعائلة الملكية و أصدقائهم وهو يردد أنه لا يدافع عن احد أو عن الملكية، و لكن تلك الأحداث تسببت بشكل أو بآخر إلى محو مجتمع كامل يضم طبقات و أعراق متعددة، وحذف حقبة تاريخية أثرت في بناء المجتمع المصري و العربي لصالح الفكر القومي .