حوار مع المندوب العام لمهرجان “فيد مرسيليا”
لم نعد مهرجانا للوثائقي… ولا نقبل إلا العروض الأولى
أحمد بوغابة – فرنسا
عقدت إدارة المهرجان الدولي للسينما بمدينة مرسيليا (جنوب فرنسا) والمعروف اختصارا بـ”فيد مرسيليا” ندوة صحفية، قبل أسبوعين، قدمت فيها برنامج دورتها المقبلة (24) التي ستتم ما بين 2 و 8 يوليو الشهر القادم. وما انفكت تفاجئنا هذه التظاهرة السينمائية، في كل سنة، بجديد في اختياراتها الفنية، تمس الخط التحريري للمهرجان وكذا في تشكُّل برامجها منذ أن أصبح الناقد الفني والسينمائي “جان بيار ريم” على رأسها كمندوب عام لها حيث غيّر عمق ملامحه ضد السينما المحافظة والخالصة. ليس بالمفهوم الأخلاقي الصرف وإنما في أشكال صناعة الفيلم وإنجازه والتفكير فيه. ومعروف عن جان بيير ريم أنه لا يضع الحواجز والحدود والخصوصيات بين الأجناس السينمائية ويرفض أن يبقى محصورا فيها بل السينما في نظره هي عالم واحد تجتمع فيه كل الأنواع وتتعايش مع بعضها وقد تتداخل فيما بينها لتنتج أفلاما جيدة تسافر بين أجناسها فيذوب الواقع في الخيال والعكس صحيح أيضا. لا مجال للتصنيف التعسفي بين الأفلام في الـ”فيد” (FID) بقدر ما يكون الفيلم في حد ذاته هو المقياس الوحيد للتحكيم. وقد بدأت كثير من المهرجانات تحذو حذوه بدمج في نفس فقرة المسابقة أفلام روائية مع أفلام يُقال عنها وثائقية.
ستشارك 36 دولة بـ 124 فيلما وقد تم اختيارها من بين 2400 فيلم توصلت بها إدارة المهرجان، نجد من بين المشاركين من الدول العربية: المغرب والجزائر ولبنان والإمارات العربية المتحدة. وتشمل المسابقة الدولية 16 فيلما والمسابقة الفرنسية بـ 10 أفلام فضلا عن مسابقة أول فيلم التي تشارك فيها 8 دول بـ 11 فيلما. تُعرض هذه الأفلام جميعها لأول مرة في العالم بعروضها الدولية والعالمية وهو شرط أساسي حاليا في قانون المهرجان.
يوزع المهرجان 9 جوائز أساسية على أفلام المسابقة من خلال لجنتين رئيسيتين “اللجنة الدولية” وتترأسها هذه السنة الفنانة “عيشة ليزا أتيلا” من فلندا. ولا يوجد بهذه اللجنة عضو فرنسي. أما لجنة التحكيم الفرنسية فتترأسها الفنانة السويسرية أُرسولا بيمان (ويوجد ضمن هذه اللجنة الناقد السينمائي التونسي الطاهر الشيخاوي). وهناك لجان أخرى موازية خاصة بالمجتمع المدني والمنظمات المهنية السينمائية. كما توجد لجنة خاصة جدا مكونة من السجناء للسجن المركزي بمرسيليا. فضلا عن 5 جوائز تمنحها لجنة أخرى تنظر في دعم المشاريع المشتركة في إطار ورشة المعروفة بـ”فيدلاب” (FidLab) وتترأس لجنتها الإسبانية “فيرناندا ديلنيدو” حيث ستدرس الـ 12 مشروعا الذي تم انتقاؤها من بين 320 التي توصلت بها إدارة المهرجان. وتتضمن الجوائز دعما ماليا أو لوجيستيكيا يمس الإنتاج والمونتاج والترجمة والتوزيع…. وربما نلاحظ أن جميع اللجان تترأسها نساء.
ستعرف هذه الدورة ورشة مع طلبة المدارس السينمائية الموجودة في أقطار حوض المتوسط وفرنسا يؤطرها سينمائيون محترفون في مجالات عدة من خلال جلسات نقدية حول أفلام الطلبة في ما بينهم ومع المؤطرين. وقد تم اختيار 11 طالبا، إضافة لعروض نظرية وأخرى مفتوحة مع الجمهور.
ومن باب تحصيل الحاصل بذكر أن المهرجان يحتضن أنشطة كثيرة على هامش العروض السينمائية كمناقشة الأفلام ولقاءات خاصة مع بعض السينمائيين ومعارض فوتوغرافية وغيرها. دون إغفال نشاط مهم وأساسي في الدورة المقبلة للمهرجان وهي استعادة جميع أفلام المخرج الإيطالي الراحل بيير باولو بازوليني كتكريم خاص له وهو النشاط السينمائي الذي قد بدأ منذ شهرين.
وقد إلتقينا بالمندوب العام للمهرجان السيد “جان بيار ريم” قبل انعقاد الندوة الصحفية الذي تفضل مشكورا بالإجابة على بعض الأسئلة المرتبطة بالمهرجان وأفقه ومميزاته. وفي ما يلي نص الحوار:

ينعقد مهرجان “فيد” هذه السنة في ظروف خاصة تعيشها مدينة مرسيليا باعتبارها عاصمة الثقافة الأوروبية لسنة 2013. فما هي خصوصية هذه الدورة في هذا الإطار بالضبط؟ وماذا تحمل من جديد؟
في البدء وبدون مبالغة أريد أن أؤكد بأن “فيد” يحاول أن يكون عاصمة السينما العالمية لمدة 6 أيام في السنة عند انعقاده. ولا أقول هذا تكبرا بل هي المهمة التي اسندت له. وعليه، فأنا سعيد باختيار مرسيليا عاصمة الثقافة الأوروبية ولكن هذا لا يغير شيئا في عمق مشروعنا. ومشروعنا أتمناه أن يكون أبعد من أوروبا.
لدينا حدثان يساهمان في حركة مرسيليا عاصمة الثقافة الأوروبية 2013، من جهة استعادة عرض جميع أفلام بيير باولو بازوليني الكاملة، 23 فيلما، والتي بدأ عرضها منذ 14 مايو الأخير حيث أردنا أن نعطي لسكان مرسيليا وزوارها أيضا فرصة مشاهدة مجمل أعماله وهو صعب جدا تحقيقه خلال المهرجان لأنه حتى ولو قمنا بماراتون استثنائي لا يمكن لشخص أن يشاهد بشكل عام 50 فيلما تقريبا. وإذا حذفنا من هذه الخمسين 23 فيلما يصعب مشاهدة الأفلام الأخرى وهي كثيرة جدا حتى ولو اقتصرت على أفلام المسابقة وحدها التي تصل إلى 30 فيلما هذه السنة.
وأنا سعيد جدا بكون مهرجاننا قد بدأ تقريبا بشهرين من قبل بأفلام بازوليني التي نقدم فيها أعمالا في غاية الأهمية والغنى الفني. أعمال متوسطية تهتم بتاريخ الجنوب مثل أفلام بازوليني. والمسألة الثانية تتعلق بنشاط ذي بعد بيداغوجي الذي يدخل في إطار مرسيليا 2013 يرتبط بالرقص والمسرح والهندسة ونحن تم تكليفنا بالجانب السينمائي حيث اتصلنا بعدد من المدارس السينمائية في فرنسا وحوض المتوسط مثل مصر ولبنان والمغرب والجزائر وغيرها، فطلبنا منها أن تبعث لنا بعض أعمال طلبتها من السينمائيين الشباب. ثم قمنا بانتقاء كل سينمائي أو سينمائية من كل مدرسة فوصلنا في النهاية إلى اختيار 11 طالبا ستتكون منهم مجموعة عمل لتقديم إنتاجاتها ضمن ورشات عمل مع عدد من المحترفين الكبار. فهؤلاء المحترفون سيشاهدون فيما بينهم في إطار مغلق أعمال أولئك الطلبة السينمائيين في إطار جلسات عمل نقدية. وسيشرفون من جهة أخرى – أولئك المحترفون – على تقديم دروس سينمائية مفتوحة في وجه الجميع – حتى الجمهور – خلال الأيام الأولى للمهرجان. وأعتقد أن تلك الحصص في غاية من الأهمية لأن أولئك السينمائيين الطلبة سيلتقون فيما بينهم من جهة، وهو ما لا يحصل لهم دائما، ومن جهة أخرى فهم قادمون من بنيات بيداغوجية مختلفة في ما بينها فمدرسة مراكش لا تشبه معهد السينما في القاهرة مثلا أو مع مدرسة “فيميس” أو “ليصاف” بتولوز. فهي من آفاق جغرافية مختلفة وأشكال التكوين مختلفة أيضا. سيلتقي الطلبة مع محترفين في إدارة التصوير والإخراج والمونتاج هم أيضا من آفاق مختلفة حيث ستكون هذه الخطوة بالتأكيد غنية جدا. كما سنفتح لهم مجالا أوسع لمشاهدة أكبر عدد من الأفلام.
هاتان الحصتان الرئيسيتان اللتان تضمنهما المهرجان في إطار مرسيليا عاصمة الثقافة الأوروبية 2013.
وما هو الجديد السينمائي في الدورة المقبلة؟
إن لنا المسابقة الرسمية والتي أعتبرها العمود الفقري للمهرجان. وهي التي أخذت منا أطول مدة من الوقت في الإعداد. ولدينا من 36 فيلما العروض الأولى الدولية والعالمية لمخرجين في مستوى عال جدا في الإبداع. وأيضا أعمال لمخرجين شباب الذين بدأ الحديث عنهم لكونهم فرضوا وجودهم. كما عملتُ على أن لا تكون عروض أفلام بازوليني مجرد عروض استعادية معزولة على الهامش بل أردت أن يكون بازوليني هو الذي يعطي الأسماء والتوجيه لجميع العروض الخارجة عن المسابقة. ولا أعتقد – حسب علمي – بان هذا قد سبق أن عمل به مهرجان ما. لا أظن ذلك. وهكذا تصورنا مجموعة من العناوين سواء عناوين أفلام أو مقالات ونصوص وكُتُب التي ألفها بازوليني، في كل فقرة. فيلم لبازوليني وفيلم عن تاريخ السينما وفيلم حديث الإنتاج جدا. وبذلك يكون بازوليني سيد التظاهرة. بدءا بالملصق الذي تم استعارته من الفنان الإيطالي الذي أنجز عمله اعتمادا على مجموعة من المقالات الصحفية حول بازوليني. وقد تم الاشتغال عليها من جديد بالرسم وقمنا مع مصممنا بالاعتماد على ألوان جديدة بالاتفاق مع الفنان طبعا. وعليه فالملصق هو بورتريه جانبي لوجه بازوليني الذي تم حمايته بالألوان.
سيحتفل المهرجان في السنة المقبلة بربع قرن على وجوده. وأنت تقف لأكثر من عقد على إدارته. فكيف تقيم تجربتك الشخصية في هذا المهرجان؟
هذا يخيفني حين تذكر لي هذه الأرقام (يبتسم). لم أكن بالمهرجان حين انطلق منذ ربع قرن كما تفضلت بالقول. فأنا موجود به منذ 12 سنة وهذا كثير على ما أعتقد. لن أخفي عنك قلقي واضطرابي عند كل دورة جديدة وفي كل مرة بشكل مختلف عن السابقة. ولهذا فإنني لا أعتبر نفسي قد وصلت إلى المحطة الأخيرة بل كل مرة أحس بأنني في البداية خاصة مع المبادرات الجديدة مثل “فيدلاب” (FidLab) – ورشة دعم المشاريع السينمائية – والتي ستحتفل هذه السنة بسنتها الخامسة. وكانت إحدى المتعاونات معي “فابيان موريس” وراء مبادرة هذا المشروع منذ خمس سنوات. وقد أعطى “فيدلاب” بعدا جديدا ومتنفسا مهما للمهرجان.
أما الآن فعلى الآخرين أن يقولوا هل حصل تقدما ما أم لا، خلال العشر السنوات الماضية وحملت جديدا أيضا. ليس من عادتي أن أحكم على تجربتي الشخصية. لا أستطيع ذلك بل أترك هذه المهمة للآخرين.

أنا تابعت مسيرتك منذ سنوات على رأس المهرجان. وقرأت لك كثيرا من قبل كناقد فني وسينمائي. وأعرف بأنك لستَ شخصا محافظا في السينما. فهل مازلتَ تجد صعوبات في ترجمة أفكارك وتَقَبُّلِها من طرف الآخرين أم أن الأمر أصبح سهلا الآن؟
لا… لا… فهناك أولا بعض القرارات الجديدة التي تم اتخاذها مؤخرا كالمرور إلى الفيلم الروائي مثلا. كما قررنا أن لا نعرض في المسابقة الرسمية إلا الأفلام في عروضها الأولى الدولية والعالمية والتي شرعنا فيها منذ 4 سنوات. وبذلك فنحن وُضعنا في منافسة – رغم أننا مازلنا صغارا – مع مهرجانات كبيرة مثل لوكارنو والبندقية أو روما. وهي مهرجانات عامة وشاملة. وعليه، فإننا في نضال مستمر ولم نكسب المعركة بعد. ليس هناك انتصار مطلق. وأعتقد بأن هذا يسري على جميع المهرجانات التي لا تريد أن تبقى نائمة. إنها تجربة رائعة التي أعيشها مع المهرجان.
أنت تعلم أنه لم تكن هناك من قبل مهرجانات سينمائية تهتم بالفيلم الوثائقي. والموجودة منها كانت معروفة وتُعد على رؤوس الأصابع إلا أنه وقعت طفرة في السنين الأخيرة بظهور كثير من المهرجانات تتمحور حول الفيلم الوثائقي. فكيف تفسر هذه الظاهرة؟
أولا، نحن لم نعد مهرجانا للفيلم الوثائقي وبالتالي لم أهتم كثيرا بالموضوع. وأعتقد أن الأمر أصبح يتعلق ببروز مهرجانات سينمائية بشكل عام. في الحقيقة ليس لدي جوابا ويمكنني إعطاؤك ثلاثة تفسيرات. فمن جهة تقلصت قنوات العرض، سواء التلفزيون أو القاعات، رغم ارتفاع عدد الأفلام المُنتجة مما يعني وجود سد أمامها. ومن جهة أخرى هناك شهية ورغبة عند الناس لمشاهدة العالم على حاله وحقيقته. ونعرف جيدا بأننا لن نشاهد ذلك على التلفزيون. فأعتقد أن المهرجانات أصبحت نوعا من مبادرات بديلة للتلفزيون. وبقدر ما يحزن هذا فإنه يفرح أيضا إذ يحزن أن لا يجد الفيلم مكانه بسهولة ولكن في ذات الوقت ينبغي أن نفرح بوجود جمهور يتنقل لمشاهدة الأفلام في المهرجانات.
رغم التغييرات التي شهدها مهرجانكم في خط تحريره وتوجهه الجديد وانفتاحه على مختلف الأجناس السينمائية إلا أنكم مازلتم تحتفظون برمزية حرف “الدال” (D) باللاتينية، الدالة على الوثائقي Documentaire في شعار المهرجان “فيد”؟
لا… لا… إن “فيد” هو الإسم الذي يحمله مهرجاننا حاليا والمعروف به عالميا. أما إذا حققت في ملفنا وقرأته جيدا ستجد بأنه “مهرجان دولي للسينما”. أعرف بأنه مشكل بالنسبة للكثيرين الذين لم يواكبوا معنا التطورات والتحولات والديناميكية التي يعيشها مهرجاننا. لكن حرف “D” لم يعد يعني الوثائقي عندنا. وإذا تمعنت في الحرف في شكله الجديد ستلاحظ بأنه أصبح مفتوحا من أحد جوانبه وليس مغلقا كحرف كامل فهو في جماليته الفنية مفتوحا ومنفتحا على الواقع والخيال في ذات الوقت.