اتجاه جديد في السينما الإيرانية.. “برويز” نموذجا

 أمير العمري 
 
نظمت الدورة الثانية والأربعون من مهرجان روتردام السينمائي برنامجا خاص للأفلام الإيرانية، تحت عنوان “إيران: الداخل والخارج”، عرض خلاله 36 فيلما روائيا وتسجيليا، طويلا وقصيرا، سواء من الأفلام التي تنتج داخل إيران في ظل الرقابة المتشددة القائمة حاليا أو أولئك الذين يهربون من الرقابة عن طريق تصويرالأفلام بشكل سري في الداخل الإيراني، أو الأفلام التي تنتج خارج إيران من جانب مخرجي السينما الإيرانيين الذين يعيشون في المهجر (أو في المنفى).  
تعكس مجموعة الأفلام التي عرضها المهرجان تنوعا شديدا في الأساليب والاتجاهات الفكرية والاهتمامات الإنسانية، لكن أكثر الأفلام بروزا في هذا البرنامج كانت تلك الأفلام التي يمكن اعتبارها إعلانا عن سينما إيرانية جديدة تقدم بأسلوب جديد، وتبدو وقد تخلصت تماما من تراث العشرين عاما الأخيرة، وتحديدا من أسلوب عباس كياروستامي الذي يعتبر الأب الروحي أو الملهم الذي أثر في شباب جيل الموجة الجديدة في السينما الإيرانية التي ظهرت في أوائل التسعينيات ويمكننا القول إنها إنتهت عمليا بظهور إتجاهات متنوعة من خلال الأفلام التي شاهدناها خاصة ما جاء منها من الداخل الإيراني.
 
سمات سائدة
كانت الأفلام الإيرانية في معظمها، طيلة ما يقرب من عشرين عاما، أفلاما بسيطة في تركيبها، تميل إلى المزج بين الأسلوبين الدرامي والتسجيلي، وكانت أيضا تنتهج رؤية تقوم على استبعاد كل عناصر الصراع الحقيقية التي توجد داخل المجتمع، داخل الأسرة، بين الرجل والمرأة، وبين الزوج وزوجته، وبين الإنسان والسلطة، مستبعدة الكثير من الأفكار التي يمكن أن تتهم بأنها من الأفكار “المناهضة للجمهورية الإسلامية” أي خارجة عما تحدده أجهزة الرقابة على السينما والفنون بدعوى حماية القيم الإسلامية في إيران.
وكان أسلوب كياروستامي يبتعد عن الصياغة المألوفة لرواية قصة، كما يهتم بالتفاصيل أكثر من اهتمامه بالخط الرئيسي، بل وأحيانا ما يغيب تماما وجود أي خط رئيسي في أفلامه.
كات أفلام كثيرة تركز على الطفل في بطولتها بديلا عن الرجل، وتستبعد المرأة إلا باعتبارها أما أو زوجة تقف في خلفية الحدث، وكان المخرجون يفضلون التصوير في الريف بدلا من المدينة، ويقدمون الكثير من المواضيع التي يتم تصويرها بطريقة تجريدية، تبدو للمشاهد وكأنها تدور خارج الزمان والمكان، أو تهرب إلى الحدود الإيرانية- العراقية، للحديث عن تضحيات إيران في حربها الطويلة  المرهقة مع العراق.

شيرين لعباس كياروستامي

كان عباس كياروستامي يخترق هذه  القيود أحيانا، بحكم ما يتمتع به من شعبية توفر له غطاء داعما في الخارج، فيصور أفلاما ذات طابع تسجيلي، منها ما قد يدور داخل سيارة “تاكسي” تعمل عليه إمرأة مثلا، لا تغادرها الكاميرا في حين يتناوب على الصعود إليها شخصيات كثيرة متعددة ومتنوعة، تقدم رؤية موجزة للواقع في مدينة مثل طهران، أو كان يتوقف أمام وجوه متعددة للمرأة تتعاقب على الشاشة واحدة وراء الأخرى،  تتأمل ��ي فيلم يعرض أمامها على شاشة لا نشاهدها ابدا، بل نتابع ردود الفعل على الوجوه. والقصة لها مغزى في التاريخ الإيراني، ?فهي قصة شرين الأميرة الأرمينية التي أحبت ملك فارس خوسرو وتخلت عن عرشها من أجل أن تلحق به في بلاده لكنه يتخلى عنها بسبب انشغاله في معاركه وصراعاته السياسية التي تقوده إلى روما حيث يتزوج ابنة الامبراطور من أجل تحقيق هدفه في العودة إلى فارس والانتقام لهزيمته واستعادة ملكه. 
كان الأول هو فيلم “عشرة”، والثاني فيلم “شيرين”. وقد ترك كياروستامي تأثيره الكبير على مخرج مثل بهمن قوبادي في “زمن الجياد السكرانة” و”السلاحف يمكن أن تطير”، وعلى جعفر بناهي في “البالون الأبيض” و”المرآة” و”الدائرة”.
كان الطابع العام السائد تجريديا تجريبيا، لا يروي قصصا ولا يقترب كثيرا من الواقع الحالي، ويستبعد أفكارا مثل “الجريمة” أو “الخيانة” بشتى أنواعها مثلا، أو الطلاق، و”القتل” استبعادا تاما لأنها أفكار تتعارض مع ما يريد أن يروج له النظام الحاكم. وظل الأمر كذلك إلى أن ظهر فيلم “انفصال” قبل عامين للمخرج أصغر فرهدي. وكان الفيلم يتناول قضية تعد “سلبية” من وجهة النظر الرسمية، فهو يصور تدهور العلاقة بين زوج وزوجته التي ترغب في مغادرة إيران مع إبنتها وزوجها، لكن الزوج يرفض لأنه مضطر للبقاء لرعاية والده المقعد المسن، فتسعي الزوجة للحصول على الطلاق، بينما يحتفظ الزوج بالإبنة وتغادر الزوجة المنزل إلى بيت أسرتها. ولكن المحكمة ترفض دعوى الطلاق، ويجد الزوج نفسه في خضم قضية أخرى حينما تتهمه الخادمة التي استأجرها بالاعتداء عليها والتسبب في إجهاضها بعد محاولته طردها من المنزل. وكان الفيلم يطرح بوضوح قضايا تتعلق بالتناقضات الطبقية، وبالإنفصال القائم في المفاهيم بين الرجل والمرأة، وبين النظام القضائي والمرأة التي تحرم من الكثير من الحقوق، وكان يناقش أيضا مفهوم العدالة في ظل النظام الإسلامي.. وغير ذلك. وقد نجح الفيلم نجاحا كبيرا وحصل على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي.  
ويمكن القول إنه من معطف “انفصال” ظهرت بعد ذلك موجة أخرى جديدة تناقش الكثير من القضايا والمواضيع كان “مسكوتا عنها” في الماضي. 

دراسة حالة
من هذه الأفلام فيلم “برويز” للمخرج

المخرج مجيد بارزيجار

Barzegar وهو ثاني أفلامه الراوائية الطويلة بعد فيلم “مواسم ممطرة” Rainy Seasons (2011). وقد عرض في مهرجان روتردام الأخير. 
 
يصور الفيلم كيف يعيش “برويز”، وهو في الخمسين من عمره، مع أبيه، في شقة فاخرة في مجمع سكني في إحدى ضواحي طهران. إنه مفرط في البدانة، لا يبدو انه يغير ملابسه الداكنة، يتحرك، ويدخن ويخفي الدخان عن والده الذي يغضبه أن يراه مدخنا في منزله.. فهو “طفل كبير”.. نسمع صوت تنفسه طوال الفيلم، بحكم بدانته.. وهو أيضا غير متزوج، ولا يؤدي عملا حقيقيا بل يقوم متطوعا بتوصيل أبناء الجيران إلى المدرسة بواسطة سيارة يمنحه إياها أحد الآباء من وقت إلى آخر، أو يقوم بدور أمين الصندوق لجمعية شكلها أهالي المنطقة. أما والده فهو أرمل منذ 14 عاما، يقوم برويز على خدمته في صمت وهدوء، يطهو له الطعام، وينظف الشقة، ليس له حياة خاصة، بل يستمتع بالهدوء والعزلة، ويتردد أحيانا على محل غسيل وكواء الملابس القريب، يتبادل الحديث مع صاحبه الثرثار الذي يوجه له الانتقادات باستمرار مرددا على مسامعه عبارة لا يغيرها أبدا: إرتدي ملابس لائقة، إبحث عن عمل، وتزوج!
  
ذات يوم يخبره والده الصارم بأنه يعتزم الزواج، وأنه يتعين عليه الانتقال إلى شقة أخرى استأجرها له من صديق له لكي ينتقل إليها في أقرب وقت.  
تنهار المنظومة  الحياتية لبرويز بالكامل مع هذا التطور الجديد الذي لم يحسب له حسابا أبدا. كيف يتخلى عنه والده بهذه البساطة، ويريد أن يتخلص منه بعد كل تلك السنوات التي قضاها في هذا الحي وهذه الشقة معه. وعندما يذهب إلى مسكنه الجديد يجده مكانا رثا، يكاد يكون فارغا من الأثاث، يبدو مثل معتقل يجلب الاكتئاب. وعلى العكس من الشقة المضئة التي كان يقيم فيها مع والده، يجد مسكنه الجديد مظلما، رغم إتساعه.  
يستغني جيرانه القدامى عن خدماته، وتطالبه رئيسة الجمعية الأهلية برد ما لديه من مال للجمعية، ويرفض الجيران قيامه بتوصيل أبنائهم بدعوى أنه لم يعد من سكان الحي. كيف يمكن أن يفقد برويز تقدير الجميع وثقتهم فيه لمجرد أنه أصبح يقيم خارج الحي!  
لا يستطيع برويز بتكوينه البسيط أن يستوعب هذا. وهو يلقي اللوم كله على والده الذي لم يمنحه أبدا الحب والحنان والآن يبدو كما لو كان يعاقبه أيضا.  
يتغير سلوك برويز ويصبح عدوانيا. فيبدأ أولا بوضع طعام سام في حديقة الحي الذي يقطن فيه والده، مما يؤدي إلى مقتل عدد كبير من الكلاب التي يملكها الجيران. ألم يشكو والده مرارا من هذه الكلاب ويبدي أمنيته بأن يراها تموت. إنه ببساطة يواجه والده الذي يدرك بحدسه أنه وراء تلك الفعلة الشنيعة، ويصرخ في وجهه: ألم تكن هذه رغبتك!  
يقيم طفل من أطفال جيرانه الجدد صداقة معه لكنه يستغل مسكنه الفسيح في الاحتفاظ بكلبه الصغير الذي لا تريده أمه أن يدخله إلى المنزل. يطارد زوجة أبيه ويفزعها ثم يتوقف ويروي لها كذبا كيف أن والده موشك على إشهار إفلاسه، وأنه سيتم الحجز على الشقة التي يقيمان فيها وطردهما منها. يتحول ضد الكلب الصغير المقيم في مسكنه فيقوم بدفنه حيا في حاوية القمامة الواقعة أسفل المنزل.. يختطف طفلة صغيرة ثم يتركها أعلى جسر صغير خارج المدينة.. وعندما يطالبه صاحب المسكن الذي يقطنه بالرحيل يقوم بحبسه داخل غرفة خانقة في المسكن ويرفض إطلاق سراحه. يريده أن يموت اختناقا.
 
كل هذا الشر

يحصل برويز على عمل كحارس ليلي، لكنه يفشي سرا أطلعه عليه رئيسه في العمل فيكون مصير الرجل الطرد، ويحل برويز محله، فيتآمر ضد زميله الآخر في العمل الذي وثق فيه ويهدده بالاستغناء عن خدماته. وأخيرا يفقد برويز أعصابه تماما، ويلجأ إلى إسكات صاحب محل غسيل الملابس الذي لا يكف عن إنتقاده، فيقتله داخل المغسلة في مشهد مروع.  
يقدم الفيلم رؤية سوداوية للواقع.. صحيح أنه يعتبر دراسة نفسية لحالة فردية، تمزج بين الكوميديا والجدية، وبين الرعب والدراما الاجتماعية، لكن العنصر الجديد البارز فيه هو أنه يقدم لنا شخصية في المجتمع الإيراني، تتخلى تماما عن الثقافة السائدة في المجتمع، وتتحول ناحية الانتقام من ذلك المجتمع عن طريق توجيه أكبر أذى ممكن للجميع: الأب وزوجة الأب والجيران السابقين.. إنها حالة شخص بلا هوية. صحيح أنه “مواطن” من الناحية الشكلية لكنه مواطن مرفوض إجتماعيا.. وهو بهذا المعنى، نتاج لمجتمع لا يقيم وزنا سوى للمظاهر الخارجية فقط.
 
معالم الفيلم

للمرة الأولى ربما في فيلم إيراني خارج من إيران وليس من الأفلام التي يصنعها الإيرانيون في الخارج، نرى سلسلة من الجرائم ترتكب بوضوح ودون أن توجد هناك من وراء ارتكابها “حكمة” أخلاقية يريد الفيلم توصيلها للمشاهدين. هناك اختطاف وتعذيب وترويع وابتزاز وقتل. ولا ينتهي الفيلم بالقبض على القاتل ولا بانتصار الخير على الشر، بل يترك المخرج نهاية فيلمه مفتوحة لشتى التأويلات.  
من أكثر جوانب الفيلم تميزا السيناريو المكتوب ببراعة الذي يركز على تطور الحالة النفسية للشخصية الرئيسية: من السلبية والصمت والانصياع والهدوء.. إلى الكشف عن كم كبير من الخبث والشر الكامن تحت ذلك القناع السميك الذي ترتديه الشخصية ويجعل الكثيرين يسخون منه ويعتبرونه “الولد السمين المتخلف”.. لكن برويز في الوقت نفسه، ليس نموذجا للشرير التقليدي أو “المجرم”، بل أقرب إلى ان يكون ضحية للأسرة الغائبة والمجتمع الفاسد.  
أسلوب السرد تقليدي.. قصة تتصاعد تدريجيا بشكل تقليدي: بداية وذروة ونهاية ولكنها نهاية لا يقبض فيها على برويز بل نحن لا نعرف على وجه التحديد ماذا يمكن أن يحدث له.. وأسلوب في الإخراج يحبس بطله داخل الكادر في لقطات قريبة ومتوسطة، مع إضاءة قاتمة، وتوظيف جيد لعناصر المكان، والتركيز على حركة الممثل وتعبيرات وجهه.
ومن أهم وأبرز جوانب الفيلم الأداء التمثيلي للممثل ليفون هافتفان، وهو ممثل إيراني- أرمني الأصل درس التمثيل في إيران، وهو يقيم حاليا في كندا، ويعمل ممثلا ومخرجا مسرحيا وصاحب ورشة للتدرسب على التمثيل. إنه يؤدي بطريقة مؤثرة بديعة: حركاته محسوبة تماما.. تقطيبة وجهه الحزينة تدعو للتعاطف أكثر مما تدعو للنفور.. تفكير وتأمل مخيف أحيانا.. تنفس لا ينقطع بصوت مسموع يغني عن شريط صوت صاخب، فالصمت مع ذلك المؤثر الطبيعي يصنع نوعا من الإثارة والترقب. ولا ننسى أن هافتفان هو بطل الفيلم الإيراني الآخر المختلف تماما في اللغة والأسلوب وهو فيلم “شاكر السمين” Fat Shaker
إننا أمام عمل جديد على السينما الإيرانية، لا يلجأ مخرجه مجيد بارزيجار، إلى الإدعاء والصخب، ولا إلى الرمز السياسي المعتاد والسهل، بل يتعامل مع موضوعه برصانة وحس إنساني رفيع. ولذا يبقى فيلمه في الأذهان حتى لولم يقدره النقد الغربي الذي يبحث في السينما الإيرانية دائما عن “إشارات” تغمز في النظام السياسي!


إعلان