تجارب مع مارون بغدادي
حمزة نصر الله: جمع العبقرية بالموهبة والعلم
بيروت- من نقولا طعمة
على أبواب العالمية، رحل المخرج السينمائي اللبناني مارون بغدادي. كان مشروعا عالميا واعدا، فأجهضه القدر. لكنه في تجربة قصيرة استطاع أن يتطور ويصبح اسما معروفا في الوسط السينمائي في العالم الغربي. وفي تجربته عاصر كثيرين إن من أصدقائه الذين عمل معهم في البدايات، أم من عاملين في النطاق الفني السينمائي.
في ذكرى رحيله العشرين، يفتح باب تجديد الكتابة والبحث عن مارون بغدادي. كتب عنه الكثير، ووضعت كتب لفنه وتاريخه الفني، لكن ما أظهرته “أيام مارون بغدادي السينمائية” التي جرت فعالياتها أواسط الجاري، من عروض وندوات وخلفيات الأفلام يشير إلى أن ما كشف عنه لا يزال في البداية، وثمة إرث يعتبر المغمور منه أكبر بكثير من المكشوف، وهو ينتظر أن يماط اللثام عنه بالتدريج.
ولأن بغدادي رحل مبكرا، فلا يزال كثيرون من معارفه، والذين عايشوه في أعماله، وواكبوه بها، أحياء يرزقون، يكتنز كل منهم الكثير من جوانب من مارون، كل من زاويته.
من الذين عملوا معه في آخر سبع سنوات من حياته وعمله، وتفاعلوا معه عن كثب، المخرج الفني، والممثل حمزة نصر الله الذي يدرس مادة الإخراج في معهد الفنون في الجامعة اللبنانية بعد أن أضاف على تجربته العملانية تخصصا جامعيا في جامعات بريطانيا.
لا يزال حمزة نصرالله يتذكر أيام بغدادي بحنين قاس، يمزج السعادة بتذكره، والحديث عنه والألم والحزن لفقدانه. يصف نصر الله بغدادي بالشخصية المركبة من المخرج البارع والعبقري الفذ في الفن، والصديق الشخصي الذي لم يفصل بين الصداقة والعمل، إلى الشخصية الصادقة المتواضعة. وفي لقاء معه، يذكر نصر الله أنه تعرف على مارون أواسط الثمانينات عن طريق صديق مشترك هو حسن بدر الدين، وهو مدير انتاج سينمائي، ومن مؤسسي فرقة كركلا. وهو مخضرم بالمهنة، وكان صديقا لمارون، وصديقا أيضا لنصر الله منذ الطفولة.

يروي حمزة أنه “عن طريق حسن تعرفت على مارون”، متابعا، “وقبل أن أشارك معه في الفيلم الأول “لبنان بلد العسل والبخور” الذي جرى تصويره في اليونان سنة 1987، التقيت معه قبل ذلك في فيلم “حروب صغيرة” واقتصرت مشاركتي معه على أمور ثانوية، وكان يطلب حسن هذه الأشياء وانا أؤمنها له لكي يستخدمها في الفيلم. لكن الفيلم كان نقطة انطلاق للتعرف على مارون فحسب”.
ويقول أن “مارون يوصف بالمبدع السينمائي، وأستطيع أن أقول ذلك بكل ثقة من خلال تجربتين كبيرتين اشتركت فيهما معه وهما فيلما “لبنان بلد العسل والبخور” و”خارج الحياة”، وهما من أهم أفلامه، والثاني يعتبر فيلما عالميا ونال على جائزة في “كان”، وأنا أعتبره فيلما هوليووديا لضخامته. بالتالي معرفتي به كانت وثيقة، وكنت مقربا منه، والسبب أن شخصيته محببة جدا لدى الناس، فما إن تعرفت عليه حتى شعرت أنه قريب جدا مني، وقد زالت الحواجز بيننا في أيام قليلة”.
في فيلم “لبنان بلد العسل والبخور” 1987، جرى تصويره في اليونان، كان حمزة من ضمن فريق الإدارة الفنية للفيلم التي أوكلت أساسا لمديرة بريطانية. يتحدث كيف كان “علينا تصوير الفيلم في اليونان بسبب الأحداث الأمنية في لبنان، وكان دوري أن أساهم في خلق بيئة ومناخ وطبيعة وألوان تظهر وكأنها لبنانية. في البداية، لم تستطع المديرة البريطانية إيفاء المشاهد حقها من ناحية الديكور، رغم أنها مديرة بارعة، وكان تحويل المواقع اليونانية إلى مواقع لبنانية صعبا عليها. فطلب مني مارون أن أقود الدفة من هذه الناحية، وأدى ذلك إلى أن تنمو العلاقة مع مارون، وتتعمق، خاصة أنني استطعت أن ألبي متطلباته”.
ويتابع: “أذكر أن مارون أعجب بما نفذته له، وقد استأجر لي شقة لتنفيذ الرسومات، مثل صور الزعماء وتعليقها في الشوارع ليظهر المكان كأنه في لبنان. كان مارون معجبا بالعمل، وكان متدخلا دائما عند الضرورة. فمثلا، ثمة مشهد كان يجب أن يصور، وهو خطف لصحافي من قبل مسلحين، وهذه الساحة التي اختيرت كانت تشبه الأحياء الداخلية اللبنانية، وبما أن مارون كان مولعا ب”الغرافيتي”، فكان يتدخل ليضيف على المشاهد عبارات من عنده. كانت عنده متعة لأن يعمل بيده. وعندما كان يعاينني وأنا أرسم الشعارات على الجدران، كان يمسك بقنينة البويا (السبراي)، وبكل روح مرحة أقرب إلى لهو الطفولة نفذ “الغرافيتي” التي أحب على الجدران مستخدما الفكاهة والتسلية مما جعل العمل متعة. لم نشعر أننا كنا ننفذ أعمالا كأننا مجبورون أن ننفذها. أذكره يناديني: أعطني واحدة حمراء، أو واحدة خضراء” ثم ينكب على رش البويا، وكتابة ما يطيب له بكل فرح، طالبا جملة قد تغيب عن ذهنه. وأحيانا كان يشارك باختيار الشعار الذي يراه أفضل. كان قريبا من القلب جدا، ومتواضعا”.

وينتقل نصر الله ليتحدث عن اهتمام بغدادي بإنجاز الفيلم، فيقول: “كان مخرجا يعرف ما يريد. اشتغلت مع مخرجين كثر بعده، والآن أقول بعد كل الخبرة التي اكتسبتها، أن هناك مخرجين يعرفون ماذا يريدون، وآخرون لا يعرفون. لكن مارون كان يعرف كل ما يريد، المشاهد وخلفياتها، وكل العناصر التي يحتاجها الفيلم. وهذا يتميز به مارون دون بقية المخرجين. وهو يعتبر جزءا من عبقريته الفنية. كنت ايضا معجبا بإدارته للممثل، ففي فيلم “لبنان بلد العسل والبخور” لم أكن ممثلا، وكان علي أن أعمل تقنيا من وراء الكاميرا. لكن مارون لمس لدي قدرة على التمثيل فأعطاني 4 أو 5 أدوار صغيرة. ومنذ ذلك الحين نصحني بالتوجه إلى التمثيل. وكان يرتجل الأدوار لي، وببداهته، استطاع أن يكتشف موهبة لدي، ولم يتردد في إعطائي عدة أدوار مختلفة في فيلم واحد”.
ثم يتناول جانبا آخر من شخصية بغدادي الفنية، فيقول عنه أنه “كان جريئا في اختيار المشهد وتدريب الممثل عليه. فمثلا، أنا لم أحمل قطعة سلاح ولا مرة في حياتي، لكنه طلب مني لعب هذا الدور في تنقل لسيارة “فان” تقل جريحا، وذلك كمشهد من مشاهد الحرب. وكان دوري أن أحمل البندقية، وأطلق النار منها في الهواء، مع العلم أنني لم أكن أجيد استخدام السلاح، لكن مارون كان على ثقة بنجاح الدور”.
وعن كيفية مساعدة العاملين معه على تطوير قدراتهم، يقول: “كان يتلمس المهارة لدى العاملين معه، فيعرف أي دور يمكن أن يلعبوه. كان لديه حدس في تلمس قدرة العاملين معه، ويعرف بسرعة بداهة أي دور يمكن أن ينجح الواحد منهم فيه، فكان يشجعني كثيرا مما دفعني إلى تطوير قدراتي على تنفيذ الأشياء. أستطيع القول أن مارون كان الأساس في تطوير قدراتي، ولو عملت مع مخرجين غيره، خصوصا بعد أن اختبرت العديد منهم، لما تمكنت من أداء الأدوار العديدة التي أوكلها لي. السبب حسن إدارته للممثل”.
وكيف ذلك؟ يقول: “في فيلم “خارج الحياة” أوكل لي دورا هاما، وذات مرة كنت شديد الإرهاق، ولم أستطع أداء دوري، فأبقاني معه في فترة الغداء، وكنا معا لوحدنا، وعاد من الصفر يدربني على المشهد إلى أن تمكنت منه. الفضل بذلك يعود له ولحسن إدارته، وقد تمكنت من تصوير المشهد بعد هذا التدريب المختصر، بلقطة واحدة. كان علي أن أقلد روبيرت دونيرو ودربني مارون عليه، وكان ذلك في منزله. أتى بفيلم “سائق التاكسي” لروبرت دونيرو وتركني اشاهده، وطلب مني أداءه لكن بشخصيتي الخاصة. قال لي أنك ستضحك العالم بينما أنت جدي. شربني التجربة والدور بالملعقة، فقدمته بأحسن ما يكون. بينما مخرجون آخرون يعرقلون الممثلين غالبا، حتى أن العديد منهم يحبط الممثل البارع والموهوب”.
ويفصل رؤيته لبغدادي على أكثر من مستوى، فقال: “مارون بغدادي كان يلعبها بالعكس، فإذا لم تكن لدى الممثل موهبة، خلقها لديه، وتركه يؤديها بطريقته. كان يتدخل بكل تفاصيل الفيلم من التمثيل للتقنيات، ولكل عناصره، وكان موهوبا وجامعا بين الأكاديمية والخبرة والموهبة. وكان صديقا للعاملين معه، ويجمع الناس الذين يعرفهم للعمل في الفيلم. وعند وجود سيناريو علينا تلاوته، كان يطلب من الممثلين أن يقرأوا النص، ويعيدوا كتابته ليؤدوه وفق ما يناسب كلا منهم. كان يعطي الممثل حقه، فالممثل عندما يؤدي إحساسه يكون المخرج حقيقيا في عمله. كما تميز بأنه ابن الأرض، أي أنه أحب الأشياء كما هي ولم يكن “يتفذلك”. ففي مشهد في “لبنان بلد العسل والبخور” كان هناك صراخ نتيجة إصابة الناس بقذائف، فكان يذكرنا بالتعابير الشعبية المستخدمة في الشارع التي يجب أن نضمنها للدور. وهو أصلا كان يحب لغة الشارع، ومتحسسا لنبضه”.
عن مشاركته في بقية الأفلام، قال: “كان يفترض أن أمثل معه في الفيلم الذي لم يكتمل وهو “زوايا”، نص حسن داود، 1993، وكنا نتباحث في الفيلم في مقهى الروضة على البحر، إلى أن وقعت الحادثة”.
عن موقفه من الحرب، وانحيازه، يصفه بأنه “كره الحرب”، وذكر أنه “لم يشعر بانحيازه لطرف دون آخر رغم ما عرف من ميوله السياسية اليسارية. كان يكره الجميع بسبب الحرب. يئس من الشعارات التي رفعت بسبب الحرب وبشاعتها والابتعاد عن أهدافها التي كانت معلنة”.
وتابع: “اشتغلت معه سبع سنوات منذ ال1986 وحتى وفاته. عنده تنوع في الأفلام من الوثائقي إلى الدراما، وفي مختلف أفلامه التي كان بعضها فرنسي الهوية، كان طابع الفيلم لبنانيا. لكن في افلام أخرى ك”فتاة الهواء” و”داما” كانت فرنسية بالكامل لكن نفس مارون كان موجودا فيها. شاهدته في الأفلام التي شاركت بها، وفي الأفلام التي لم اشاركه بها.
فيلم “فتاة الهروب” كان فيلم “أكشن” ظهر فيه جانب آخر من مارون، وهي “السمة العالمية في بصمات الفيلم، وفيه عناصر سينما عالمية. ولم أجد أنه يختلف عن أفلام الأكشن العادية التي نالت نجاحا باهرا. في أي فيلم هوليوودي فيه مطاردة وعنف، وأداء جيد وإنتاج كبير، وكاستينغ جيد، وكان ذلك موجودا في أفلامه “فتاة الهواء” و”مارا” وسواها”.

ويعود للتذكر من تجارب أكثر قدما تعود إلى سنة 1989: “كنت ذاهبا إلى أميركا، ومررت ببيته لقضاء ليلة، أخبرني أن عروضا عديدة أتته من هوليوود، وأتصور أن فيلمه الذي أنتج 1990 كان قيد البحث، ولو كتبت له الحياة ولم يحدث معه ما حدث، لأصبح مخرجا عالميا مشهورا، وهو في الحقيقة يعتبر مخرج عالمي. لكن كانت هوليوود تنتظره. ذكر أمامي إمكانية التعاون مع ممثلة أميركية مشهورة هي جيسيكا لانج، واسما مشهورا آخر، كما شاهدت عنده مشروع فيلم أميركي أيضا”.
وكيف استفاد من تجاربه السابقة، يقول حمزة: “تعلم مارون من ثغرات أفلامه السابقة، وكان دائما يقول لنا، مثلا، أن هذه ثغرة وقعت في فيلم سابق، ويجب أن نتلافاها. لكنه لم يندم على أعماله، ولو كان بعض الأحيان يعبر عن رضى أقل عن بعض أفلامه السابقة. كما كنا نلتقي غالبا في منزله لبحث شؤون عملنا الفني المشترك، وهذا يدل على مدى الحميمية في علاقاته المهنية، وبالتالي يأخذ النقاش منحى أكثر صدقية ووضوحا، وكنا نجري مقارنات مع أفلامه السابقة لتلافي ثغراتها”.
وعن جانب آخر من عبقريته السينمائية أنه “تميز أيضا بمعرفته القاطعة بما يريد. لذلك كان يصور اللقطات مرة واحدة، بينما نجد أن المخرجين الباقين يأخذون لقطات متعددة للمشهد عينه لكي يتم اختيار الأنسب لاحقا، أو إخضاع المشهد للمونتاج. عند مارون لم يكن هناك هدر بالانتاج. واذكر على سبيل المثال وفي هذا النطاق مشهد الفرس الذي عليه أن يعبر خط التماس في “خارج الحياة”. التقط المشهد من لقطة واحدة وبكاميرا واحدة للفرس، وعرض المشهد كما التقطه بالتمام”.
ثم تحدث عن تجربة أخرى له مع مارون، و”كنت اشتغل في فيلم “خارج الحياة” محل ثلاثة اشخاص، واللافت أن مارون كان يقدر الموقف. كنت أقيم في أوتيل حجز لي في فرنسا، وكان هناك وسائل نقل خاصة للمشاركين في الفيلم، لكن مارون كان يمر بي من منزله إلى الأوتيل ليأخذني معه حيث نتداول بما يجب أن نعمله لدى وصولنا إلى موقع التصوير. وعندما نصل إلى الموقع، كان يطلب مني أن آتي بفطور لي وله، وكانت ترويقتنا معا مشتركة. كان محبوبا ومحبا ويفضل الحميمية على المهنية، وأعتبر غيابه خسارة كبيرة”.
وخلص نصر الله إلى أن بغدادي “جمع بين الموهبة والعبقرية والعلم السينمائي، وكانت انطلاقته نحو العالمية سريعة، واختير بين عشرات المخرجين الفرنسيين لبعض أفلامه، ولم يكن بمتناول اي مخرج أن يفرض نفسه على الصناعة السينمائية الفرنسية. وفي آخر أيامه كان يتحضر ليكون عالميا، وهوليووديا. لقد رحل في بداية انطلاقته العالمية، فأجهض مشروعا سينمائيا لبنانيا عالمي الطابع”.