” ثقافات مقاومة” : جماليات التشظي المكاني

طاهر علوان

1
مازلت في دائرة محور  المكان في الوثائقي ، تلك الدائرة التي تتسع الى تنوع خصب واساليب متنوعة في قراءة ورسم وتجسيد المكان ، فالمبدأ القائل بوحدة المكان كمكون عضوي في البناء الفيلمي سواء ضمن المشهد الواحد او ضمن البناء الفيلمي بشكله الشامل من الممكن ان تتحول في بعض المعالجات الى نوع من القراءات المتعددة والمتوازية للمكان وذلك ما يسعى الوثائقي في بعض الأحيان للوصول اليه . وفي هذا الصدد تذهب الباحثة ” تريشا داس” الى ان “النواة المكانية للوثائقي تبدأ من السيناريو بشكل اساس لكنها ستفترق في تنويعات عدة من خلال المعالجة الفيلمية للمكان ” . بديهية تؤكد  حقيقة تلك القراءات المتعددة للمكان والمستويات الجمالية التي من خلالها تتم الأحاطة به.
ومما لاشك فيه اننا ومن خلال العديد من الأفلام الوثائقية نجد ان عنصري الشخصية / المكان هما الثنائية التي من خلالها ننطلق في قراءة مجمل المتن السردي الصوري وتتبع مجمل القصة الوثائقية ليس بشكلها الدرامي بالطبع بل بمقدار تجذيرها بقطبي الفيلم ، الشخصية وهي ترسم مكانها الخاص وتؤطر به والمكان بأعتباره العنصر الموضوعي الذي تنعكس عليه افعال الشخصيات .

المخرجة لارا لي

في فيلم ” ثقافات مقاومة ” للمخرجة  “لارا لي ” ، نجد كثيرا جدا مما ذهبنا اليه بل انها تدفعنا قدما الى قراءة جمالية مختلفة للمكان من خلال مايمكن ان نسميه بالتشظي المكاني ، فالثيمة واحدة ومنها  : الطبيعة ، متغيرات المناخ، الحريات ، السلام ، حقوق المرأة وغيرها من الثيمات في مقابل بيئات متعددة .
من هنا سننطلق في قراءة هذا الفيلم الوثائقي ” الشامل ” الذي تم تصويره في خمسة قارات وتنقل فريق العمل من اجله من اقصى الأرض الى اقصاها .

2
كنت قد التقيت المخرجة ” لارا لي” في احد مهرجانات المغرب السينمائية العام الماضي ، وقبل ذلك كنت اتابع عملها واتواصل معها ومع منجزها فهي علاوة على كونها مخرجة فأنها ناشطة في مجال الحريات وحقوق الأنسان ولديها مؤسسة خيرية تديرها وتعنى اشد العناية بالحقوق والحريات ومظاهر الأضطهاد من حول العالم فضلا عن الفقر وانعدام المساواة .
في فيلمها ثقافات مقاومة ، نحن امام كثافة تعبيرية تتعلق بالبعدين ، الشخصيات والأماكن ، فهذه الغزارة التي ينطوي عليها المكان انما اراد الفيلم من خلالها ان يمضي في الوصول الى ثيمته الأساسية بلا كثير من الشرح والتفصيل ، تاركا للصور المكانية وللشخصيات ان تكشف عن كل شيء.
ينطلق الفيلم من احتفال عالمي بيوم السلام ، ننتقل فيه من سيراليون الى الى افغانستان الى الأرجنتين الى فرنسا الى الولايات المتحدة فالكل نزل الى الشوارع وراح يستخدم الفن اداة وقاسما مشتركا للتعبير عن السلام وحب السلام في الأرض ، مجتمعات لايربطها رابط سوى توقها للسلام واعتباره شكلا من اشكال مقاومة الظلم والأضطهاد، بانوراما صورية كثيفة تتنقل فيها الكاميرا بين اشخاص من تلك القارات المتباعدة ولايستخدم الفيلم الأحاديث المطولة بقدر اعتماده البرقيات السريعة ، والخلاصة : ان السلام هو ثقافة وان على الجميع ان يتعلم تلك اللغة ويعتبر السلام اداة رئيسية للتغيير والمطالبة بالحقوق، كلام تجمع عليه شخصيات مدافعة عن السلام من جميع القارات.

3
مما لاشك فيه ان لكل مخرج ” استراتيجيته” ورؤيته في رسم مراحل التحولات في الوثائقي ، وبعد ان نستغرق في مسألة السلام وثقافة السلام فأننا سرعان ماسننتقل الى قضايا اكثر تشعبا وفي بيئات مختلفة ، ان كانت ثقافة السلام اساسية للدفاع عن الحقوق وترسيخ هذه الثقافة فأن التحديات التي تواجه المجتمعات بسبب كثرتها وخطورتها تجعل صوت الأنسان شاحبا وضئيلا ازاء مساحات الظلم والعنف والأيذاء والأستغلال والأضطهاد المنتشرة في انحاء العالم.

هانحن في البرازيل، وهذا هو النهر الأشهر ” شنجو” الذي يعد اشهر انهار العالم والذي يخترق غابات الأمازون ، ولكن هاهي الشركات العابرة والمستثمرين يزحفون على كل شيء ، يقطعون الغابات ويتاجرون بها ويقيمون على الغابات السابقة مصانع تنفث السموم وتغير التركيب الايكولوجي لتلك المنطقة ، وفي هذا السياق سنشهد تجمعا لسكان احدى تلك المناطق وهم عرقية صغيرة اسمها ” الكايابو” اجسادهم شبه عارية ويعيشون في تلك الغابات حياة شبه بدائية والسيوف لاتفارق ايديهم كجزء من موروثهم وهاهو ممثل الشركات يبرر امامهم ماتم القيام به من اعمال يزعم انها تصب لصالحهم لكن مالم يكن في الحسبان وفيما الكاميرا تدور ان يتم الهجوم عليه من افراد تلك العرقية ويطرحونه ارضا ويوسعونه ضربا ليهرب وهو لايلوي على شيء.
صورة اخرى من نيجيريا لبؤر الفقر وفيما الأطفال يشربون المياه شبه الآسنة ليعبر الناشطون المدافعون عن حقوق الأنسان عن احساسهم بالمأساة فالمستنقعات التي يشرب منها السكان مخلفة العديد من الأمراض لاتبعد كثيرا عن اهم مواقع شركات استخراج وتصدير النفط ، هذه المفارقة تدفع الى ظهور مليشيا انتقامية ضد تلك المنشآت النفطية التي لم تجلب خيرا لسكان تلك البيئات المحرومة. لكن بموازاتها تظهر جماعات لاعنفية ومغنو راب وموسيقيون يستخدمون وسائلهم السلمية للمطالبة بحقوقفهم ومنهم المغني الشهير ” فيمي كوتي ” ومجموعات شبابية اخرى .
اما في الكونغو فثم دراما هائلة في بلد يعد الأكثر دموية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية  لجهة عدد الضحايا الذين سقطوا فيه من جراء الحروب الأهلية وهو بلد يتميز ايضا بضخامة موارده وثرواته الطبيعية ولهذا صار ارضا للصراعات ، اليورانيوم ، الكوبالت ، النحاس، الماس ، الحديد ، النوبيوم كلها معادن تحتل الكونغو موقع الصدارة في انتاجها فضلا عن معدن ” الكولتان” الذي يعد من الموصلات الكهربائية عالية الجودة والتي تستخدم عادة في الهواتف النقالة وحيث الكونغو تنتج مامجموعه 80 % من  الأنتاج العالمي لهذا المعدن.في هذا البلد الثري وفي المقابل يقتل 150 شخصا يوميا وقتل قرابة اربعة ملايين انسان خلال عشرة سنوات ومئات الوف النساء تعرضن للأغتصاب . على هذه الأرضية سنستمع بأيجاز متقن ومؤثر لقصص قتلة ومجرمين وقصص ضحايا في شكل برقيات سريعة : ” انا اختبأت بفضل هذه المرأة العجوز لثلاث سنوات في بيت للدجاج كانت تطعمني وتسقيني لكوني كنت مطاردا من القتلة ” ، يقول احد الضحايا ، “انا بقرت بطن امرأة “، يقول احد المجرمين ، “انا كنت اصطاد الفتيات لغرض ان يغتصبهن زعيمي في الحرب” ، يقول مجرم آخر وهكذا نجد مايشبه كورالا ضخما يطلق اوجاعه وصرخاته وهو يفتقد الى الأمان والسلم الأهلي .

4


بموازاة هذا الواقع ، ثم خطاب يترعرع في كنف الأزمات وهو خطاب الكراهية وهو الذي يتتبعه الفيلم متنقلا بين البلدان الأكثر تعبيرا عنه ابتداءا من رواندا ، البلد الأشهر في قصة الصراع الدامي بين عرقيتي ” الهوتو والتوتسي” لكن خطاب الكراهية هذا تسمعه صادحا من خلال اذاعات تنادي بالقتل ويجري استخدام مكبرات الصوت لبث ذلك الخطاب التحريضي من مثل : ابيدوهم واقتلوهم وشردوهم وبينما ينشط خطاب الكراهية سينشط في موازاته خطاب الدفاع عن الحرية والسلام تقوده نساء حقوقيات وفنانات ومثقفات ومنهن ” لويزيا انيومبا” التي تجدها في اوساط الفقراء والأيتام تقاوم معهم خطاب الكراهية .
خطاب الكراهية نفسه تجده مجسدا في معاناة الفلسطينيين من جراء جدار الفصل العنصري حيث ننتقل الى الجماعات الفلسطينية اللاعنفية ومغني الراب وهم يصدحون بالأغاني المطالبة بالحقوق وصولا الى الرسامين الأيرانيين الذي جسدوا احداث ماعرف بالثورة الخضراء التي تمثلت في مظاهرات مناوئة للنظام الحالي .
هذا التنوع المكاني اعطانا زخما هائلا عندما يتحد الأنسان مع الأنسان في معاناة واحدة ونزعة حرة واحدة ووعي مشترك وكله يسرده الوثائقي في منحى مختلف تخشى عليه من الشتتت ، لكنه في واقع الأمر نوع من التشظي المكاني ناتج عن  قوة المعاناة وكثرة المعذبين وهو نوع من التنوع المكاني الهادف الى تتبع الظواهر ، والبحث عن المشتركات والهم الأنسان الواحد الذي تلخصه مفردتا السلام والحرية.


إعلان