“نحن الذين أحببنا” سرد مثل روائي،واقعي، وثائقي
قيس قاسم
الكلمات التي وردت في أسباب منح مهرجان”آرت دوك فيست” للأفلام الوثائقية في موسكو جائزة أفضل فيلم للسويدي “نحن الذين أحببنا” جاءت أقرب الى شهادة استحقاق بحقه وبحق مخرجيّه هوكان بينوفيسكي وكوغه يونسون، منها الى كلمات “توضيح” لدوافع لجنة التحكيم في إتخاذ قرارها. جاءت كلماتها كشهادة نقدية مكثفة: “إلينا، الى موسكو جاء الكثير من المخرجين، بمشاريع تطمح لتجسيد روسيا سينمائياً. جاءوا من الولايات المتحدة الأمريكية من فرنسا، بريطانيا والمانيا وغيرها ولكن أي من أفلامهم لم تحرك دواخلنا وتمس صميم حياتنا كما فعل الفيلم الوثائقي “نحن الذين أحببنا”. ذلك الفيلم الذي أنجزه مخرجان سويديان تحدث عن بلادنا العظيمة عبر دراما جوانية. فيلم أصابنا نحن الروس في صميم قلوبنا”. كانوا محقين في حكمهم لأن الجزء الأخير من ثلاثية السويدين التي بدءاها منذ أكثر من عقد في مدينة سترايا الصغيرة، القريبة من العاصمة موسكو، لخص فصلاً حاسماً من حياة عائلة منها وعبرها وثق فيلمهما حقيقة الأوضاع الجديدة التي تمر بها روسيا بإسلوب سردي/ تاريخي، مشبع بروح روائية، جعلت من السهل ملاحقة تفاصيل حياة أفرادها وملاحظة مقدار تأثرهم بتاريخ بلادهم أو بعبارة أدق التعرف على مقدار قوة ضغط التاريخ عليهم وعلى بقية الناس في هذا البلد الذي يمر بمرحلة انتقالية يغدو الحديث عن أي موضوع يخصها عرضة للتجذاب والتناقض بل وحتى مدعاة للشك بالتاريخ وحركته مع اقرار الجميع، تقريباً، وفي نفس الوقت بقوة العاطفة الإنسانية وثباتها، والتي بفضلها تصبح فكرة قبول الآخر عندهم ممكنة وأيضاً المضي مع من يحبون سوية، الى أبعد ما يستطيعون، قابلة للتحقيق.

أضرار التاريخ
لاينفصل أفراد العائلة الروسية الصغيرة عن موروثهم وعادتهم ولا طبعاً عن انسانيتهم، وبفضل الارتباط العضوي المتفاعل لكل تلك العناصر، تُخلق ديناميكية الحياة نفسها وقد ينتج عنها مشكلات مثل؛ الإدمان الكحولي الذي يعاني منه الكثير من الروس والذي يشكل جزءاً من موروث اجتماعي طويل ليس من السهل التخلص منه. لقد تخلخلت علاقة جينيا بزوجته آنيا بسبب سلوكه العنيف وافراطه في شرب الكحول وصحبته لمجموعة من العاطلين. لم تعد علاقتهم كما كانت فقد دخل السجن أكثر من مرة وأخرها بتهمة الاغتصاب وكان عدا هذا يضربها كلما أفرط في سكره ومع ذلك ظلت الزوجة تشعر نحوه بمسوؤلية يمليها عليها احساسها بالحب نحوه قبيل انفصالهما. من هذة النقطة يبدأ الفصل الثالث من حياة عائلة جينيا، فهو ورغم وجوده في السجن تسعى زوجته ومعها حماتها في توفير ما يحتاجه من طعام ونقود قليلة تجمعها السيدتين من عملهن في محل لتصليح الأحذية. عبر حوارتهن نستشف بأن ثمة خيط من الحب لم ينقطع، الأم حبها غريزي لكن الزوجة تكنه ضامراً من سنوات تعارفهما الأولى ومن زواجهما الذي لم يدم طويلاً وأثمر عن مولد طفلة اسماها ناديا.
في ما يشبة بعملية “فلاش باك” يعود الوثائقي الى سرد تاريخ العلاقات المتداخلة بين الزوجين وطفلتهم وبين حمويها بوصفهم أطرافاً ثانوية في متن الحكاية الرئيسة التي تدور حول مصائر شديدة الترابط بمتغيرات تاريخ بلادهم روسيا التي تتوزع بدورها بين ما كانت عليه في الحقبة الاشتراكية وبين تحولاتها المترجرجة.
التحكم بالزمن

قيمة الفيلم الحقيقية تكمن في اسلوبه الروائي وتعامل صُناعه مع الزمن كمادة وثائقية شديدة الأهمية. فالحكاية، أو حكايات أفراد العائلة الروسية، كانت تسير كما في الأفلام الروائية الطويلة، منسوجة وفق نص مكتوب تميز عن السيناريو الروائي التقليدي بأن أحداثه وقعت بالفعل وسُجلت برؤية توثيقية وبروية وعلى مدد طويلة زمنياً فظهرت حين تم تنظيم تسلسلها مونتاجياً كما لو انها فيلماً لعب فيه الممثلون أدوارهم كما يلعبونها في الحياة، فهم كانوا يتصرفون على سجيتهم وحافظوا، لطول تعايشهم مع صُناع الفيلم، على الخيط الدرامي دون انقطاع، كما ان تفاعلهم اليومي فيما بينهم لعب دوراً في تسهيل كتابة النص ويكفي الاشارة هنا الى علاقة الزوجة بحماها ساشا الذي ظهر انه يحبها وقد طعنها بسكين في نهاية الشريط حين عرف انها ما زالت تحب ولده، وهو في السجن. ومن علاقته مع من تبقى من أصدقائه فهمنا أثر التغيرات الاقتصادية الرأسمالية عليه وعليهم، وانها كانت السبب في موت الكثير من الذين اشتغل معهم في السابق قبل خروجه على التقاعد، لأنهم وببساطة لم يتحملوا الضغط الشديد الذي نتج عنها وعما أفرزته من مشكلات كانت تدفعهم الى معاقرة الخمرة هروباً من وطأتها. على نفس المستوى مثلت علاقة الطفلة ناديا بأبيها مساحة درامية مثالية قل حدوثها في الفيلم الوثائقي فمنذ يوم ولادتها والكاميرا ترافق نموها حتى اللحظات التي كانت تكتب فيها لوالدها رسالة تقول له فيها بأنها تحبه رغم انها تخاف من مقابلته، والأم في حوارها مع حماتها تعبر عن درجة حبها لزوجها وكراهيتها لأفعاله وللمجتمع “الجديد” الذي يوفر مناخاً مناسباً له ولأمثاله للخروج عن السلوك السوي الذي ما عاد واضحاً، فالجريمة لم تعد مفهوماً حقوقياً محدداً يقابلها العقاب، لدخول الكثير من المؤثرات الخارجية عليها مثل؛ رشاوى القضاة اللذين بمستطاعهم اخراج الزوج من السجن لو توفرت عندهم امكانية دفع ما يطلبه القضاة ورجال الشرطة من مال. تعارض القيم وظهور أنماط جديدة من الحياة تتجلى في تفاصيل عمل النسوة في محلهن، فالناس ما عادوا كما من قبل يصلحون أحذيتهم بل يفضلون شراء جديدة سيئة الصنع على تصليح القديمة الجيدة، والنساء صرن يلبسن ملابس غالية الثمن ليس بمستطاعتهن التفكير ولو في لحظة بإمتلاكها يوماً. الشيء الوحيد الذي ظل عندهن رغم كل ما جرى لهن ولبلادهن هو كمية الحب والتسامح الهائلتين. فالنساء في “نحن الذين أحببنا” معطاءات، كريمات ومتسامحات مع الأذى، لا يحملن ضغائن، على العكس يملكن من الحب ما يكفي لجعل الحياة مقبولة وممكنة الاستمرار ولهذا ثمة في عمل السويديان انحياز نسوي واضح كتبه الواقع لا المؤلف السينمائي مثل الوثائقي نفسه فهو سلس السرد مثل روائي شديد الواقعية مثل تسجيلي محكم.