حوار مع الناقد السينمائي المصري أحمد شوقي
حوار : صلاح سرميني
كانت فكرةٌ قديمةٌ خطرت في بالي، إجراء حواراتٍ مع نقاد السينما العرب، صُناع الثقافة السينمائية، ولكن، كيف بالإمكان الحوار معهم عندما يكون المُحاور نفسه مُتورّطاً في نفس المهنة ؟، وماهي الأهداف المرجوّة منها ؟، وهل يمكن تحقيقها عملياً ؟،…والكثير من الأسئلة التي دارت، وتدور في ذهني، وحالت دون إنجازها في وقتٍ سابق، حتى جاءت الفرصة، الكتابة عن إصدار جديدٍ للناقد السينمائي اللبناني “محمد رضا”، وإستثمار تلك القراءة للتحاور معه حول أمور تتعلق بالثقافة السينمائية.
أعرف، بأنّ أيّ ناقدٍ يمتلك القدرة، والوسيلة الإعلامية كي يكتب ما يشاء، حيث تعتمد طبيعة مهنته في جوهرها على التوّجه إلى القارئ عن طريق الكتابة، أو القول، وأضيف أيضاً، نشاطه المنهجيّ للتعريف بالسينما (عروضٌ خاصة، جمعيات، نوادي، مراكز ثقافية، أسابيع أفلام، مهرجانات،…)، ولكن، فعلياً، وعملياً، أتخيّل بأنّ الناقد، ومهما كان إنغلاقه، أو إنفتاحه، لا يكتب، أو يقول كلّ شيئ، هناك دائماً خواطر، وأفكاراً يحتفظ بها لنفسه على الرغم من الحريات المُنضبطة، أو المُنفلتة التي سمحت بها وسائل التواصل الإجتماعية، والمواقع، والمُدونات الشخصية .
ومن هذه الملاحظة، تنطلق رغبتي في محاولة فتح أبواب، ونوافذ الغرف السرّية للناقد العربي، وإكتشاف بعض ما تُخبئه من كلماتٍ لم يكتبها بعد، أو يخشى كتابتها.
في هذه الحوارات، لا/ولن أدّعي، بأنّ كلّ ما سوف نقرأه الآن، ولاحقاً، جديدٌ، ومتفرّد، ولكن، رُبما أستطيع إيقاع هذا، أو ذاك في أفخاخ، ومصائد كثيرة منتشرة في خفايا الأسئلة، والأجوبة، أو نعثر على زلات لسانٍ، فضفضة، حالات إنفعالٍ، أو حتى غضب، ..الطموح الأهمّ، أن تكون هذه الحوارات مفيدة، شيقة، ومختلفة.
كانت البداية مع الناقد السينمائي اللبناني “محمد رضا”، وتتواصل اليوم مع المصري الشاب “أحمد شوقي” الذي شمّر عن ساعديّه، وترك أصابعه تنتقل بحريةٍ بين أزرار لوحة الكتابة، وكتب بسرعةٍ أحسده عليها للردّ على أيّ سؤالٍ عاديّ، أو إستفزازيّ وهميّ إخترعته من خيالي، ولا ينطبق عليه، هو الذي أعرف بأنه مشاهدٌ نهمّ، وفيسبوكيّ سليط اللسان.
الإشكالية المُؤقتة التي تخطر على بالي حالاً :
ـ هل يتوّجب عليّ محاوراً بأن أبقى مُحايداً ما أُمكن في تعريف القارئ بالناقد ؟، وهل يحتاج أصلاً إلى هذه الخطوة المُجامِلة، والتجميليّة إلاّ إذا كان يعيش في مجراتٍ أخرى لا تصل كتاباته إلى كوكب الأرض.
بعد ثواني من التفكير، وجدتُ بأنّ الحل الأمثل (والأسهل طبعاً)، ترك القارئ يُكمل مسيرته معه، أو التعرّف عليه بنفسه إن كان فعلاً بحاجةٍ إلى تعريف، والطريقة المُثلى متابعة نشاطه النقديّ، هذا يعني، بأنني سوف أتصنّع الموضوعية، أزايد عليها، وأتاجر بها، وأغلف هذه الحوارات بذاتيةٍ مزدوجة من الطرفين، وهل يمكن السكوت بعد اليوم عن توصيفيّن مُزيفيّن : نقدٌ موضوعيّ، وآخرٌ علميّ، حيث يبدو لي، بأنّ الأول خرج من الحياد المُطلق، والثاني من المخابر.
رُبما يبقى هذا الحوار مُنفرداً، وتتوقف السلسلة كما عادة معظم مشاريعنا، أو ـ من يدري ـ يُضاف إليه حواراتٍ مع نقادٍ آخرين من كلّ الأعمار، والخبرات، والتوجهات، لن أدغدغ مشاعر الشباب منهم بحجة التشجيع، ولن أتملق من هم أقلّ شباباً، في البداية، سوف أعتمد نموذجاً مُوحداً من أسئلةٍ قابلة للتعديل، الزيادة، أو النقصان، أو حتى الإزدراء، والإهمال، والنسيان، الهدف، كما سوف يتبيّن لنا تدريجياً، إثارة الجدل، وحتى المُناظرات الفكرية النقدية، ورُبما المعارك البنّاءة، أو الهدّامة، لا فرق..
سوف تتطوّر الأسئلة، والأجوبة من خلال التواصل المُتبادل، تتوقف، تُؤجل، أو تتجول في طرقٍ عريضة، معبّدة، ومريحة، وأحياناً، في دروبٍ ضيقة، متعرّجة، وحتى مسدودة.
ـ أحمد شوقي، أنت سعيدٌ لأنني أصفك بالناقد الشاب، ويُحاورك ناقدٌ أقلّ شباباً، مش كدة..؟.
ـ أعترض على وصفي بالناقد الشاب، أو إلحاق وصف الشاب بأيّ مهنة، أو الإدّعاء بأنّ هناك ما يدعو إلى دعم الشباب، أو تشجيعهم، أو تمكينهم، أو كلّ هذه المُصطلحات التي أصبحنا نسمعها يومياً، ويتعامل معها البعض بإعتبارها مسلماتٍ غير قابلة للنقاش.
مهنياً : الناقد الجيد حتى وإن كان مراهقاً، وسوف يبقى السيئ سيئاً حتى بعد عقودٍ من الزمن.
فنياً : هناك من تجاوز السبعين، ويقيت روحه أكثر شباباً من أبناء العشرين، السنّ أمرٌ “مورفولوجي” لا أكثر، أحب أن أُوصف بالناقد، وأتمنى أن يراني البعض ناقداً جيداً، أما التصنيف العمريّ، فلا يهمّني منه سوى أنني صرت قادراً على قيادة السيارات، وتوقيع الشيكات، وصرفها، ودخول الحانات، وكلّ الأشياء المُشابهة.
ـ ولكن، هناك مزايدات على موضوع الشباب، من الطرفين، الشباب أنفسهم، والأقلّ شباباً، وهذه ظاهرة لا تخصّ السينما وحدها، وإنما كلّ مجالات الحياة، وتدعمها الخطابات الثورية التي سوف تتحول مستقبلاً إلى مصيدةً يقع فيها الشباب أنفسهم، ماعلينا، هل لديك تعليق على المُقدمة ؟
ـ جيدة جداً،…. لا أجد ما يُقال غير أني مقتنعٌ بما هو مكتوب، وأتمنى إستمرار الحوارات، وعدم توقفها في محطتي، ولعلها تثير، أو لا تثير المعارك النقدية.
ـ طيب، .. يبدو بأنّ النقاد العرب يعيشون حروباً فيما بينهم، ماهو تفسيرك لهذه الأجواء العدائية، وهل تخفي خلفها مبرراتٍ شخصية، أو إحترافية.
ـ أعتقد، بأنّ الأمر لا يقتصر على النقاد فقط، ولكن، يمكن تعميمه على أبناء حرفة أخرى، هناك دائما تنافسٌ داخليّ يصفه المثل الشعبي المصريّ “عدوك إبن كارك”، المنافسة تخلق الحب، الغيرة، التوازنات، والعداوات، أضف إلى ذلك حقيقتين : الأولى، التنافس في “مكاسب” عالم النقد واضحٌ، وجليّ للجميع، لا أقصد الفنية، ولكن المالية، والمعنوية، المهرجانات ـ على سبيل المثال ـ تدعو عدداً محدوداً، ويعمل في تنظيمها عدد محدود، إن لم تكن منه، فأنت خارجه، وهذه برأييّ أسهل طريقة لتكوين جماعاتٍ، وتزكية صراعات.
ـ لم أقتنع بالردّ، تعالَ نفكر معاً، هل يخشى “محمد رضا” من منافسة أحد، وهو الذي لا يتوقف عن العمل في هذه المؤسّسة الصحفية، أو تلك، هل يقلق “سمير فريد” من منافسةٍ ما، وهو الذي قضى عمره عطاءً نقدياً، وإنسانياً ؟
وهل تعتقد بأنّ المكاسب المالية من النقد وفيرةٌ إلى هذه الدرجة ؟ مازلتُ أتذكر تلك المبالغ الهزيلة التي كنتُ أحصل عليها من كلّ الصحف، والمجلات التي تعاونتُ معها، كما أتذكر سنوات، وسنواتٍ من الكتابة التطوعية في إحدى الصحف العربية المُهاجرة، حيث نعرف بأنّ مهنة النقد غير مربحة، في يوم من الأيام فتحتُ محل بقالة في باريس، وكنت أكسب منه أكثر مما أكسبه اليوم، أما عن الجانب المعنويّ، هل تعتقد بأنه فعلاً مصدر منافسة ؟، من يجتهد، ويعمل، يحصل على ثمرة إجتهاده، وعمله، ومن يجلس في بيته يندب حظه، سوف يحصد الهواء..
فيما يتعلق بالمهرجانات، وأنت الذي تتعاون مع بعضها في مصر، وتعرف بأنه، وبسبب الميزانيات، من الطبيعي أن تدعو عدداً محدوداً، وتختار ضيوفها بناءً على آلياتٍ تخصّ كل مهرجانٍ على حدة، ومن لم يُدعى إلى هذا المهرجان، سوف تصله دعوة من مهرجانٍ آخر، وكما تعرف أيضاً، من الطبيعي أن يكون فريق العمل محدوداً، وإذا لم تكن واحداً منه، فأنت خارجه حتماً،…أعتقد بأنّ الأسباب تتخطى ما ذكرتَه في إجابتكَ، ورُبما تكون أبسط من ذلك بكثير، تتعلق بشخصية، ونشاط، ونزاهة، ومصداقية كلّ ناقد.
ـ السؤال ضخمٌ جداً،.. وصلتُ إلى نهايته، ونسيتُ أوله، لكن، سوف أحاول تجميع بعض الأفكار..

أولا: لا جدال في محدودية المكاسب، والدعوات، وما شابه، ولكنه أمرٌ يدعو إلى التنافس، وليس إلى إنعدامه، الركاب يمزقون بعضهم من أجل ركوب سيارة أجرة حقيرة ينحشرون فيها كالسردين،.. إنها “أخلاقيات الندرة” الكريهة،.. والتي تظهر دائماً لدى الغير متحقق،.. أما المُتحقق كالأساتذة الذين ذكرتهم،.. فرُبما حمتهم مسيرتهم من هذا الدافع،.. كالذي يمرّ بسيارته المُكيفة بجوار نفس “الميكروباص” !
ثانيا: ما سبق، يتعلق بالجانب المادي، أما الفني فلا علاقة له بالسنّ، أو التحقق لمن هو موهوب بالفعل،.. حسب فهمي المحدود للعالم، يظل الموهوب قابلاً للغيرة حتى لو صار الأنجح في العالم،.. يظل لديه هذا النوع من التمييز بين الجيد، والسيئ، وتكوين آراء من نوعية : هذا الكاتب ضعيف، ويأخذ أكثر من حجمه، وهذا جيدٌ مهضوم حقه، هذه الكتابة جيدة أتمنى لو كنتُ أنا صاحبها، هذه كتابة ردئية لا أفهم كيف يمكن أن تُنشر، أو تُعجب البعض،.. كلّ هذه في رأيي مواقف لا علاقة لها بالعمر، أو الخبرة، أو التحقق،.. هي أمورٌ إنسانية، وإبداعية تظلّ مع الإنسان حتى مماته، والتخلص منها علامة سيئة، وليست جيدة.
أما ما ذكرته أنتَ عن الشخصية، والنشاط، والنزاهة، والمصداقية، فهي متواجدة بالطبع، ومرتبطة بما ذكرته في الفقرة السابقة، فمواقف الشخص أمرٌ أعقد بكثيرٍ من حصره في عامل مؤثر واحد، هي مزيج من كلّ ما سبق.
ـ على فكرة، لم يكن سؤالاً من طرفي، كان تعقيباً، وحسناً فعلت بإضافة إجابة أكثر إسهاباً، الآن، هل تعتقد بأنّ هناك حروباً، وصراعاتٍ مُماثلة عند النقاد الأجانب ؟
ـ لا أعرف، ولا أستطيع أن أجزم، أو أعتقد، لأنني لم أعايش الوضع، لكن قناعتي، بأنه طالما هناك عمل، سوف يبدأ التنافس، وطالما تضمّن العمل جانباً إبداعيّاً كلما زادت فرص الغيرة، والصراعات.
ـ لم أقتنع بالجزء الثاني من الإجابة، وبغضّ النظر عن علاقتي مع “النقابة الفرنسية لنقاد السينما” التي أنتمي إليها، ولم أسمع، أو أقرأ يوماً عن صراعاتٍ داخلية، أو خارجية بين الأعضاء، لا يوجد، من وجهة نظري، مبررات خلافاتٍ بينهم، لأنّ الناقد الفرنسي مدللٌ جداً، حيث يتوفر له ما يشاء من إمكانيات المُشاهدة، والعمل في الصحف اليومية، المجلات المُتخصصة، قنوات الإذاعة، التلفزيون، المهرجانات، المدارس العليا، الجامعات،..ويصبح نظام البطالة بديلاً مادياً في حالات التوقف المُؤقت عن العمل.
ـ يُجيب على ذلك النصف الأول من إجابتي،.. فأنا قلت : بأني لا أعلم، ولا أجزم،.. أنت تعيش هناك، وشاهدت بعينيك (ومن زاويتك بالطبع).. لكني لا أؤمن بأيّ يوتوبيا،.. وأنت من أشرت إلى عناصر الشخصية، والنشاط، والنزاهة، والمصداقية.. وكلها أمور متواجدة لدى كلّ إنسان مهما دللته الظروف.
ـ في السنوات الأخيرة، عمد معظم النقاد العرب إلى إنشاء مُدوناتٍ شخصية، ماهو رأيك بها، وهل حققت أغراضها ؟
ـ بالنسبة لي، أنشاتُ مدونةً شخصية، لكنها مختلفة عن المقصود من السؤال، لأني أسّستها كهاوّ قبل إحتراف النقد، وبالتالي، كانت أول بوابة لي للتعبير قبل أن تنفتح أمامي بواباتٍ أخرى، ولكن، فيما يخصّ كبار النقاد، أعتقد بأنّ الأمر يتعلق بالتناقص النسبيّ في عدد المطبوعات المُتخصصة، بل، وفي المساحة الممنوحة للسينما عموماً، وللنقد خصوصاً، بالتزامن مع إرتفاع عدد مستخدمي الأنترنت، وحرية النشر التي يكفلها من حيث المضمون، والمساحة، وفيما إذا تمّ إنشاء أيّ مدونة لهذا الغرض، فقد حققت أهدافها، أما لو كان لصاحبها أهدافاً أخرى، فهو وحده القادر على تقييم تحققها من عدمه.
ـ ماهو المقصود بكبار النقاد ؟ وماذا تعني بأهدافٍ أخرى ؟، هل يؤسّس ناقدٌ سينمائيّ مدونة من أجل تحقيق (أهدافاً أخرى) غير الكتابة عن السينما، ونشر الثقافة السينمائية ؟
ـ لا أقصد السنّ بالطبع،.. ولكن التفريق بين من كان هاوياً يسعى إلى العثور على مساحةٍ، فأنشأ مدونة للتعبير، ومن كان بالفعل ناقداً معترفاً به يمتلك منصاتٍ مطبوعة ينشر فيها كتاباته، لكنه فضل إنشاء منصة إليكترونية إضافية.
وأنتَ من ذكرت “الأغراض” بصيغة الجمع، فجعلتني أتسائل عن باقي القائمة،.. في رأييّ الحديث عن السينما هو الغرض الوحيد،.. وبإفتراض أهدافاً أخرى لا أعرفها، فأصحابها هم واضعوها، وهم القادرون على قياس مدى تحققها،.. أما مدونتي، فقد أنشأتها من أجل الهدف الأول فقط.
ـ أراد الناقد اللبناني “محمد رضا” أن يكتب عن الناقد الحقيقي، والمُزيف، من وجهة نظره طبعاً، ولكنه لم ينفذ فكرته، وأفهم الأسباب، وأنا أعرفك أكثر جرأةً منه، هل هناك حقيقيّ، ومزيفٌ في النقد السينمائي ؟
ـ كلّ عمل يمتلك جانباً إبداعياً، وبالطبع، هناك الحقيقيّ، والمُزَيَف، وأيضاً المُزَيِف، هذا التقييم نسبيّ تماماً، لديّ قائمتي الخاصة لنقادٍ أراهم حقيقيين، وآخرين مزيَفين، ومزيِفين، وهي خاضعة لقناعاتي، وتفضيلاتي فيما أقرأه، وما أشاهده، ولا تخصّ أحداً غيري،.. قائمة يمتلك مثلها، ولو بشكلٍ غير واعٍ، كلّ ناقد، بل، وكلّ قارئ، وأجزم بأنني، بالنسبة للبعض، حقيقيّ، ومبدع، وبالنسبة للبعض الآخر، مزيَف، ومزيِف.
ـ ولكن، إنطلاقاً من قائمتكَ الإفتراضية، من هو الناقد الحقيقيّ، والناقد المُزيف، أقصد هل يمكن أن يكون الناقد حقيقياً، أو مزيفاً، كيف، ما هي المعايير الشخصية التي جعلتكَ تعتقد، أو حتى تتأكد بأنّ هذا حقيقي، والآخر مزيف، متى، وكيف تشعر بالحقيقة، أو الزيف ؟
ـ أؤمن بالنسبية، وبإختلاف التقييم من قارئٍ لأخر، فلا توجد قائمة رسمية للحقيقة، والزيف، ويستحيل تصوّر الإجماع على تقييم ولو فرداً واحداً.
أما عن قائمتي الشخصية، فالحقيقي فيها هو، ببساطة، من يمتلك القدرة على إيجاد “مدخل إبداعي” للحديث عن الفنّ، بحيث يصبح ما يكتبه أيضاً عملاً فنياً، يتضمن فكرة جديدة، أو تناولاً جديداً، أو إشارة تضيئ في ذهني زاوية معتمة،.. الحقيقي هو من يمتلك منطقاً واضحاً، ومتسقاً حتى وإن اختلفتُ معه، وأشعر بأنه بذل مجهوداً فيما كتبه، ولم يعمد فقط إلى تسويد الصفحات،.. شخصياً أعاني من أجل كتابة ألف كلمة كلّ أسبوع، بينما يمكنني بسهولة أن أكتبها كلّ يوم بدون بذل أيّ مجهود،.. الحقيقيّ هو من يحترمني مثلما أحاول إحترام من يقرأ لي، فلا يملأ ثلاث أرباع مقالته بسرد حكاية الفيلم كحال ربة منزل تروي الفيلم لصديقتها.
الزائف، هو، ببساطة، عكس ما سبق..
ـ في يوم ما أنشأ مدونةً متخصصة تهدف إلى كشف السرقات الأدبية في مجال الثقافة السينمائية، هل أثمرت تلك الجهود في التقليل منها ؟
ـ بالرغم من المجهود الذي بذله هذا الناقد في المدونة، وأهمية هدفها، ولكن، لا أعتقد أن من يُقدم على سرقاتٍ سينمائية فجة مثل التي كنا نراها في المدونة، سوف يهتمّ كثيراً بما يُقال عنه، الفاسد لا تؤلمه تهمة الفساد، أما على صعيد التقليل.. فلا تعليق!
ـ هل أجري معك حواراً كي تكتب لي : لا تعليق، وإشارة تعجب، وبعدين معاك ؟
ـ أنتَ من أعطيتني الحقّ في الإمتناع عن التعليق، فإستخدمته،..ولكن، عموماً عدم التعليق هنا ليس موقفا من السؤال، ولكن، من الوضع،.. لست بحاجة للتعليق كي أؤكد حقائق مؤسفة، مثل إستمرار لصوص متلبسين في التعايش، والتعامل مع الجميع بدون أيّ محاسبة مهنية، أو قانونية.. وضعٌ كهذا، أقلّ ما يُقال عنه.. لا تعليق !
ـ في تلك الفترة، كتب البعض، بأنها ليست وظيفته الكشف عن سرقات الآخرين، ومبادرته تلك ليست أكثر من تصفية حسابات، بعد تلك المُواجهات، توقفت المدونة، ولا أعرف مصير مؤسّسها، قرأتُ وقتذاك بأنّ البعض قدم شكاوى، وقضايا ضده في المحاكم العربية، والأوروبية بتهمة التشهير، ورُبما يقضي اليوم عقوبته في زنزانة أوروبية ؟
ـ لا أدخل في نفس أيّ شخص، ولا أستطيع الحكم على غرض من يكشف عن السرقة، قد يكون هادفاً للمنفعة، أو راغباً في تصفية حسابات، لا يهمّني هذا كثيراً.. الأهمّ، هو وجود واقعة مثبتة : سرقة بالتواريخ، والنصوص، أعرف منها بوضوح أنّ هذا الشخص سارق، وآثم.. وسواء كان الكشف بغرض المصلحة العامة، أو تشويه الفاعل، فهو في الحالتين غرضٌ نبيل، والسارق ليس من حقه إتهام أحد بتشويه سمعته، أو تصفية الحسابات معه، فكلاهما أمر محمود !
أما الجزء الثاني من السؤال، أقترح بأن تسأل صاحب المدونة، حيث كنت وقتها مجرد قارئ، ومتابع هاوّ..
ـ أجد هناك إزدواجيةً في شخصية الناقد السينمائي العربي، كيف يمكن أن يكون ناقداً، ولا يتقبل النقد ؟
ـ يتضمّن السؤال تعميماً مرفوضاً، ويُفترض مسبقا أن شخصية الناقد العربي لا تتقبل النقد، هذا إتهام قد يصدق عند البعض، ويكذب عند البعض الآخر، لكن الصياغة الحالية لا أقبلها.
ـ عندما عمد ثلاثة من النقاد العرب إلى تأسيس “إتحاد دوليّ لنقاد السينما العرب”، فجأةً ظهرت عوائق، وإشكالياتٍ من بعض الأشخاص في مصر، وكانت لديهم إعتراضاتٍ على التسمية نفسها “دولي”، ولماذا يتأسّس من طرف نقاد المهجر، والأهمّ، بأنهم يؤسّسون هذا الإتحاد لأغراضٍ شخصية، ومصالح، ومنفعة، ومن ثمّ توقف المشروع تماماً ؟
ـ لم أتابع التفاصيل كي أحكم بشكل قاطع، ولكني أؤمن بحق أيّ شخص في أن يفعل أيّ شيء، وبالمُقابل حقّ أيّ شخص آخر أن يقيّم التجربة وُفق ما يراه.
ـ ماهو تقييمك الصريح للمهرجانات السينمائية العربية، وفي الخليج تحديداً ؟

ـ يمتلك كلّ مهرجان أجندة أهدافه الخاصة، ودرجة نجاحه فيها، وبالتالي يصعب تقييم المهرجانات العربية بشكلٍ عام، بعضها ناجحٌ جداً، وبعضها فاشلٌ جداً، وبعضها لا أعرف عنه شيئاً، أما مهرجانات الخليج، فإستمرارها دليل على النجاح، ودعمها لصناعة الأفلام، وليس الاكتفاء بعرضها أمر كاف وحده لدعمها في ظل الظروف الإنتاجية الكارثية، وبدء الحراك السينمائي في منطقة الخليج، ولو كانت الصناعة لا تزال تحبو، يردّ على السخرية التي كانت قبل أعوام تطول فكرة إقامة مهرجان في بلاد لا تعرف السينما.
ـ لو كنتَ في لجنة تحكيم، وأردتَ أن تمنح جائزةَ لناقدٍ سينمائيّ عربيّ، من هو هذا الناقد، وماهي مبرراتكَ، طبعاً لا يمكن أن تمنح الجائزة لنفسكَ، أو لمن يُحاورك الآن.
ـ يمكنني أن أجيب إجابةً دبلوماسية، أو أمتنع عن الإجابة، ولكنني سأنحاز إلى جيلي، وأختار منح جائزة تشجيعية لكلٍ من “هوفيك حبشيان”، و”رامي عبد الرازق”، لدأبهما، ونشاطهما في المتابعة، والكتابة أولاً، ولجودة ما يكتبانه ثانياً.
ـ ها أنت بتلقائيةٍ تعود إلى فكرة الأجيال، ولا أعرف إن كنت تُحابي أصدقاء لك ؟…طيب، سوف أصيغ السؤال بطريقةٍ أخرى : دعنا نفترض بأنّ أحد المهرجانات العربية إعتمد جائزةً سنويةً لناقدٍ عربي، ماهي المواصفات التي يجب على إدارة المهرجان، أو لجنة التحكيم أن تأخذها بعين الإعتبار لمنح هذه الجائزة إلى هذا الناقد، أو غيره ؟
ـ إن وُجدت جائزة كهذه، يجب أن تحدد المعايير وُفق الهدف : هل هي تكريمية ؟ أم تشجيعية ؟ أم هي عن عمل نقديّ بعينه (دراسة، أو مقال)؟ ولكل إختيار مواصفاته، ومعاييره.
ـ هناك خلافٌ حول الصحفي، والناقد السينمائي، هل يتميّز أحدهما عن الآخر ؟
ـ كلّ ناقد صحفي، ولكن، ليس كلّ صحفي ناقداً، الصحفي وصفٌ عام لمن يعمل في الصحافة، والناقد وصفٌ خاص لمن يمارس النقد.
ـ هناك بعض النقاد العرب لديهم حساسية مفرطة تجاه السينما المصرية ؟
ـ لا أعرف، إذا كان المقصود إيجابية، أم سلبية، شخصياً، أميل كثيراً للسينما المصرية، وعندما طُلب مني إختيار أفضل 10 أفلام عربية، إخترتُ منها ثمانية أفلام مصرية، وبالتالي لا أحجر على حقّ أحد بأن يكون مثلي، أو العكس مني، الموضوعية أمرٌ أسطوريّ، ولكل منا تفضيلاته، وهو أساس تلقي الفن بشكل عام.
ـ هناك آخرون يتذمرون من كلّ شيئ : السينما المصرية، العربية، النقد السينمائي العربي،..
ـ هم أحرار، ولكني لست منهم.
ـ أحد المُغرضين أفشى لي معلوماتٍ خطيرة عنكَ، وقال لي حرفياً، بأنك تتابع الكثير من المهرجانات السينمائية في مصر، ولا تشاهد أفلاماً، وتقضي وقتك كله في غرفتك، أو في مسبح الفندق، والأخطر، بأنك طوال الوقت تجلس خلف الكمبيوتر تتحدث عن قطتك، وتثرثر مع أصحابك عن طريق الفيس بوك.
ـ أنا لا آخذ نفسي على محمل الجدّ، وبالتالي لا ألزم أحداً بأن يفعل ذلك معي، أمارس ما يحلو لي في الوقت الذي أحبه، ألتزم بالمعايير المهنية أحياناً وأتركها أحياناً، أشاهد خمسة أفلام في يوم واحد أحياناً، ويمر شهر بدون أن أشاهد أفلام اًحياناً، أتحدث مع شخص ما بأدب، وتهذيب أحياناً، وأسبّ (….) أحياناً، من يريد تقييّمي بينه، وبين نفسه حرّ، لأني أفعل ذلك بالطبع تجاه الآخرين، ومعياري الوحيد أن أكون راضٍ عن نفسي، وعما أفعله.
ـ بعد هذه الأسئلة، هل تعضّ أصابعك ندماً لأنك قبلتَ أن نتحاور، ألا يستحق الأمر بأن نعلن الحرب بيننا ؟، ألا تعتقد أيضاً بأنّ هذا الحوار ثرثرةً لا معنى لها نستحق عليه العقاب بدل المكافأة ؟
ـ أحتاج إلى أسئلةٍ أكثر قسوةً كي أعلن الحرب على صديق، وأنتَ قلتَ بأنني مثلك،.. نقضي معظم وقتنا نثرثر على صفحات الفيس بوك،.. فلن نخسر شيئاً بمزيدٍ من الثرثرة.
ـ حاولتُ إستفزازك بقدر الإمكان، ولكن، يبدو بأنني فشلت، ماهو السؤال الذي يمكن أن يستفزك ؟
ـ السؤال الغبي، وأنت لم تطرح سؤالاً غبياً.