شُعوب من الهمس الى الهدير

محمد موسى
لم يحظى فيلم “همس الى الهدير” للمخرج والمنتج الأمريكي بين موسيس، بفرص عرض في المهرجانات السينمائية العربية، رغم موضوعة الثورات والغليّان الشعبيّ التي يقدمها، ورغم تخصيصه مساحة زمنية كبيرة، للحراك الذي شهده الشارع المصري قُبيّل الثورة المصرية الأخيرة. أصاب القِدَم سريعاً الفيلم التسجيلي الضخم إنتاجياً، فأفلام ثورة الخامس والعشرين من يناير في مصر، والتي إنطلقت زمنياً من حيث توقف فيلم ” همس الى الهدير “، وصلت سريعاً الى دائرة الإهتمام السينمائي والشعبي، وتلقفتها المهرجانات العربية والدولية، وأصبح الزمن الذي سبقها، بعيداً كثيراً بأحداثه وروحه وتأثيراته، رغم إن تتبع الأحداث السياسية في مصر مثلاً، في السنوات الأخيرة، كان يُشير الى تغيير وإنفجار قادمين، وإن الثورة التونسية، التي أطلقت ما يُعرف بثورات “الربيع العربي”، سَرَعت فقط من سَيّر التاريخ هناك.

في الوقت الذي تتجه معظم الأفلام التسجيلية من السنوات الأخيرة، الى توثيق حميميّ لموضوعاتها، مع تركيزها على عدد محدود من الشخصيات، يبدو طموح فيلم ” همس الى الهدير ” كبيراً جداً، فالفيلم يسجل تطورات الوضع السياسي لخمس بلدان في العالم، وعلى طوال فترات زمنية، وصلت الى بضعة سنوات، ليقدمها في زمن لا يزيد على الساعتين. لن يستعين الفيلم بمواد إرشيفية تلفزيونية فقط، بل يذهب بفريقه الفني الى دول: مصر، أوكرانيا، زيمبابوي، فنزويلا و ماليزيا، ليقدم مقابلات من هناك، وليَرسم، ضمن الوقت المحدود له، سيرة تاريخية مُلفتة بتكثيفها لهذه البلدان في السنوات العشر الأخيرة. ليس من الواضح كثيراً لماذا وقع إختيار المخرج على هذه البلدان بالتحديد، رغم إختلافها الواضح، من جهة خلفياتها التاريخية والإجتماعية. صحيح إنها تشترك بوجود الحاكم الديكتاتور، ومعارضات تتباين بمستويات تنظيمها، لكن الفيلم كان سَيَملك سلاسة أكبر، لو كانت الفروقات بين البلدان الخمس في الفيلم أقل حدة. فالوضع المُعقد للمعارض الماليزي أنور إبراهيم، يَختلف بشدة عن ثورة الشباب في فنزويلا. عندما يتم إضافة هذه الإختلافات الى القفزات الجغرافية والسرديّة بين تلك البلدان التي يقدمها الفيلم، تشتت مهمة الاخير كثيراً، وتَشظت قوته، لتنحصر على مشاهد معينة بذاتها، من التي إقتربت بحميّمة من بعض شخصيات الفيلم، او ركزت على النضال او الثمن البشري الذي يدفعه ملايين حول العالم، من أجل مُثل الحرية والعيش المحترم.
يُساوي المخرج بين الأوقات المُخصصة لكل بلد من بلدان الفيلم الخمس. ولأن هذه تجارب هذه البلدان السياسية والخلفيّات الإجتماعية والتاريخية تختلف بشكل كبير، بدا إن الإنتقالات من بلد الى آخر لم تخضع لسيناريو مُسبق، يربط بفنيّة بين قصص وحراك الدول الخمس، بل إتجه الفيلم الى تقسيم حكاية كل بلد، الى بضعة أجزاء، ثم عَمد الى ربط تلك الأجزاء مع تلك الخاصة بحكايات دول الفيلم الإخرى، لتكون الإنتقالات من بلد الى آخر، بلا معنى فنيّ، سوى الرغبة بتقديم متوازن زمنياً بين قصص تلك الدول. رغم ذلك، ورغم فداحة المهمة لفريق الفيلم، يضم الأخير مشاهد صادقة ومؤثرة كثيراً، من التي تكسر حواجز الجغرافيا واللغة والتقاليد، لتصل وتؤثر في المشاهد، منها التي تخص الدولة الأولى التي قدمها الفيلم، أوكرانيا، والصحفي الأوكراني غيورغي غونغادزه الذي سلط الفيلم بعض الضوء على شجاعته، وكيف قادته تلك الشجاعة والجرأة الى موته العنيف، عندما عُثر عليه مقطوع الرأس في قبر في غابة في بداية هذه الألفية (يقال إن الرئيس الأوكراني وقتها ليونيد كوتشما، هو من رتب إغتيال الصحفي غيورغي غونغادزه). هناك أيضا الطالب الفنزويلي الشاب، ونضاله الطويل مع رفاقه، ضد الديكتاتورية المبطنة للرئيس الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز، رغم شعبية هذا الأخير بين طبقات الفقراء في البلد الأمريكي الجنوبي. مثل هذه النماذج المؤثرة ستغيب عن الأقسام المخصصة لماليزيا وزيمبابوي، والذي سيكتفي المخرج منهما، بتبيان المديات التي يمكن ان تقطعها الديكتاتوريات هناك، لإسقاط خصومها سياسياً وأحيانا أخلاقياً، كتهمة اللواط، التي وجهت للمعارض الماليزي أنور إبراهيم، والتي أدت لحبسه لسنوات، قبل أن يتم تبرؤته منها قبل أعوام.
حصة مصر من الفيلم، سيتسحوذ عليها رموز معارضة مصرية من العقد الذي سبق الثورة المصرية الأخيرة، سيظهر مثلاً أيمن نور، المعارض المصري، الذي كاد العالم أن ينساه، رغم إنه قاد حركة شرسة وجريئة جداً ضد النظام المصري السابق. كما سنتعرف على رموز من حركة السادس من أبريل عام 2008، والإرهاب الذي تعرض له أغلب أفراد هذه المجموعة. يعرض الفيلم التسجيلي مشاهد صورها الأمن المصري وقتها لتعذيب فتيات وشباب مصريين، عُرضت على مواقع في الإنترنيت. أعضاء حركة السادس من أبريل وغيرهم، سينضمون الى ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011، والتي يشير الفيلم التسجيلي اليها بإشارات قليلة، فالثورة المصرية، هي الحدث الأبرز الذي مَرّ على الدول التي تناولها الفيلم التسجيلي، حيث إن الدول الباقية الإخرى مازالت تتعثر بشكل او بآخر بمشاكلها ومتاعبها، بل إن بعضها شهد تراجعات مُخيفة في الفترات الزمنية التي ركز عليها الفيلم.

تسعى “العوّلمة” الإسلوبية التي إنتهجا الفيلم، لتعرية نموذج “الديكتاتور” في بلدان مختلفة. في مقابل الإحتفاء بنماذج إنسانية شجاعة، وقفت بوجه أنظمتها القمعية، لتكون الضّد للنموذج الأول، ولتشكل ما يُشبه حركة “كونيّة” لنيل الحريات، هذا الإتجاه زينه الفيلم بمقولات فلسفية شرقية عن الحرية والحياة، ظهرت في مواضع مختلفة من الفيلم. والذي بطموحه الكبير لتسليط الضوء على عذابات وملاحم بطولة  من دول مختلفة، أهمل كثيراً، القوة التي تملكها الوثيقة التسجيلية الحميميّة، والتي أثبت المخرج في مواضع عديدة من فيلمه ، إنه قادر، حينما يشاء، على بلوغها.
تتنوع إنشغالات المخرج بين موسيس بين السينما التسجيلية والتلفزيون والسينما الروائية، فهو ساعد في إنتاج الفيلم المعروف “صباح الخير فيتنام”، والذي قام ببطولته النجم روبن وليامز في عام 1984، كما نالت كثير من أعماله التلفزيونية والتسجيلية، جوائز رفيعة في الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها. عرض فيلم ” همس الى الهدير” في الصالات السينمائية الأمريكية في نهاية العام الماضي، ثم في مواقع ألكترونية لعدة مؤسسات سياسية أمريكية.


إعلان