“الشقة 22”
أحمد بوغابة / المغرب
قد يعتقد القارئ للوهلة الأولى أن عنوان النص الذي أمامكم ـ “الشقة 22” ـ هو لفيلم سينمائي وبالتالي سيعتقد بأنه سيقرأ تعريفا عنه أو تحليلا أو قراءة فيه. ربما هو عنوان سينمائي جميل لفيلم بوليسي من الأفلام السوداء الشهيرة خاصة إذا كان القارئ على إطلاع على بعض عناوين الأفلام المغربية التي تذهب في هذا المنحى في السنوات الثلاث الأخيرة بظهور موجة يعتقد أصحابها بأنهم ينجزون أفلاما بوليسية حيث كانت قد بدأت في القناتين الرسميتين وهذا موضوع آخر مستقل ربما نعود إليه في مناسبة أخرى. ولكن هذه “الشقة” التي تحمل رقم “22” ليست بعيدة عن السينما بل يشكل هذا الفن جزء منها وتوجد بالضبط في الطابق الثاني فوق القاعة السينمائية “كوليزي” المُغلقة منذ سنوات حيث يجمعهما نفس الولوج/الممر عن الشارع الرئيسي الشهير بالعاصمة الرباط وهو شارع محمد الخامس. وتستحق هذه “الشقة” بالتأكيد فيلما وثائقيا عنها. فقد تعثرت بعض المشاريع التي كانت في طور الإنجاز بسبب غياب التمويل. لأن صاحب المشروع الوثائقي حول الشقة، ليس هو إلا كاتب هذا النص، لا يريد إنجاز روبورتاجا تلفزيونيا أو فيلما سطحيا بقدر ما أراد أن يكون الفيلم يعكس حقا فلسفة الشقة نفسها.

فإذا لم أكن أتحدث في هذه الحالة عن “الشقة 22” كفيلم سينمائي فينبغي أن نعلم أن السينما هي جزء من محتوياتها لكن بطريقة مختلفة عما هو سائد. لقد مر منها سينمائيون لهم مكانتهم المتميزة من بينهم فوزي بن السعيدي، يطو برادة، تودة البوعناني، مارسيل برودتار وغيرهم… ولآلة العرض وظائف فنية متعددة في هذه “الشقة” الساحرة باستثنائيتها. كما تم تصوير أفلام فيها وأيضا انطلاقا من نافذتها تؤرخ للحظات معينة لحياة الشارع الرئيسي المذكور الذي تطل عليه. سنتحدث عن هذا في مشاهد أسفله. وأول نشاط بها كان جزءا منه حضرت فيه السينما من خلال التصوير المباشر لاحتجاجات العاطلين في الشارع المذكور وعرضها مباشرة على الجدار المقابل في الشقة، وكان ذلك يوم افتتاحها في 10 أكتوبر 2002.
لنبدأ الحكاية من أولها، ولو باختصار شديد، لأنها حكاية طويلة تمتد لأكثر من عقد كامل. وعناصر السيناريو كثيرة إلى حد أنه ينبغي تقطيعا صارما بالتركيز على أهم الصور/المشاهد ونترك التفاصيل خارج الكادر يبحث عنها القارئ بذكائه وفطنته. وكما يعرف أهل السينما المحترفون أن ما هو كائن خارج الإطار يكون أوسع وأشمل وبلا نهاية نظرا لتعدد مكوناته ومساحته بينما محتوى الإطار يؤطرنا بوجهة نظر المخرج رغم العلاقة التي قد تجمعهما حيث يكون كل مرة واحد منهما يشكل مرجعا للآخر ويحيلنا نحن المشاهدون لاستحضار ما هو غائب لفهم المنظور والعكس أيضا لأنهما العمود الفقري في تشكيل الفيلم، وبلعبتهما نتمتع بالفرجة خاصة إذا كان المونتير هو أيضا فنان ذكي في التشكيلة السينمائية. لندخل إذن إلى داخل الإطار ونكتفي به وما سجله التاريخ بالصور والمكتوب والصوت.
المشهد الأول: بانوراما عامة جدا/ وجه عبد الله كروم
حصل شاب مغربي إسمه عبد الله كروم على دكتوراه من جامعة بوردو بفرنسا سنة 2001 وهو في عمره حينها 30 سنة. صادف ذلك مع الحديث الرائج آنذاك في المغرب حول ما سموه ب “العهد الجديد”. دخل هذا الشاب إلى المغرب وبالضبط إلى مدينة الرباط وهو في الأصل إبن الريف (منطقة الشمال المغربي الوعرة بتضاريسها والمعزولة عن المغرب رغم أنها تطل على بحر الأبيض المتوسط والتي يقولون عنها بالمغرب غير النافع). أراد هذا الشاب أن يستقر في البلد ويخدمه عارضا على المؤسسات الرسمية المغربية ـ الثقافية والتعليمية ـ خبرته ودبلوماته. قالوا له بأن المغرب لا يتوفر على ذلك الاختصاص ـ إدارة المعارض الفنية والبحث الفني المعاصرـ ولا حاجة لهم به. ومنهم من اعتذر بعدم وجود منصب فارغ وعليه الانتظار إلى أجل غير مسمى. ومنهم من اقترح عليه بأنه من الفضل له أن يدرس بإحدى اللغتين اللتين يتقنهما جيدا ـ الفرنسية والإنجليزية ـ أفضل له من الاستمرار في إقناع المسؤولين بتخصصه المجهول في المغرب. ومنهم طبعا من “ينصحه” بالعودة من أين أتى للعمل فيه أفضل له. ومنهم من قال له بقبول الوظيفة كيفما كانت وأن يمارس ما يريده بالموازاة مع الوظيفة. وطبعا هناك من بكى واشتكى له عن الحالة المزرية للموظف العمومي. وكَثُرت عليه الآراء والاقتراحات والنصائح ولا جهة ما احتضنته أو شجعته أو اعترفت له بقيمته العلمية.

المشهد الثاني: داخلي/ نهارا/ عبد الله وحده
عبد الله كروم وحده جالسا يفكر ويعيد شريط الأحداث وأصواته لتلك اللقاءات لعله يفهم ما ذا يجري في “العهد الجديد”!؟ وفي “أفضل بلد في العالم”!؟ ربما يرشده ذلك إلى مرفأ ما والله أعلم. لكن شاب مثله في أوج العمر وبثقافة متقدمة في الإبداع كعنصر أساسي في تكوينه لن يركع ولن يتنازل بسهولة خاصة حين عرف عن كثب ما يجري حوله وهو يعتقد بحسن النية أن “العهد الجديد” سيجد طريقه شيئا فشيئا لتتغير الأمور. فهو لا يمكنه أن يمكث ينتظر عاطلا سلبيا في انتظار معجزة التي قد لا تأتي أبدا في الوقت الذي هو في حاجة للعمل لكي يعيش بمؤهلاته وباقتناع بما سيقوم به على أرض الواقع المغربي. أسئلة وأفكار كثيرة طرحها على نفسه، في وحدته، في تلك الشقة التي اكتراها عوض أن يتنقل بين الفنادق وهو الذي كان عازما على العمل في الرباط.
ثم نشاهده واقفا أو يدور في غرفة صغيرة الحجم تحت ضوء يدخل من النافذة الوحيدة الموجودة بها. إنه في حالة تفكير. يتوقف بين حين وآخر ليستأنف الدوران، وأحيانا يطلق صفيرا لأغنية ما تدور في ذهنه خلال تلك اللحظات أو ربما تخرج منه بشكل عفوي مما يدل أنه في تفكير عميق. يطل من النافذة فيملأ الضوء جسده المتوسط الطول.
المشهد الثالث: خارجي/ نهارا/ بداية البداية
فقد قرر أن يشرع في تنظيم أنشطة فنية ضمن تخصصه كمدير فني وباحث فيها مستعينا بأصدقائه الفنانين الذين يتقاسمون معه نفس الرؤية الفنية المعاصرة والحرة، سواء من المغاربة أو الأجانب الذين درسوا معه ووجدوا أمكنتهم بسهولة في بلدانهم. فهو له دراية بالجماليات عامة وكيفية توظيفها وإيجاد لها فضاءات للتعبير. وبما أنه معاصر في تكوينه ورؤيته وتفكيره وبالتالي فالفنون عنده مرتبطة بالحياة وباليومي وبالأفق البعيد، مؤمنا أن استقبال الفنون واستيعابها والوعي بها ثم التفاعل معها في بلد غارق في التقليدية الفنية يتطلب تربية تصاعدية وطويلة الأمد تبدأ من المهد وتستمر إلى غاية اللحد.
اختار أن يبدأ من الأسواق الشعبية الأسبوعية التي تُقام في البوادي أو على هامش المدن. وكذا المواسم الاحتفالية التقليدية السنوية لينظم فيها أنشطة فنية معاصرة تُقام فيها صحبة الناس والزوار والمتسوقين والباعة وغيرهم من العابرين. ولم ينس الأطفال طبعا. كانت التجربة مع الصورة الفوتوغرافية والتشكيل وصنع أعمال من مواد محلية صرفة. فهي رحلات فنية متنقلة من الوسط إلى الجنوب ثم الشمال والشرق من الخريطة المغربية. وكل هذا يؤرخه بالكتابة والصورة والصوت لأن هاته العمليات الأخيرة (التسجيل بكل الأشكال) هي نفسها جزء من العمل الفني الذي سيتم عرضه في ما بعد لينتج شكلا جديدا في الفن ذاته. وبالتالي فجميع الفنون بمختلف تجلياتها وخصوصياتها هي في نظره تشكل فسيفساء تكب في بعضها وتتكامل.
المشهد الرابع: داخلي/خارجي/ ليلا
سيكتشف عبد الله كروم في تجربة البداية أنه ليس من السهل ممارسة الفن بسهولة ومرونة على أرض الواقع مثلما هو ليس من السهل العثور على العمل في مجال تخصصه. لأن كل الأمور لها علاقة جدلية وتعبر عن “صورة” مغربية متكاملة الأطراف. وجد أمامه الممنوعات والحواجز والبيروقراطية والأمن العام وهلم جرا حيث تبين له صعوبة الخروج عند الناس بدون موافقة السلطات والترخيص والإخبار المسبق وبذلك يفقد العمل الفني بإنجازه وتصويره وتوثيقه جانب المفاجأة فيه لأن الناس تكون مشاركة في الأعمال وليست فقط متفرجة ومشاهدة على ما يجري أمامها من بعيد. فهو يريدهم بحمولاتهم الفكرية ولو بسذاجة أو عفوية لإغناء المنتوج. فهو لهم ومنهم. إلا أن السلطة كعادتها ترى في كل شيء “خطر محدق” و”يحتمل انعراجا” إذا لم يكن مضبوطا تحت إمرتها وتدري بدايتها ونهايتها، من الألف إلى الياء، من طاق طاق إلى السلام عليكم.
يعود عبد الله إلى نفس الغرفة/الشقة ولم يشعل الضوء تاركا إياها مظلمة. يجلس هو في ركن النافذة التي هي في نفس الوقت بابا ينفتح على بَالْكُونْ صغير يتسع لشخصين فقط وينظر في اتجاه الخارجي وهو يرشف القهوة. تضيئه إضاءة آتية من الخارج، فربما هي مصابيح الشارع، وبين فنية وأخرى أضواء ملونة بالأزرق تضرب جسده نفهم أنها أضواء إشهار أو إسم مؤسسة ما.
يغادر المكان ثم يعود إليه بعد ثوان قليلة وهو يحمل مذكرة وهاتفه النقال. يبحث في المذكرة عن الأرقام ثم يبدأ بالاتصالات حيث يتحدث مع أناس نفهم من كلامه أنهم فنانون. تحدث بالفرنسية والعربية الفصحى واللهجة المغربية المحلية والأمازيغية والإنجليزية. وهو يتحدث في الهاتف يكون مرة صارما أو جديا أو مبتسما بل أحيانا يضحك بصوت مرتفع كما يكون في لحظات معينة غارقا في الاستماع. قد نسمعه بوضوح مرة ولكن تهرب منا كثير من جمله مرات عديدة بسبب منبهات المرتفعة للسيارات الكثيرة التي نسمعها ولا نراها. ولا تنسوا أن الشقة تطل على أحد أكبر شوارع وأكثرها حركة وضجيجا، وأحيانا نسمع أيضا صفارات القطار بمعنى أننا لسنا بعيدين عن محطة القطار أو يعبر المنطقة. كما تصلنا أصواتا بشرية غير واضحة. لقد طال الأحاديث بالهاتف وبدأ أيضا زخم الأصوات ينخفض من الخارج. لماذا أطال عبد الله في الحديث بالهاتف عن الفنون والسينما والفوتوغرافيا و.. و…مع متحدثيه؟؟؟

المشهد الخامس: داخلي/ ليلا/ الانطلاق
بعد شهور. في مساء ما. تستقبل تلك الغرفة الصغيرة جدا بالشقة مجموعة من الفنانين من مختلف المشارب والاهتمامات ومعهم بعض الصحفيين كلهم من الصحافة المكتوبة بالعربية أو الفرنسية. الكل واقف ولا مكان للجلوس إلا كرسي واحد صغير الحجم في البالكون الصغير الذي لا يستوعب أكثر من شخصين كما أسلفنا أعلاه. يناقش هذا الجمع الصغير في ما بينه الفنون في المغرب حيث تختلط اللغة العربية بالفرنسية لأن بعض من الحضور من جنسيات أوروبية. لقد اقتصرت الدعوة لهذا اللقاء فقط على أصدقاء عبد الله كروم نظرا للمساحة الضيقة (لا تتجاوز الغرفة 17 متر مربع). فهذا اللقاء يتضمن أعمالا فنية لبعض الفنانين المغاربة والأجانب المثبتة على جدران الغرفة. بعد ساعة وبضع دقائق، سيرحب صاحب الشقة بالمدعوين ويخبرهم بتحويل شقته أو بالأحرى غرفته إلى فضاء ثقافي فني إبداعي للعرض واللقاءات. وأيضا لإقامة فنية كمختبر حقيقي للبحث في الفنون المعاصرة. وأن هذه الشقة ستشرف كذلك على إصدارات فكرية في مجال الإبداع المكتوب شعرا كان أو نثرا أو مقالات التي يمكن الاحتفاء بها جماعيا في هذا الفضاء الجديد. وأنه سيكون مفتوحا طيلة خمسة أيام في الأسبوع لعموم الناس أيضا وانه يكفي الاتصال برقم الهاتف المخصص لذلك لتحديد مواعيد الزيارة فردية أو جماعية، للمعاهد المتخصصة أو المدارس أو المؤسسات الثقافية. وسيكون لهذا الفضاء إذاعته الثقافية المحضة التي ستبث أنشطتها عبر الأنترينت مباشرة. وإعادة الاستماع إليها لمن يرغب في ذلك لأن جميع تسجيلات ستبقى رهن المتتبع بالدخول إلى موقعها الإلكتروني والذي يحمل إسم “الشقة 22”. دون إغفال توفير مكتبة في الفنون.
لقد حوّل شقته التي يقطنها منذ مجيئه إلى الرباط إلى فضاء مستقل للفنون. وهو يرفض وصفه برواق لأنه ليس بذلك. هو فضاء للتعبير المستقل لذلك كان أول نشاط فني يقوم به كما ذكرنا سابقا هو تثبيت كاميرا في النافذة التي تنقل مباشرة احتجاجات العاطلين وبثها على جدار الغرفة.
المشهد السادس: خارجي/ نهارا/ حقوق المواطن في المعرفة
تعرفنا في المشهد السابق أن بطلنا عبد الله كروم الذي هو الشخصية المركزية في الشقة 22 أسس أيضا دارا للنشر باسم hors champs (خارج الإطار) وتلاحظون بأنه مصطلح سينمائي أساسي في اللغة السينمائية. ومن خلال الدار/ والشقة أصدر منشورات وكتبا إلا أن النشر عنده يتطلب هو أيضا استحضار فن الإخراج بجمالية تواكب خصوصية كل إصدار لذلك تنوعت بأشكال ومضامين مختلفة غير قارة وكأنها هي بدورها لوحات تشكيلية في حجمها الكبير أو الصغير أو المتوسط، من كتاب في حجم كف اليد ـ ولا أقصد هنا ما يٌعرف بكتاب الجيب ـ إلى كتاب في شكل أنبوب مرورا بمنشور كأنه ملصقا بصفحات متعددة وغيرها من التجارب التي تستفز القارئ ليقرأ محتوياتها وإنما تُحَبِّبُ له القراءة بالمتعة البصرية. ويمكن أن يتحول كتاب شعري إلى معرض مفتوح في شوارع المدينة تقرأه وأنت تتجول من خلال متابعتك لصفحاته المعلقة على الجدران والمتباعدة على بعضها بمسافات متفاوتة، وبذلك تكتشف المدينة والأمكنة التي ربما لم تلجْها من قبل بقصيدة لا علاقة لها بالسياحة أو تاريخ المدينة بل برحلة الإنسان داخل ذاته واحتكاكه بالذوات الأخرى، وفي نفس الوقت الحديث عن الفن المعاصر وعن إيصال الثقافة إلى المجتمعات عوض المكوث في الأبراج. وقد تتشكل حلقات القراءة والتقييم بين ناس لا يعرفون بعضهم جلوسا أو وقوفا أو مشيا يقتفون صفحات الكتاب دون تنظيم في أخذ الكلمة أو اقتصارها بين البعض دون آخرين، كبارا أو أطفالا، متعلم أو أمي، فهي لا تخضع لمُسير ينظمها. إنها خاضعة فقط للتفاعل الجماهيري والمجتمعي. إنها تجربة منفتحة على الحوار وتعتمد عليه وبالتالي ترفض أن تكون متعالية على محيطها بل منه تستقي تطورها ومعه تتطور أيضا.
قد تعرف تغيرا في مسارها فتعطي نتائج مختلفة بخلقها لنقاش عميق لا يُكرر نفسه دائما كالعثور مثلا على صفحة قد تم اقتلاعها أو الكتابة فيها تعاليق من شخص مجهول مر من هناك. أو قد تتدخل السلطة لإيقافها…خاصة حين يبدأ الناس يرافقون الناشط/الشاعر/الفنان مشيا على الأقدام وبصحبة الأطفال وشغبهم الجميل ببراءته وعنفوانه (هنا يتم استحضار “القانون” كلما إلتقى أكثر من ثلاثة أفراد مع بعضهم يصبح “تجمعا” يتطلب “الترخيص”؟!؟! وهلم جرا من وسائل وأساليب خنق الأنفاس)
المشهد السابع: داخلي/نهارا + ليلا/ غرفة/ رواق/ بحث
رغم دخول عبد الله كروم للعمل داخل شقة 22 إلا أنه لم يتخل عن المجتمع بالذهاب إليه كلما توفرت الشروط ليلتقي به. فهو داخل “الشقة” وخارجها، فقد يكون في الليل داخلها أو خارجها بالنهار. وبذلك فإن “الشقة 22” هي فضاء للبحث وبمثابة ورشة مفتوحة تمتد إلى خارج أسوارها. فقد نظم أنشطة في غاية الأهمية مع أطراف أخرى من المؤسسات التي تقاسمه نفس الهموم المعرفية وتطويرها حيث تم نقل ما يُقام في “الشقة 22” إليها أو بإبداع جديد مختلف يتماشى مع الفضاءات الأخرى. فقد حضرت “الشقة” بعدد من الأنشطة في الخزانة السينمائية بطنجة مازالت موشومة هناك. وبالمدرسة العليا للفنون البصرية بمراكش الشهيرة بإنجازاتها السينمائية مع طلبتها الشباب من الذكور والإناث.
وحمل أيضا جهاز إذاعته لنقل أنشطة فنية وسينمائية مباشرة من مهرجانات كما مع إحدى دورات مهرجان الفيلم القصير المتوسطي بطنجة ثم مع المهرجان الوطني للفيلم بنفس المدينة وكذا من الخزانة السينمائية بطنجة مرارا.
المشهد الثامن: كتاب/ نافذة

في سنة 2009، سيصدر بطلنا عبد الله كَرُّوم عن دار النشر التي يديرها السالفة الذكر hors champs كتابا متوسط الحجم يقع في 260 صفحة يحكي فيه قصة “الشقة 22″ التي عاشتها من سنة 2002 إلى 2008 حيث جمع بين دفتيه نصوصا حولها وما راج فيها من أنشطة والأسماء التي شاركت فيها وحضرتها من المغاربة والأجانب. فهو يعطي صورة متكاملة بالوثائق المكتوبة والمصورة والنصوص الصحفية حيث القارئ ـ أو أنا شخصيا كما أفترض ذلك ـ سيحس بنوع من النقاش والمقابلة الذي حصل بين الفنان المثقف عبد الله كروم و”شقته” تنعكس في أسلوب صياغة الكتاب نفسه باستحضار الوثائق التي تركها على حالها الذي نُشرت به في أصلها وبين السرد الذي يعمقها ـ أي تلك الوثائق والصور ـ فالكتاب هو نوع من الزواج بين الحرف والصورة وأيضا بين الداخل والخارج يعني داخل الشقة وخارجها وهو ما استعرنه في نصنا هذا. إن المنزل الذي هو الشقة 22 أصبح هو بدوره فضاء خاصا كسنى وفي ذات الوقت مفتوحا كرواق وإقامة فنية للبحث فاختلط الذاتي الحميمي بما هو عمومي.
ومن المميزات الخاصة لهذا الكتاب المزدوج في كل شيء كما قلنا تمثل بوضوح في توظيف نافذة الشقة التي تطل على الشارع الرئيسي، شارع محمد الخامس، وفي مواجهة البرلمان، فتلك النافذة هي بمثابة صلة وصل بين الداخل والخارج من خلال الأصوات (منبهات السيارات، كلام الناس، صراخ المحتجين سواء العاطلين طيلة الأسبوع وما يتعرضون له من قمع وضرب وتعنيف نهارا أو المحتجين في قضايا أخرى سياسية أو مطلبية أو تضامنية مساء أو ليلا). نافذة الشقة هي الشاهدة على ما يجري أمامها في الشارع حول الواقع الاجتماعي والسياسي للمغرب فتتحول تلك الأحداث إلى مشاريع فنية داخلها فضلا عما تلعبه تلك النافذة من دور جمالي في الإضاءة تنعكس جليا على الأعمال داخلها. وهذه النافذة/ الشاهدة قد سجلت في الكتاب مفترق المراحل للفترة المذكورة إذ كانت عبارة عن فواصل وظفها صاحب الكتاب/الشقة من خلال الصور التي أخذها منها فلاحظنا التطورات التي عرفها المغرب. وهذا سيعبر عليه بجمالية في الإخراج إذ وضع على الغلاف الأمامي للكتاب صورة لمجموعة من الشباب الهارب في منتصف النهار من شيء ما ولن يكون إلا القمع بينما الصورة الأخيرة من الغلاف نرى الشارع نفسه في منتصف الليل فارغا لا تدب فيه الحياة إطلاقا. ولهذا فالكتاب هو انعكاس واضح وملموس لكل ما أشرنا إليه منذ بداية النص.
المشهد التاسع: الذات والمكان وحرية الإبداع
“الشقة 22” هي شقة تشبه جميع الشقق الموجودة في تلك العمارة الضخمة التي شيدها الاستعمار الفرنسي خارج أسوار مدينة الرباط العتيقة والتي تمتد تقريبا على جزء كبير من شارع محمد الخامس والتي تحتضن أيضا فندقا شهيرا له قصة أخرى على جانب وفي الجانب المقابل للضفة الأخرى من الشارع يوجد البرلمان المغربي بكل حمولته السياسية. فليس في “شقتنا” التي تتقاسم البطولة مع صاحبها عبد الله كروم جمالا هندسيا لكن تمكنت أن تتجمل بجمال داخلي رغم صغر حجمها، لا تتجاوز مساحتها 32 متر مربع، وبها غرفتين، واحدة كان يقطنها في البداية عبد الله كروم والتي كانت تصلح أيضا للإقامة الفنية للفنانين الذين يأتون من أقطار بعيدة (أوروبا، إفريقيا، أمريكا اللاتينية، آسيا) والثانية التي توجد مباشرة على الباب الخارجي هي التي حولها إلى فضاء فني ثقافي لا تتجاوز مساحتها 17 متر مربع حيث جدرانها الأربعة وسقفها وأرضيتها عرفت كل الإبداعات وتغيرت أكثر من آلاف المرات. واحتضنت لقاءات شعرية ومواضيع نقدية وورشات لفنانين كبار.
وتطور عبد الله كروم مع “شقته” التي أصبحت شهيرة مثله في جميع القارات وأحد الأمكنة التي يزورها المهتمين بالفنون القادمين من مختلف البقاع. كما انتشرت الظاهرة حيث حول كثير من الأجانب المقيمين في المغرب شققهم إلى أروقة للمعارض لكن لا أحد تمكن أن يعطي لها ما أعطى عبد الله لشقته. وبفضل ذكائه وحيويته وثقافته الفنية المتقدمة وما يتمتع به من غنى في الأفكار وجديته وصرامته التي ورثها من أهل الريف فقد مثل المغرب في عدد من المنتديات ولجن التحكيم وتحمله مسؤولية إدارة المعارض الكبرى في العالم كفرد بعيدا عن المؤسسات الرسمية التي رفضته منذ البداية. وقد ترأس مؤخرا الدورة 45 للجائزة الدولية للفن المعاصر لمؤسسة الأمير بيير موناكو. كما كان عضوا في المؤسسة العربية للثقافة وغيرها من المسؤوليات كمعهد جورج بومبيدو وفي اليابان وهذا جزء بسيط مما يمكن ذكره إذ سيطول بي الحديث كثيرا. وآخر مهمة التي أُسندت له كانت في شهر يونيو الأخير بتعيينه مديرا للمتحف العربي للفن الحديث بقطر.
المشهد الأخير: الجنريك فوق جدار “الشقة 22”
إذا كنت في بداية النص قد أشرت إلى أن عنوانه قد يشبه لعنوان فيلم ما وتبين أن السينما جزء من محتويات تلك الشقة فإنني مضطر أيضا في نهاية النص أن أخبركم أيها السادة والسيدات، القراء والقارئات، أن ما كتبته ليس سيناريو وإنما مشروع في طور الإنجاز قد يتحقق وربما لن يرى النور… إن حماسي أستمده من الشاب عبد الله كروم الذي يصغرني بعقود نظرا لإيمانه بالاستقلالية في الرأي والحرية في الإبداع والعزيمة في الوصول…