فيلم “الماضي” لأصغر فرهادي

أمير العمري
في أول فيلم له خارج إيران بعد أن حقق سمعة طيبة في الأوساط العالمية بفيلميه السابقين:”عن إيلي” ثم “إنفصال” الذي حصل على جائزة الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي، يعود المخرج الإيراني أصغر فرهادي في فيلمه الفرنسي “الماضي” The Past إلى موضوعه المفضل.. أي إلى دراما المشاكل العائلية التي من خلالها تتفجر المشاعر، ويكشف الفيلم عن التناقضات الإنسانية وكيف تتكون أفكارنا عن الدنيا، وعن العلاقة مع “الآخر”، وهل من الممكن أن نحصل على ما نرغب من خلال الحب، وكيف يتحول الحب إلى درجة عالية من الرغبة في السيطرة وتطويع الآخر، وما ينتهي إليه من تصدع في العلاقة العاطفية والزوجية.

يتشابه فيلم “الماضي” كثيرا مع فيلم “إنفصال” رغم أن الفيلم الثاني (إنفصال) كان يدور في البيئة “الطبيعية” التي يعمل فيها أصغر فرهادي، أي المجتمع الإيراني الذي يعرفه جيدا، ويمكنه أيضا، بطريقته الخاصة، أن يوجه إليه سهام النقد ولو من زاوية خفية.
وإذا كان “إنفصال” يدور حول زوجين استحالت بينهما الحياة بسبب رغبة الزوجة في الهجرة ورفض الزوج الموافقة على هذه الفكرة وتشبثه بالبقاء بسبب اضطراره لرعاية والده العاجز المسن، ففيلم “الماضي” أيضا يدور حول “ثلاثي” آخر هو أحمد.. الزوج الإيراني المنفصل عن زوجته الفرنسية “ماري” الذي نراه يعود في بداية الفيلم من بلاده إلى باريس، بعد انفصال دام أربع سنوات لتسوية ما تركه خلفه والحصول على الطلاق، يقف بينهما “سمير” الصديق الجديد (العربي) لماري التي ترعى ابنتين من علاقة سابقة (لاحظ التركيز هنا على تجسيد الفرق بين نمط الحياة الفرنسية والقيم الإيرانية بشكل واضح تفسيرا لما يمكن أن يكون قد أدى إلى ذلك التناقض بين أحمد وماري من دون أن يشرح الفيلم ذلك بشكل مباشر) وسمير هذا هو الذي تريد ماري أن تتزوج منه رغم معارضة إبنتها الكبرى المراهقة “لوسي”.

العبث بالأشياء وإصلاحها
لوسي تتوسل بشتى الطرق لكي تفسد العلاقة بين أمها وسمير الذي تجده انتهازيا نفعيا بل وفظا قاسيا وأيضا تحمله مسؤولية ما جرى لزوجته، وتحاول “ماري” أن تدخل أحمد طرفا في حل المشكلة القائمة بينها وبين لوسي التي تهجر البيت كثيرا احتجاجا على وجود “سمير” في حياة أمها. ويجد أحمد نفسه – وهو الراغب في إنهاء كل علاقة له بتلك المرأة الفرنسية وابنيتها- تدريجيا، متورطا، ليس فقط في محاولة إصلاح العلاقة بين الأم والإبنة، بل وفي إصلاح الكثير من الأشياء التي تتعطل (من أجهزة وأدوات وسيارات..إلخ) وحتى مساعدة سمير في تحسين علاقته بابنه الصغير فؤاد المشغول هو والابنة الصغرى لماري (ليا) في العبث بالاشياء في ذلك المنزل الذي تنتشر في أرجائه أدوات الطلاء حيث تسعى ماري الى اعادة طلائه وكأنها تخفي ملامح الماضي حينما كانت تعيش في نفس المنزل مع أحمد، وتتأهب لكي تبدأ حياة جديدة. إن أحمد- بهذا المعنى، يبدو مثل المنقذ وهو الرجل القادم من خارج المحيط.
وبينما كان الأب العاجز يلعب دورا مركزيا في فيلم “انفصال” رغم أنه لا يتكلم ولا يتداخل في الأحداث، كما يتسبب في وقوع مشكلة كبيرة لإبنه تصل للقضاء بعد أن يضطر الإبن إلى لاستعانة بامرأة تخدم والده وترعى المنزل أثناء غيابه وما ينتهي إليه من التشاجر معها بسبب إهمالها للرجل العاجز، مما يجعله يمد يده عليها ويسقطها فتصاب بالإجهاض.. إلخ هنا في “الماضي” توجد شخصية مشابهة هي شخصية زوجة سمير (التي يعتزم الطلاق منها) والتي ترقد في المستشفى في غيبوبة كاملة منذ فترة، بعد محاولة انتحار فاشلة بسبب ما تصورته من خيانة زوجها لها أو بسبب تعقيدات أخرى يكشف لنا الفيلم عنها تدريجيا، تقوم في جانب منها، على سوء التفاهم، وفي جانب آخر على التآمر من جانب خادمة (مغربية بالمناسبة!) تحاول حماية وجودها كعاملة في مغسلة الملابس التي يمتلكها سمير. إن شخصية الزوجة العاجزة موجودة حقا في خلفية الحدث، إلا أنها قائمة بشكل مركزي في ضمير الإبنة لوسي التي تعتقد أنها ضحية علاقة أمها بسمير، وتحكم بالتالي على أمها بالإدانة، وترفض وجود سمير في حياة الأسرة، كما أنها موجودة في ذهن الإبن فؤاد وفي ضمير الزوج سمير.

من الفيلم

الطريف أن “أحمد”- كما أشرت، وفي السياق الدرامي المنسوج ببراعة، يصبح هو “المخلص” أي الرجل القادم من الخارج- من خارج تلك الثقافة التي من الواضح أنه يحتج عليها ويرفضها رغم حسه الإنساني الذي يجعله قريبا من كل الشخصيات، لا يكرهها بل يتعاطف معها- اي يصبح هو الشخصية الإيجابية الوحيدة في الفيلم التي تبدو متصالحة مع نفسها، فهو يصل إلى اليقين بضرورة الانفصال على الرغم من محاولات “ماري” في البداية الإيحاء بأنها ربما كانت قد استضافته في منزلها لكي تدخله مجددا إلى حياتها وتستعيده. وهو أيضا يقدم “خدماته” للجميع دون أن ينتظر أي مقابل، ينجح في إعادة لوسي إلى أمها، ودفع سمير للاهتمام مجددا بزوجته في غيبوبتها، وينتهي الفيلم بما يوحي بأن “سمير” قد يكتشف خطاه في الحكم على زوجته التي ترقد في المستشفى، وإنها أيضا ليست عاجزة تماما عن الشفاء بل ربما تشفى وتعود إلى استئناف حياتها معه بعد أن تتكشف الحقيقة، كما أن ماري ربما تكون قد تسرعت في علاقتها بسمير وتريد أن تخفف قليلا من ذلك الاندفاع وتعود للاهتمام بابنتيها.

بناء تقليدي
يعتمد الفيلم على البناء الدرامي التقليدي القوي المليء بالمشاعر في سياق محكم (ليست هناك مشاهد عودة للماضي رغم أن الماضي يظهر من خلال الكثير من الحوارات بين ماري وأحمد)، ويكشف الفيلم لنا من مشهد إلى آخر، عن تفصيلة جديدة أو جزء جديد من تلك “الحبكة” القوية البارعة التي تشدنا لمتابعة الصراع القائم بين الشخصيات، أحيانا في شكل صريح ومباشر، وأحيانا أخرى في سياق خافت، وأنت كمشاهد لا تملك في البداية سوى أن تكره كل هذه الشخصيات وتحتج عليها، ثم تعود لكي تفهمها تدريجيا وتحبها وتحنو عليها، تماما كما يفعل أصغر فرهادي نفسه تجاه شخصياته هنا بل وفي كل أفلامه. إنه لا يدين أحدا أو يقسو عليه، بل يسعى لفهم الجميع ووضعهم في سياقات حالاتهم النفسية وخصوصيات شخصياتهم وملامحها التي تجعلها تختلف عن غيرها. وهذه من معالم ذلك الطابع “الإنساني” لأفلام فرهادي.
ويعتمد أسلوب الإخراج على إدارة الممثلين جميعا واستخراج أقصى ما لديهم من قدرات، وفي مقدمة هؤلاء جميعا بيرنيس بيجو الرائعة في دور ماري، التي تعود لتفرض نفسها ملكة متوجة في هذا الفيلم بعد أن تألقت في دورها الرئيسي في فيلم “الفنان” الصامت. أما هنا فهي تستخدم كل طاقتها في التعبير بالوجه والحركة و الصوت والإشارة والصمت في ليونة مذهلة عبر مسارات الفيلم، تخرج وتدخل وتتحرك، وتتمادى في الشجار كامرأة واقعة بين شقي الرحى.. تعاني أزمة الاختيار والخوف المتجدد من الفشل، من ضياع الإبنة، ومن ضياع الزوج الذي كان، ومشروع الزوج الجديد، والعودة مرة ثانية إلى الوحدة والمعاناة بينما سنوات العمر تمضي.

من فيلم انفصال

وهناك أيضا الممثل الإيراني علي مصطفى في دور “أحمد” الحريص على التحكم في مشاعره رغم أنه، مثل سائر الشخصيات، يفقد أيضا أعصابه أحيانا.. لكنه في كل الأحوال يبدو في حالة تماهي رائعة مع ماري، يملك القدرة على فهم ما في داخلها من قلق وإن كانت هي ترفض – ظاهريا- أن تجعله يكشف ما يدور في أعماقها.
ويتميز أيضا الممثل  الجزائري- الفرنسي طاهر رحيم (بطل فيلم “نبي”) في دور سمير، الذي يبدو سلبيا في البداية، عدوانيا لا يبالي، إلا انه يكشف تدريجيا عن كائن إنساني شديد الحساسية، يعاني الاضطراب الداخلي أيضا في صمت، يبدو أحيانا عاجزا أمام ابنه الصغير فؤاد، يشعر بالغضب الشديد من تلك الفتاة المغربية التي يتصور أنها خدعته وساهمت في تدمير حياته بنسج الأكاذيب واختراع المواقف، في حين أنها هي نفسها ضحية الواقع والظروف القاسية، وهو ما يدركه سريعا.
ولعل من أكثر من يميز الفيلم ويجعله من أفضل الأفلام الفرنسية التي شاهدناها أخيرا، تلك السيطرة الكاملة لأصغر فرهادي على كل التفاصيل الصغيرة، والتحكم في الإيقاع، متخلصا من الوقوع في التكرار. فقط تلك النزعة الخاصة في الانحياز للشخصية الإيرانية هنا ربما ترهق الفيلم قليلا، وتجعله على نحو ما، مائلا في اتجاه تأكيد الذات رغم موضوعيته الواضحة!


إعلان