محمد لن ينام في سريره هذه الليلة

أمستردام – محمد موسى
فاز فيلم “عندما يعود الصِّبْيةَ ” بالجائزة الإولى في فئة الأفلام التسجيلية المتوسطة الطول (من التي لا يزيد طولها عن ساعة واحدة)، في الدورة الأخيرة من مهرجان “أدفا” للسينما التسجيلية في العاصمة الهولندية أمستردام. نسخة الفيلم التي عُرضت وقتها في المهرجان السينمائي الهولندي، والتي كانت بطول 58 دقيقة، هي نفسها التي وصلت الى القنوات التلفزيونية، ( عرض الفيلم على قناة الجزيرة الإنكليزية، وضمن برنامج ” شاهِدٌ”). هذا الإتجاه، في إنتاج أفلام تسجيلية بأطوال 30 او 60 دقيقة، أصبح شائعاً كثيراً في السنوات الأخيرة، وهو إذا لم يتم بتكليف مباشر من القنوات التلفزيونية، المنتجة الأكبر للأفلام التسجيلية في العالم، يكون برغبة المخرجين أنفسهم، لضمان وصول سريع وسَلِس لأفلامهم الى القنوات التلفزيونية، والتي تعمل بنظام البرمجة التلفزيونية، المتأسس على مبدأ النصف ساعة ومضاعفاتها للمادة التلفزيونية الواحدة، مع تفضيل الأفلام التي لا يزيد طولها عن ساعة ( لا تُحبذ هيئة الإذاعة البريطانية ( بي بي سي) عرض أفلام تسجيلية يزيد طولها عن ساعة واحدة). فإعادة توليف الأفلام الأصلية، لتناسب الأطوال التي يرغبها التلفزيون، هي واحدة من المهام الشديدة الصعوبة للمخرجين، اذ يتوجب عليهم إعادة تقطيع جديدة،  تأتي بعد المونتاج الأول، والتي تتطلب رؤية جديدة، لضمان تدفق وإيقاع سَرديّ، يقترب من ذلك الذي أنجزوه في نسختهم الإولى من الأفلام.

تَفرض الأفلام التسجيلية المتوسطة الطول والقصيرة، خيارت فنيّة و إختزالات على المخرجين، كالبحث عن إستعارات صوريّة وإسلوبية، تعوض السرد المُقيد بزمن قصير. كما تخضع المقابلات التي يُجريها المخرجين مع شخصياتهم الى إعادة مراجعة دقيقة، اذ تمر هذه المقابلات عبر عمليات توليف قاسية أحيانا، للبحث عن لحظات او عِبر مُعينة تختزل جوهر الموضوعة، وتبتعد عن التكرار او الشروح المطولة.

لا يُضيع فيلم ” عندما يعود الصِّبْيةَ ” للمخرجة النرويجية تونة أندرسن، وقتاً كثيراً، للدخول في قضيته، وهي هنا، الإعتقالات المتواصلة لصِّبْيةَ فلسطينيين من قبل إسرائيل، بتهم مواجهة الإحتلال بطرق عنيفة ( يُعد رمي الحجارة من أبرزها). يستهل الفيلم وقته بإحصائية تقول إن هناك أكثر من 7000 صبي فلسطيني، من الذين لم يتعدوا الثامنة عشر من العمر، دخلوا السجون الإسرائيلية في غضون السنوات الإحدى عشر الأخيرة. بعد ذلك سنتعرف على مجموعة الصبية الإثني عشر، الذين سيرافقهم الفيلم، وهم يحاولون العودة الى “الحياة الطبيعية”، وبعد قضائهم فترات زمنية مختلفة في السجون الإسرائيلية. المحاولات تلك، ستكون  بمساعدة منظمة تعليمية نفسية تدعى ” YMCA ” في مدينة الخليل الفلسطينية. إعادة التاهيل هذه سيشرف عليها موظف فلسطيني إسمه “مهران”،  والذي سيهيمن بحضوره وصوته على الوثيقة التسجيلية، هو يَحِّل بدل المُعلق الصوتي، والذي يقود سرد بعض الأفلام التسجيلية، لكن عوضاً عما يقوم به ذلك المعلق التقليدي، يواصل مهران بتعليقاته، والتي تتواصل حتى بغياب صورته عن الشاشة، محاولاته للوصول الى المشاعر والإنفعالات الحقيقية الصادقة لهؤلاء الفتيّة، والمغطاة، بطبقات الذكورة والتقاليد السميكة، هو يسأل عما يشعروه الآن؟ وما أحسوا به وقت سِجنهم؟ وكيف يروون مستقبلهم؟ أسئلة غريبة لم يعتادها هؤلاء الفِتْيان، ولن تكون إجابتها هيِّنة عليهم. مهران هذا، يستحق فيلماً تسجيلياً لحاله، فكيف إستطاع فلسطيني أن يحافظ على تماسكه وصفاء ذهنه (وكما بدا في الفيلم)، وسط تلك الفوضى، ومن أين يستمد إيمانه بالمستقبل؟ لن يكون الفيلم عن “مهران”، هو سيبقى مع صبيته، يرافق بعضهم الى محل سكناهم، في مخيم للآجئين في الضفة الغربية، حيث يعيشون، وكما عاش أبائهم وربما أجدادهم، في مساحة جغرافية مُغلقة ضِيقة مُثخنة بجروح الزمن، الذي لم يكن رحيماً أبداً.

لن تُمهد المخرجة النرويجية تونة أندرسن لفيلمها، بعودة تاريخية الى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولن تدخل في ملابسات هذا الصراع وتعقيده، الفيلم يفترض إن مشاهديه لا يحتاجون أي مقدمة، كما إنه وبالتركيز عن تفصيلة سجن الصبية الفلسطينين، بما تتضمنه من مخالفة لكل قوانين الدول المتقدمة، وحتى تجاوزاً لما تقوم به إسرائيل تجاه الذين يقترفون جرائم من إسرائليين من تحت السن القانونية، سيكون بقضيته المحددة هذه، إدانة كافية لفعل، يشكل جزءاً من منظومة واسعة من الأفعال الأخرى، التي تقوم عليها سياسية الدولة العبريّة، تجاه فلسطينيين، وبالخصوص إولئك، الذين يعيشون في المناطق الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية. كما إن القسوة، التي تُميز سلوك بعض هؤلاء الفتية، تجاه أنفسهم، وأهلهم، هي نتاج حياة صعبة كثيراً، دفعت بهم مبكراً الى مواجهة مِحِّن الحياة ومسؤوليتها ومِرّها. يروي أحد الصبية، بأن عائلته لم تَجتمع سويتاً منذ سنوات طويلة، فشبابها يتناوبون فترات السجن، وكلما خرج أحدهم، يُستبدل سريعاً بأخ آخر. الإمهات اللواتي ظهرن بالفيلم، فقدن السيطرة على أولادهن. لن تنفع توسلات إحداهن، لإبنها (محمد)، بان يتوقف عن رمي الحجارة بإتجاه جنود القوات الأمنية الإسرائيلية. محمد هذا، إعتقل ثلاث مرات، وعندما كان فريق التصوير بإنتظاره، في بيته في المخيم، تم الإعتقال الرابع. أم محمد كانت تعرف هذا، قلبها أخبرها كما وصفت، “محمد لن ينام بسريره مجدداً هذه الليلة”، تتوجه الى الكاميرا بقنوط العاجزة عن حماية أبنائها.

تتغير ملامح  الصِّبْيةَ في زمن الفيلم ، فأحيانا يستعيدون طفولتهم وفتوتهم، فتبدو وجوههم عندها، تشبه تلك لمراهقين مُقبلين بشغف على الحياة، وأحيانا يبدون كرجال مهزومين هَرِمينَ، منهكين من تجربة السجن المريرة. المخرجة تقبض على ذلك الإنهزام وتسجله، كما إنها ستربط أجزاء فيلمها ببعض  الصور والإنتقالات البليغة، فالكاميرا التي كانت تصور أحد الفتية، يلعب في لعبة الكترونية في منزله، ستنتقل فجأة، الى الشارع الخارجي حيث يعيش في مخيم اللاجئين، لتسجل مسيرة دورية للشرطة الإسرائيلية،  بدا جنودها يشبهون ببزاتهم العسكرية الثقيلة، إولئك الذين كانوا في لعبة الكمبيوتر العنيفة. العنف يُحاصر الفِتْيان في كل مكان. الفيلم الذي بدا في نصفه الأول، وكأن التفصيل ينقصه ، الذي يخص موقف الصبية من إسرائيل او الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إنتهى ليكون واحد من تلك الوثائق التسجيلية المُهمة، عن الحياة المستحيلة لمعظم الفلسطينيين، وعن السجون المتعددة التي يعيشها الفلسطيني، سجن الإحتلال المعروف، وسجن المكان الضيق، لذلك يغدو الإنتقال بينهما لهؤلاء الفِتْيان، ليس بالجَسامةً نفسها، لنظرائهم في أمكنة إخرى من العالم.


إعلان