أتراك شجعان في معركة غير محسومة
محمد موسى
تحظى أغلب التحولات والحركات والإحتجاجات السياسية والإجتماعية الضخمة من العقد الأخير، بإهتمام سينمائي تسجيلي لافت. هذا الإنشغال، يظهر بالعادة في أفلام تسجيلية قصيرة وطويلة، تعرض بعد أشهر وأحيانا سنوات على زمن تسجيل تلك الأحداث. يُمكن هنا إيراد أمثلة من الثورات العربية الأخيرة، فثورة الخامس والعشرين من يناير من عام 2011 في مصر، جذبت مجموعة كبيرة من مخرجي السينما التسجيلية المصريين وبعض المخرجين الاوربيين والأمريكيين، لتكون الحصيلة حتى الآن، درزينة من الأفلام التسجيلية، والتي إنطلقت جمعيها من الثورة المصرية كحدث مزلزل، ولينعطف بعضها بعد ذلك في محاولة لتحليل بنية المجتمع المصري المعاصر، اذ رافقت الأفلام تلك شخصيات محددة، إشتركت في الثورة المصرية، لتسجل إنعاكسات الحدث المصري الجماعيّ النفسية عليها. الثورة المصرية الإولى، التي إستغرقت 18 يوماً، وإنتهت بتنحي الرئيس السابق، وفرت نهاية سريعة ومرضيّة فنياً لأفلام المخرجين والمخرجات الذي عملوا في أجواء الثورة المصرية، في المقابل، هناك بعض الحركات والإحتجاجات التي تدوم لسنوات طويلة او عقود، عندها تتعقد مهمة الذين يقفون خلف العمل التسجيلي، فالأفلام عندها لا تقدم “الحدث”، كجزء من فترة زمنية وتاريخية منتهية، بل يسعى الفيلم لأن يكون وثيقة تسجيلة عاكسة للمناخ العام، في الفترة التي رافق فيها ذلك الحدث، تاركة نهاية القضية في الفيلم وفي الواقع مفتوحة على إحتمالات شتى.

من الأفلام التسجيلية الأخيرة، التي تابعت قضايا إمتدت على سنوات طويلة، فيلم المخرجة التركية المعروفة رؤيا أرزو كوكسال “قلة من الناس الشجعان”. لا علاقة لقضية الفيلم التسجيلي هذا بالسياسة التركية المعقدة في السنوات الأخيرة، كما إن مكان أحداثه سيكون بعيداً عن حواضر الدولة التركية في إسطنبول وأنقرة. الفيلم يسجل وعلى مدى سنوات أربع، الإحتجاجات التي يقوم بها سكان ريفيين عاديين بوجه خطط للحكومة التركية بإنشاء محطات كهربائية في مناطقهم، والخطر الذي يمكن أن تحمله هذه الخطط ، في تغيير او تدمير البيئة الطبيعية الشديدة الجمال لهذه المناطق والقرى، التي تقع قريبا من البحر الأسود. الفيلم بهذا يندرج في فئة ما يعرف بأفلام البيئة، اي التي تدور قضاياها عن موضوعات البيئة، لكنه في جوهره عن صراع الإنسان للحفاظ على محيطه المألوف، والذي صادف أن يقع في الفيلم، في واحد من أجمل بقاع الأرض.
تُمهد المخرجة التركية لتفاصيل فيلمها الكثيرة، بمشاهد ساحرة من المناطق التي تشهد التهديد بالفناء، بعضها نُفذ من داخل بيوت أبناء المنطقة، حيث صورت الكاميرات الخارج البهيّ، عبر نوافذ صغيرة. مشاهد مشابهه، تحتفل بسخاء بالطبيعة، ستعود بشكل متواصل على طوال زمن الفيلم، للتذكير بالموضوعة، والتهديد الذي ينتظر المنطقة، ولتفسر أيضا، الغضب والحماس والحزن الواضحين، على سكان المنطقة، من الذين تحدثوا للفيلم. بعدها تتجه المخرجة للتعريف ببعض شخصيات الفيلم الأساسية، والذين سيحظون بوقت أطول، من غيرهم في الفيلم. من هؤلاء سيدة ريفية قادت بعض من التظاهرات الصغيرة ضد خطط الحكومة بإقامة السدود، ومشاريع بتغيير وجهة نهر المنطقة. لن يكون الفيلم مناسبة لسَبر حيّوات الشخصيات التي ظهرت فيه، هو يكتفي بشهاداتهم المؤثرة والمعبرة عن التحدي الذي يواجه حياتهم، تصف سيدة تركية على أعتاب السبعينات من العمر حالهم، بأن الأخطار حولتهم الى دببة جريحة، يجب خشيتها، وإن هناك وحشية ستنتفض، اذا شعروا إن محيطهم في طريقه الى الزوال. صور شاعرية كهذه ستحضر كثيراً في سياق الفيلم، فالأتراك يبدون كالعرب بشغفهم بالصور الشعرية الحماسيّة. يتذكر رجل من أحدى قرى النهر القريبة، كيف قابل حبيبته ، والتي ستصبح زوجته بعد ذلك، على ضفة من ضفاف النهر، وإن “نهر الحياة” هذا، هو الشريان المخفيّ للمنطقة كلها، وتجفيفه يعني قتل الحياة فيها.

سعى توليف الفيلم، لترتيب وقائع الأزمة بين السكان المحليين والسلطات زمنياً، المخرجة إستعانت أيضا ببعض الشروحات، رغم ذلك كان الفيلم سيستفاد كثيراً من معلومات أكثر تفصيلة عن الموضوعة، فهناك غموض يتعلق بموقف أبناء المنطقة الأولي من مشروع الحكومة التركية، وكيف رضوا بأن تُشيد بعض المحطات الكهربائية الصغيرة، ورفضوا إقامة سد على نهرهم الصغير، والذي قاد بعدها الى أعنف الاحتجاجات في عمر الأزمة. هناك جانب إنساني مُعقد في القضية، تمر عليه المخرجة، فالمشاريع الحكومية هذه، وفرت وظائف لسكان عديدين، لكن حضور المنتفعين هؤلاء في الفيلم، لن يقارن مع إولئك الغاضبين، والذين نظموا انفسهم جيداً، في إحتجاجات، لا تقل عن تلك، التي تحدث في دول اوربية متقدمة. تهمين النساء على الإحتجاجات الشعبية، جلهن من النساء المتقدمات بالعمر، من اللواتي عشن حياتهن كلها في المنطقة، ولا يرغبن أن يغادرن هذه الحياة، بصور مغايرة عن مرابع صباهن. تقود سيدة مسنة مظاهرة لنساء من عمرها، تضرب بغضب على زجاج سيارة أحد موظفي الحكومة، فيما تطارد سيدة مستشار عينته الحكومة التركية، لبحث إعتراضات السكان المحليين. ترفض السيدة تلك تطمينات المسؤول التركي، ولا تصمت الا بعد أن تحصل على وعود منه، بأنه سيستمع لها.
“للحديث بقية”، هكذا تعدنا المخرجة التركية رؤيا أرزو كوكسال ، والتي قضت فترات طويلة في منطقة الإحتجاجات، فلا نهاية واضحة لأزمة سكان القرى الأتراك، الذين ظهروا في فيلمها، فبعد أن قررت الحكومة التركية وقف المشاريع هناك، عادت وتراجعت قبل عامين، لتطلق المجال، قانونياً على الأقل، لمواصلة أعمال البناء. منذ عرض الفيلم الأول قبل عامين، والموضوعة تستأثر بإهتمام، تجاوز الحدود التركية الى بعض الدول الإخرى. يمكن تتبع القضية عبر شبكة الإنترنيت، التي تخبرنا مواقعها، بأن السيدة الريفية، مربية الماعز، الصلبة، التي رافقها الفيلم، وهي تدخل الى مقاهي الرجال في القرى المجاورة، لتصرخ بهم بلوعة، لأن ينضموا الى الإحتجاجات المتواصلة، هذه السيدة، تعاني من مرض السرطان، وهو المرض الذي ربما سيعوقها، من رؤية نهاية للقضية التي دافعت عنها لسنوات. كما انه ليس من المعروف إذا كانت المخرجة رؤيا أرزو كوكسال ستعود الى الموضوعة ذاتها في فيلم جديد. بعيداً عن تعقيدات الواقع، سيحتفظ فيلم ” قلة من الناس الشجعان “، بقيمته كشاهد قاسيّ على صراع بشر بسطاء مع سلطات ومصالح وشركات كبيرة، ولم يضّر به كثيراً، بانه لم يتضمن تلك النهاية الواضحة الحاسمة، التي يتوق اليها كثير من متفرجي الأفلام.