اسئلة الوثائقي : السؤال العاشر : السينما الوثائقية

قيس الزبيدي
بغض النظر عما اذا كان الدافع من وراء السؤال او التأكيد بشكل ساذج او ساخر جمالي او مُنصف، فان المرء يتوقع من مثل هذا السؤال أن يشير الى مبدأين مختلفين. الاول يشكك في انتماء الوثائقي الى فن السينما: هل للوثائقي نصيب في السينما وهل له دور فيها؟  والثاني يعتبر فقط الفيلم الروائي هو فن سابع رغم ان الكينماتوغرافيا رأت النور مع صور العالم الوثائقية “افلام الأخوة لوميير”.

وعلى العكس من ذلك فان مقياس التقدم الجوهري المألوف يتألف من كون الفيلم الوثائقي أصبح ايضا سينما Kino لكن  من ينطلق من معنى المُختلق والخيالي والخطأ والتَصور، فانه يصدق بسهولة كما لو ان الوثائقي هو مجرد تسجيل واقعي بينما هو بالتأكيد سينما.  وإذا ما تذكرنا البداية فان السينما  كانت تُعَد مجرد تسلية لعامة الناس او ايضا مجرد عروض ميلييه الإضافية التي  تعارضت مع الجريدة السينمائية ذائعة الصيت لكنها لم تتردد في اقناع الزبائن العاديين بأن اعادة انتاج الفيلم في الاستديو هي اكثر واقعية من الواقع.

لهذا فان الفيلم الوثائقي قلما حَظيَ باحترامنا لأنه مرة ليس سينما Kino وبالتالي ليس فنا، ولأنه إذا ما كان مرة اخرى Kino فأنه ليس الواقع بعينه. يفهم المرء مثل هذا الصحيح المزدوج ان لا يقود في الواقع الى أي انتقاد لأنه ينشغل بالطريقة نفسها لكنه في الحالتين يستند حتما إلى استنتاج خاطئ. ففي الحالة الاولى يتعرض الفيلم الوثائقي للشك لأنه لا يصل الى مستوى الفن فهو لا ينظم مشاهده عبر ممثلين وسيناريو انما يقتصر على تفليم الاشياء والناس كما هم وهذا يعني وفق صيغة لبيلا بالاج مجرد ريبورتاج لأشياء حقيقية. وفي الحالة الثانية فان تقليد المسرح والأفلام الكلاسيكية هي كلها تمثيلية! باختصار يبدو الامر في الحالة الاولى كما لو ان الفيلم الوثائقي لا يعرف كيف تسير الامور بينما يجعل الفيلم الروائي في الحالة الثانية الامر عسيرا للغاية؟

وفي الواقع ينشا الخطأ في الحالة الاولى من الاعتقاد بان الوثائقي  لا يفعل سوى تشغيل الكاميرا دون الاعتماد على التمثيل والممثلين وهو امر لا يمت للفن بأي صلة  وينشا الخطأ في الحالة الثانية من الاعتقاد بان تنظيم كل شيء ليُمثَل في مشهد هو كله حالة تلاعب وبهذا لا ينتمي الى الحقيقة بصلة. وان على الفيلم ليكون وثائقيا حقا ان لا يسمح بإعادة تمثيل الواقع الحقيقي.

 
ولكي يتم تجاوز مثل هذا اللبس علينا ان نوضح ماذا يُفهم من (الميزه- ين- سين)  أي من تنظيم المشهد في الفيلم. اولا يدل  الميزان سين بالمعنى الضيق على (1) كل ما يوضع امام الكاميرا: ديكور اشياء حيوانات اناس وكيف يجهز للتصوير ويمثل. ومن المعروف ان عمل المخرج لا يقتصر على ذلك لان عليه (2)  أن يقوم بتأطير احجام لقطاته وتصوير ما يجهزه ليعبر عن رؤيته. فاللقطة هي اساس وحدة الفيلم، كما انها مقطع مكاني-زماني يسجل محتوى اللقطة سمعيا- بصريا  ويبدأ من تشغيل الكاميرا الى توقفها-  وبعد التصوير يتم (3) مشاهدة كل اللقطات المصورة سمعيا بصريا من قبل المخرج ليفصل بعضها عن البعض وليعيد تركيبها في عملية المونتاج وليقوم بعدئذ بمزج الاصوات العديدة في عملية المِكساج.

ونتيجة لذلك فان المخرج، حتى بالمعنى الضيق ، حتى لو لم يستعين بأي ممثل انما يصور في يوم ماطر في امستردام كما فعل يوري إيفنز في فيلم مطر 1929 فانه سيمارس مع ذلك عمله الابداعي بشكل اقل او اكثر عبر عملية تأطير احجام لقطاته في عملية التصوير ومن ثم توليفها في عملية المونتاج. وبهذا المعنى يمكن لنا ان نقول ان صنع أي فيلم يعني دائما عملية تنظيم لان الفيلم يعني على الاقل اختيار وجهة نظر وجوانب ولحظات تصوير لقطات هي بمنزلة شظايا من الواقع ويعني ذلك ايضا مونتاج هذه الشظايا المعزولة عن الواقع وترتيبها في نظام دلالات (تأويلها) لكي يخرج الفيلم ويعرض. وبغض النظر عن وهم الواقع التام الذي ينشأ من العرض فان الفيلم الوثائقي “يُقَوَّم”  وفقا لأحكام ومزايا جمالية.

التفليم لا يعني ببساطة تشغيل الكاميرا انه اكثر ما يعني بحكم الضرورة تنظيم المشاهد والتعبير عن وجهة نظر يتحمل صانع الفيلم مسؤوليتها. وحتى مثلا في السينما المباشرة التي يصور صانع الفيلم الموقف الحقيقي مباشرة من الواقع ولا حتى يعقب عليه فأن عليه أنْ يتكفل ايضا بكيف يصوره ولماذا يعرضه بهذه الكيفية لأنه يبقى من الناحية الاخلاقية مسؤولا عن ما يظهر على الشاشة حتى عن عدد اللقطات وتتابعها.

اذا ما كان الفيلم روائيا او وثائقيا فان الامر يتعلق حتما بإدارة الاخراج والمسؤولية التي تقع على عاتق المخرج.لان ميزان سين الفيلم بدرجة اكبر هو المونتاج وحركة الكاميرا- او ان حركة الكاميرا والمونتاج هما ما يحددان على الاقل طريقة تمثيل الممثلين ، فلا يوجد أي فيلم دون صنعة او دون تدخلات فنية لان التصوير بوساطة الكاميرا يستوجب دائما مَلَكة الحرفة ويستوجب بشكل امثل- فطنة تامة.

ربما تسنى للفيلم الوثائقي من جهة ان يحتل موقعه في الفن السينمائي ولم يعد السؤال يتوقف من جهة اخرى عند ما يمكن ان يكون حقا الفيلم الوثائقي دون اخراج إنما كيف يتناول (وفقا لأي شكل ميزان سين) هذا الواقع او غيره على احسن وجه.


إعلان