“بيع الموت” في فرنسا وعريضة بالمغرب تطالب به !!
أحمد بوغابة / المغرب
سكورسيزي عاشق السينما المغربية
يتمتع المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي بشهرة عالمية وسط المجتمع السينمائي سواء بأفلامه المثيرة بمتعة المشاهدة الجميلة والجدل الإيجابي، أو أيضا بمؤسسته الثقافية التي يشرف عليها ويديرها لترميم الأفلام والحفاظ عليها حيث أنقذ مجموعة هائلة بإعادة الحياة إليها كما شجع أخرى للوصول إلى المشاهدين. ويعرف الجميع دوره الفعال في إنقاذ والتعريف بالفيلم المغربي “الحال” (1981) للمخرج أحمد المعنوني وهو عن تجربة المجموعة الغنائية “ناس الغيوان”. لقد استعمل مارتن سكورسيزي إحدى أغانيهم في فيلمه “الإغراء الأخير للسيد المسيح” (1988) الذي صوره في المغرب، إضافة إلى فيلم آخر “كوندون” (1997) الذي صوره هو أيضا في المغرب. وبالمناسبة فقد أعلنت إدارة مهرجان الفيلم الدولي بمراكش في نهاية الأسبوع بأن سكورسيزي سيترأس لجنة التحكيم الرسمية للدورة المقبلة لمهرجانها المقرر في مطلع شهر دجنبر 2013.
فقد وقع مارتن سكورسيزي مؤخرا شهادة اعتراف ب”بيع الموت” في رسالة شخصية وجهها إلى المخرج المغربي فوزي بن السعيدي قُبيل شهر واحد من وصول الفيلم إلى القاعات السينمائية الفرنسية.

استقبلت وسائل الإعلام الفرنسية، المكتوبة منها والمسموعة والمرئية والإلكترونية والوكالات، باحتفالية كبيرة هذا الفيلم. كما عرف نفس الاهتمام من طرف النقاد السينمائيين المحترفين في المجلات المتخصصة حيث افتتح، إلى جانب أفلام فرنسية كثيرة، الموسم السينمائي الجديد. وهو ثاني فيلم مغربي يعرف هذه الحفاوة الإعلامية والنقدية بفرنسا بعد فيلم “على الحافة” لمخرجته ليلى الكيلاني (2011). ويا للصدفة الغريبة!!! لقد اكتشف بعض المغاربة فيلم “بيع الموت” عندما نجح في فرنسا!!!. ومنهم من أسس صفحة بالموقع الاجتماعي الفايسبوك لنشر عريضة تطالب بالتوقيع عليها لعرضه في المغرب (أو إعادة عرضه) وأنهم لم يعلموا به عندما كان في القاعات المغربية قبل شهور فقط. فهل يرجع السبب لكون الموزع المحلي لم يهتم كثيرا بالترويج للفيلم؟ أم هناك أسباب أخرى نجهلها التي تجعل بعض الأفلام المغربية الجميلة والرائعة تمر مرار الكرام في زيارات عابرة بقاعاتنا الوطنية؟
“بيع الموت” (2011) هو ثالث فيلم روائي طويل للمخرج والممثل والسيناريست فوزي بن السعيدي بعد “ألف شهر” (2003) و”يا له من عالم رائع!” (2006) فضلا عن ثلاث أفلام قصيرة عند بداية مشواره السينمائي. وشارك كممثل أو سيناريست أو مساعدا في الإخراج بعدد من الأفلام المغربية والأجنبية فضلا عن مسرحيات كثيرة التي أخرجها وكتبها ومثل فيها.
وكان فيلم “بيع الموت” قد ترشح لجوائز الأوسكار في السنة الماضية ممثلا للمغرب. وقبل توزيعه تجاريا في المغرب كان قد شارك في مهرجانات سينمائية عدة داخل البلاد وخارجها، ونال من بعضها جوائزها الكبرى، حيث في حوزته لحد الآن 10 جوائز منها الجائزة الكبرى لمهرجان سينما أقطار البحر المتوسط بمدينة تطوان وهي المدينة التي صور فيها فيلمه هذا “بيع الموت”.
الكتابة بالسينما للسينما
تتميز أفلام فوزي بن السعيدي بأنها لا تحكي حكايات وتروي قصصا بشكلها التقليدي الخطي المسترسل بل يمكن القول أن أفلامه ليست بها قصة واحدة بل قصص كثيرة تتداخل وتتشابك وتتقاطع في ما بينها كما يمكنها أن تتنافر أيضا بجمالية استثنائية من خلال شخصياتها وأمكنتها وأضوائها وديكوراتها كما في الحياة اليومية الملموسة بكل تعقيدات الحياة وتناقضاتها فيُشكل بها نوعا من الموزاييك المتعدد الأفكار والألوان لكن في تناسق منطقي يجعلك مشدودا عند الشاشة وتتفاعل معها وكأنك واحدا من شخصياتها. ولذلك فأفلام فوزي بن السعيدي لا تقوم بتنويم المشاهد أو تركه مريحا على الكرسي يتابع “الأحداث” تمر “سلسة” أمامه بقدر ما تريده أن يكون يقظا، متفاعلا، حريصا على الانتباه للتفاصيل السينمائية ما دامت “القصة” هي جزء من الفيلم وليس الفيلم في جزئياته المتعددة والمتنوعة لكونه يشتغل على السينما بالسينما أي بلغتها الأصلية والأصيلة كما يمارسها كبار السينما وعباقرتها. فكيف ذلك؟
يفتتح الفيلم عن شخصية مالك (فهد بنشمسي) في لقطة متوسطة وهو يدير بظهره إلى جدار (حائط) وينظر بمواجهة إلينا لكنه إلى شيء ما غيرنا ـ نحن الجمهور ـ وهو ينفث سيجارته التي سيمررها إلى شخصية أخرى بجانبه التي سنتعرف عليها بدورها وهو سفيان (فؤاد لبيض) الذي يواجهنا هو أيضا وينظر إلى نفس اتجاه صديقه مالك ليدخل في الإطار شخص آخر وهو رجل مسن بلحيته ومتواضع في هندامه. يلتفت إليهما الرجل قبل أن يقف بعيدا عنهما متوجها بنظره هو أيضا إلى نفس الاتجاه لنكتشف بفضله باب السجن الذي يخرج منه شاب ثالث علال (محسن مالزي) الذي سيعانق الرجل ليذهب الشابين في اتجاههما وينزعان منه محفظتين اللتين يحملهما معه وينسحبان إلى عمق الإطار وكأنهما يعلنان حقهما عليه. خلال ثانية قصيرة جدا يتردد فيها علال قبل أن يتم قطع هذا المشهد لنتابع الثلاثة فرحين ومسرورين بإطلاق سراح صديقهما وهم يخترقون جميعهم الشوارع والأزقة بشغب السعادة وهو ما يعبر على الصلة الوثيقة التي تجمعهم.

فهذا هو الأسلوب السينمائي الذي سيكتب به فوزي بن السعيدي فيلمه طيلة مدة العرض حيث يظهر جليا أنه يكتب السيناريو وهو يعلم ماذا سيصور؟ وكيف سيصوره؟ مشاهد غنية لما تتضمنه من حيثيات سينمائية كثيرة دون أن يتعسف عليها بالتقطيع المستمر والمتكرر. فهو خلال تلك الكتابة يكون يكتب المونتاج أيضا الذي تتضمنه المشاهد دون اللجوء إليه خلال عملية تنفيذه، وبذلك يتجاوز كما قلنا قبل قليل كثرة التقطيع للقطات تاركا للكاميرا أن تكتبها متتالية بسلاسة وكأنها فعلا تمت بذلك الشكل وهو التوهيم الذي يتطلب الذكاء السينمائي لتحقيقه في خط متتابع. ولتحقيق ذلك التسلسل في اللقطات ضمن مشاهد كاملة يعنى أن مدير التصوير متواطئ كليا مع إخراج فوزي بن السعيدي ومنغمسا فيه خاصة وأن هذا الاختيار الفني في التصوير يتطلب عملا إضافيا لمدير التصوير بالاجتهاد في ضبط الإضاءة على مختلف الشخصيات والمجال الذي يتحركون فيه.
وهذا النموذج الذي قدمته في البدء هم الذي سنتابع به الفيلم إلى نهايته. وقد اعتمد في هذه الكتابة على كاميرا ثابتة أحيانا وفي فترات أخرى محملة وفي أحيان أخرى يلتجئ طبعا إلى ما يسمى ب “ترافلينغ” حتى لا يجزئ مشاهده بالتقطيع المتكرر مع أنه يريد أن يثبت لنا بكون شخصياته ملتحمة في نفس الإطار. إنه اختار إذن الأسلوب الذي يتجاوز كسر إيقاع بعض المشاهد القوية وفي ذات الوقت أن يبقى المُشاهد بدوره في أجواء الفيلم. وهذا الأسلوب استعمله المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي في كثير من أفلامه موظفا “ستاديكام” (steadicam) وهو عمل مضن حقا في الإنجاز.
وبنفس القيمة الفنية التي يعطيها بن السعيدي للسيناريو وللإخراج والتصوير والإضاءة نجدها أيضا في اختيار الممثلين (الكاستينغ) لأداء أدوار فيلمه إذ لكل شخصية عناصرها الخاصة بها سواء في شكل النطق بالحوار الذي ينبغي أن يتماشى مع هيئته الجسمية وأشكال حركاته ونفسيته وموقعها في السيناريو وهو ما يتفوق فيه كثيرا فوزي بن السعيدي بإدارته لممثليه ولإدارة نفسه أيضا كممثل داخل الفيلم في علاقة مع الآخرين. فشخصية علال تشبه كثيرا والده، ومالك يشبه في كثير من الحروف مع أخته عواطف (نزهة رحيل). كلهم كانوا في مستوى احترافي كبير كأفراد ـ كل واحد في إطار دوره ـ أو كمجموعة متجانسة ومتكاملة لصنع أحداث الفيلم بدون خلل في النوتة الموسيقية المطلوبة في المكان المحدد وفي زمن معين.
وطبعا يعطي فوزي بن السعيدي أهمية قصوى للمجال الذي سيصور فيه فهو ليس مجرد ديكور لتأثيث الصور بقدر ما للفضاء المُصور دلالة أو دلالات سينمائية وهو ما يمكن إثباته في فيلم “بيع الموت” بالملموس إذا انتبه إليها المُشاهد أثناء تتبعه له.
الذكاء السينمائي للاستمتاع بالفرجة
تتذكرون بأن الفيلم يبدأ بمالك وهو يدير بظهره للجدار ويختتمه وهو فوق جدار مقلوب، فمنه بدأ الفيلم (من مالك) وعنده ينتهي لتنتهي دائرة “قصة” أو “قصص” الشباب الثلاث التي سنعيشها معهم خلال ساعتين. وسينتهي الفيلم في المكان الذي تعرف فيه على الفتاة دنيا (إيمان المشرفي) لتنتهي أيضا “قصة حب”، ربما وهمية، مثلما بدأت بدون ماض حيث جاءت بالصدفة وانتهت بدون مستقبل بحصول الخيانة كما خان هو نفسه أصدقاءه. هذه النهاية ـ غير السعيدة للشباب ـ هي نهاية شكسبيرية بامتياز. إن المجال (تجاوزا ديكورات المدينة) في الفيلم شكل بدوره شخصية رئيسية ويحدد تحرك الشخصيات داخله. لقد تعرف مالك على دنيا بجانب سور وكأن ذلك السور بمثابة كونتوار الحانة وبذلك هيئنا لاكتشاف حياة الفتاة دنيا التي تشتغل في أحد الملاهي. فعوض أن يتساهل المخرج في الإخراج بوضعهما في حانة الملهى الحقيقي فإنه خلق الهامش في فضاء المدينة نفسها لكن التشخيص على طريقة الحانة. والفتاة دنيا التي كانت سارحة في أفق تحده جبال قريبة. ومن تلك اللحظة تصبح “دُنيا” بالنسبة لمالك “الدُنيا” نفسها، هي الكل في الكل، هي مبتدأه وخبره. وهو انعكاس لإسمه “مالك” كالملاك تُجاهها وتُجاه أخته عواطف (نزهة رحيل). وإذا بقينا في اختيار الأسماء فإن “سفيان” هو إحالة إسلامية الذي وجد ضالته في الجماعة الإسلامية. بينما علال هو القائد الغائب الذي يختفي ويعود.

وما دام المخرج قد اختار ان يتحدث عن المهمشين من الشباب في المجتمع فقد اختار مجالا مهمشا أيضا وهي مدينة تطوان، مدينة مهمشة في الواقع، إذ يصعب الوصول إليها برا وبحرا وجوا نظرا لموقعها بين الجبال وهي في حد ذاتها ـ المدينة نفسها ـ موجودة مُعلقة في الجبل ولكن أيضا في الوادي وكأنها موجودة في حفرة كما يصعب الخروج منها أيضا لذا رغبة وطموح الشباب ـ خاصة علال ـ هو الخروج من هذه الحفرة وهو ما ردده كثيرا في حواراته مُعبرا على اختناقه فيها، مدينة مُحاصرة طبيعيا بالجبال واجتماعيا بالفقر والتهميش. إن متنفس المدينة يوجد في المدن الصغيرة الساحلية القريبة منها (مارتيل 10 كلم ـ المضيق 20 كلم) ففي الشاطئ نشاهدهم مرحين أو يمارسون نزواتهم. تائهين بين الملل والفراغ بفراغ الشاطئ. الإحالة لواقع المدينة كانت واضحة في المشهد الذي تمت فيه عملية سرقة محفظة إحدى الفتيات من وسط المدينة حيث هرب الثلاثة خارجها. وفوق هضبة نشاهد علال الذي يقسم “الغنيمة” وفي ذات الوقت يُوزع المهام على صديقيْه وهو يتحدث عن ضرورة القيام بعملية سرقة كبيرة ومهمة عوض السرقات الصغيرة التي فيها مخاطر دون أن تستحقها. في نفس الوقت يتحدث عن ضرورة الخروج من هذه الحفرة فنشاهد مالك ممددا داخل حفرة فعلية. لكن أهمية المشهد تكمن في ما دار من حوار ووجود في خلفيتهم ـ عُمق الصورة/المجال ـ مدينة تطوان وكأنها في حُفرة وبذلك نكون دائما ضمن الكتابة السينمائية للمخرج التي تطرقنا إليها في البداية. إحالة الحفرة إلى المدينة نفسها دون أن يقوم بشرح المشهد والتفصيل فيه معتمدا على ذكاء المشاهد في ربط العناصر السينمائية في ما بينها لأنها مكتوبة بلغة سينمائية محضة.
بعد الاستقبال الذي حظي به علال عند خروجه من السجن حيث كان الاحتفال به في نفس الليلة بإحدى الحانات الشعبية التي قام فيها الأصدقاء الثلاثة بتفريغ النبيذ من زجاجاتها في زجاجات كوكاكولا حتى يتمكنوا من شربها في الشارع فغنى هذا المشهد يكمن في توجيه نقد خفي للنفاق القانوني المغربي بحيث توجد الحانات ويمكن للمواطنين الشرب فيها بدون مشكل لكن قد يتعرضون للاعتقال مباشرة بعد خروجهم منها. كما يسمح ببيع الكحول في بعض الدكاكين والسوبر ماركت لكن يمكن للمشتري أن يتعرض للاعتقال أو للابتزاز ببابها. وفي المغرب معامل ضخمة لصنع الكحول وترويجها بالشاحنات ونقلها في مختلف المدن ثم توزيعها كل صباح علنية لكن المواطن الفرد معرض للاعتقال والسجن. فالدولة تعلم جيدا بالدور الاقتصادي لمعامل الكحول والحانات والدكاكين في ترويجها ودورها في السياحة أيضا التي يعتمد عليها المغرب لكنها تستحضر قانونها في حق المواطن الفرد.
سنتعرف على الشخصيات الشباب الثلاث بعد سهرتهم إلى ساعة متأخرة من الليل حيث يعيدهم المخرج إلى حيهم الذي يبدو غارقا في الظلام، نكاد بالكاد رؤية ملامح المنازل. ويذهب كل واحد إلى سبيله فنعرف أن علال يعيش مع والده وحيدا والمُدمن بدوره. أما مالك فيجد في باب المنزل رجلا يوبخه عن التأخير وسنعرف في اليوم الموالي أن ذلك الرجل هو عمه وزوج أمه كما سنتعرف على باقي أفراد الأسرة، أمه وأخته عواطف التي تشتغل في معمل. وسنكتشف في ما بعد العلاقة الوطيدة بينهما والتعاطف المتبادل بينهما. فيما يقطن سفيان في دار اليتامى وهو مستنقع حقيقي بفوضويته. وحين كان سفيان يصعد السلالم مر عبر مجموعة من الأطفال الجالسين عليه في شكل دائرة حول أحدهم وهو يتحدث إليهم حول الإسلام (تذكروا جيدا هذا المشهد الذي هو إشارة هامة في تركيب شخصية سفيان خاصة إذا اضفنا إليه كون له علاقة عاطفية مع تلميذة محجبة وكأن المخرج يهيئنا لقبول التغيير الذي سيعيشه سفيان عند استقطابه من لدن الجماعة الإسلامية واعتقاده بقتل يهودي أو نصراني سيدخل بالضرورة الجنة)
بن السعيدي “شكسبير” السينما المغربية
جميع عناصر الدراما الذكية موجودة في الفيلم بدون المبالغة فيها أو تزييفها على حساب الكتابة الفيلمية التي أسسها المخرج. فكانت صادقة. لقد وجدت الشخصيات نفسها محاطة بآفاق مسدودة يبدو من الصعب تخطيها أو القفز عليها حيث يشكل مجال المدينة جزء أساسي منه حيث ضاعف المخرج من حدته الدراماتوجية باختيار فصل الشتاء الذي يغيب فيه الضوء الساطع بضوء رمادي تحت سماء مثقلة بالسُّحُب فتزيد في الضغط على نفسية شخصياته المشتعلة غضبا رغم برودة الطقس ليلعب جيدا على هذه التناقضات بين الطبيعة البيئية والطبيعة النفسية. وما أثارني حقا في هذا الفيلم أنه لم يلتجئ المخرج إلى تلك المشاهد الكلاسيكية بإنزال المطر مع موسيقى حزينة لإبراز قسوة الجو بل كان هذا الإحساس موجودا بدون قطرة واحدة من المطر. وبذلك تجاوز فوزي بن السعيدي تلك الصورة النمطية في صنع الدراما المفتعلة إلى الإبداع فيها بصور جميلة وشخصيات تقنعنا ببرودة الطقس كبرودة العلاقات الإنسانية التي تسربت إلى الأصدقاء الثلاثة ونحن المشاهدون ننتظر أن تسفر عن مفاجئات ستحصل بالتأكيد دون أن يبوح بها لنا المخرج بشكل مباشر.
تخلخلت العلاقات بين الأصدقاء التي وقع فيها شرخ بيِّن ولم تعد كما كانت في بداية الفيلم بسبب تدخل عناصر جديدة لتختلف بعد ذلك أهداف كل واحد منهم إلى حد لم تعد الثقة بينهم ورغم ذلك يلتقون لمواجهة مصير واحد.

يهرب علال من جديد إلى الجبل عند جده ليختفي من أنظار البوليس الذي يقوم بحملة جديدة ضد تجار المخدرات والمهربين لأنه عادة ما يتم اعتقال صغارهم لتغطية على الكبار بينما مالك مشغول ب”دُنياه” التي سقط بسببها للحفاظ عليها في فخ البوليس حيث تحول إلى مُخبر رغما عنه. بينما سفيان سيعيش لحظة تراجيدية في حياته ستحوله إلى شخص آخر مختلف تماما. فقد قرر سفيان بتواطؤ مع صديقته التلميذة المُحجبة أن يسرق حقيبة تلميذة ميسورة عند وصولها إلى باب المدرسة بعدما تنزل من السيارة التي تقلها. إلا أن سوء حظه التعيس هو أن التلاميذ تمكنوا من القبض عليه وأعادوه عند التلميذة التي سرقها ليعتذر لها في إهانة واضحة أمام ذلك العدد الكبير من التلاميذ ثم حملوه إلى غابة خارج المدينة لينجزوا في حقه حكمهم بعد أن علقوه عند شجرة وهم يرقصون حوله فرحين بإنجازهم ويشربون الجعة. فأهمية هذا المشهد تكمن في نقده لفئة المستقبل من المتعلمين الذين يمارسون ساديتهم في حق لص صغير. مستقبل يخيف بما سينتجه هذا الجيل من عنف خطير. وقد صور المخرج أولئك التلاميذ من زوايا مختلفة لتبيان ضخامة عددهم كمظاهرة عنيفة ضد شخص واحد أعزل. تمكنت جماعة من الإسلاميين من إنقاذه من موت محقق ليجد سفيان نفسه مُحاطا برعاية حيث نراه في غرفة له وحده (مقارنة مع الازدحام في غرفة دار اليتامى) ورجل مُسن يعتني به ويداوي له جراحه فيحس بالأبوة التي لا يعرفها. ويستمع للدروس الدينية وهو في حالة نفسية التي جعلته يدخل في هذا العالم الجديد الذي وجد فيه العناية والراحة. لكنه لا يدري عمق الأشياء والطريق الذي قد يسلكه بدون وعي منه وهو ما نبهه إليه أصدقاءه لكن أسلوبهم التهكمي منه ومن أقواله لم يفده بقدر ما تشبث أكثر بما وجد فيه راحته هو الذي كان بدون “هوية”. واستحضر المخرج طاقته الإبداعية كاستمرار للتساؤلات التي كان يطرحها أصدقاءه عليه بكونه لا يفقه شيئا في ما يقوله وأن ذلك كبير عليه وانه يلعب بالنار فجاء المشهد الذي نرى فيه سفيان عاريا كليا كما ولدته أمه وهو يحوم حول نار أكبر منه حجما، يلعب معها وبها وهو عار وحده بدون دعم يواجه النار التي قد يحترق بها. وفي المقابل نسمع خليط من الموسيقى تجمع يصعب تمييز انتماؤها، تجمع بين الآلات العصرية والتقليدية. غياب الوضوح التام عند هذا الشاب.
هوامش الهوامش
وإلى جانب “قصص” الشباب الثلاث، هناك كثير من الهوامش التي تخرج من شخصيات الشباب أو تتناسل منها أو تنتجها خلال صيرورة الفيلم مع تصاعد الأحداث والتي أشرنا إلى بعضها أعلاه. لأن كنه الفيلم كله يعتمد على الهوامش الرئيسية والثانوية المتفرعة منها. إن شخصية البوليسي التي يؤديها المخرج نفسه (فوزي بن السعيدي) هي شخصية هامشية في الفيلم، وعلى هامش القصص الرئيسية لأن الفيلم ليس بوليسيا كما يعتقد البعض بل هو اجتماعي تراجيدي وشخصية البوليسي تعاني بدورها من التهميش وقد تعرفنا على مكتبه البئيس والمظلم الذي يؤكد على هامشيته في الإدارة وفي التراتبية الإدارية لهذا السبب يبحث عن قضية كبيرة تُخرجه من ذلك الهامش.
كما أن نساء الفيلم كلهن مهمشات بدون استثناء بدءا ب”دنيا” التي هي على هامش المجتمع وغريبة عن المدينة مرورا ب”عواطف” التي انتحرت عندما فقدت كل شيء وهي الشابة المتعلمة وصولا عند أم مالك القابعة بالمنزل ولم نرها خارجه.
نقطة أخرى أساسية في الفيلم والتي لا يمكن إغفالها هو عدم استعمال المخرج للقطات الكبيرة والكبيرة جدا إلا في مشهد واحد الذي يجمع مالك بصديقته دنيا خلال اللقاء الحميمي بينهما في غرفة الفندق بينما اعتمد في غالب الأحيان على اللقطات البانورامية والأمريكية لإثبات مكانة الشخصيات المهمشة في مجالها الواسع لكنه ضيق ومُحاصر يخنق الأنفاس والآمال.
يتوفر فيلم “بيع الموت” على عناصر كثيرة للقراءة التي لم نتوقف عندها ولم نشر إليها بسبب ضيق المساحة.