رحيل توفيق صالح : من ذكريات طالب مع أستاذه

حوار مع أحمد محفوظ يتحدث عن توفيق صالح الأستاذ والإنسان

الوثائقية – خاص

“أستاذي و من علمني و ساندني في كل مراحل حياتي المهنية حتى مرضه قريبا توفيق صالح……. من علمني أن الصورة رأي و أن الفن موقف وأن العمل الفني مسؤولية. لن أودعك لأنك كما كنت لي دوما حاضرا معي بما علمتني سيبقى كلامك و علمك باقيا معي حاضرا بعملي و حياتي …رحمك الله و غفر لك …. سأفتقدك يا أستاذي..”
بهذه العبارة أبّن المخرج أحمد محفوظ مدير الجزيرة الوثائقية أستاذه توفيق صالح الذي وافه الأجل  يوم 18 أغسطس 2013 في القاهرة. وفي هذا الحوار سيتحدث محفوظ عن بعض ذكرياته مع المرحوم توفيق صالح الأستاذ والإنسان

•  أستاذ أحمد باعتبارك أحد طلاب أو تلامذة السينمائي المصري المرحوم توفيق صالح بل وأحد أصدقائه ايضا، لو تحدثنا أولا عن توفيق صالح الإنسان؟
 لعل أول ملمح أتذكره مع توفيق صالح هو أول مرة أراه فيها، وكان حينها مسؤول لجنة اختيار الطلاب الذين سيلتحقون بالمعهد العالي للسينما خلال السنة الدراسية 1990 وأنا كنت في ذلك الوقت أدرس القانون في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، وعلاقتي بالسينما لم تكن عميقة كصانع أفلام، خلال لقائي بتوفيق صالح الأول لم أكن أعرف من هو توفيق صالح، كاسم وعلم من أعلام السينما لم أكن أعرفه، وهو كان كذلك ربما لكثير من الناس حتى وفاته، فهو لم يكن معروفا ولم تُسلط عليه الأضواء، المشهد الأول للقاء كان في قاعة الاختبارات بالمعهد العالي للسينما أين كان سيتم اختيار ثمانية طلاب من بين عدد كبير من الطلاب ليكونوا طلاب معهد السينما، وكنت أسمع أنه لابد لطلاب معهد السينما من “الوساطة” للالتحاق بالمعهد، وهذا كان أمرا حقيقيا وواردا جدا في أماكن وأوقات كثيرة، لكن أول شيء لفت نظري أن هذا الرجل صاحب الشعر الأبيض قصير القامة والهادئ الذي يتكلم بحساب وأسئلته كالسوط والذي سيكون المسؤول عن تلك الدفعة من الطلاب مثلما يجري الأمر عادة بتسمية الدفعة باسم فنان كبير لا يقبل الوساطة، وقد كان من حظي أن تلك الدفعة كانت ستُسمى باسم توفيق صالح وسيتابعها من بدايتها حتى تخرجها، وأنا طبعا كنت قد كلمت أستاذي وأخي الأكبر المخرج محمد النجار ليتوسط لي بشكل أو بآخر ولكني وجدت أن هذا الرجل لا يمكن أن يقبل بالوساطة لأنه كان صارما جدا وحاسما جدا، لقد كان حاسما بأبوّة وحازما بأستاذية، لم يكن شخصا يستعرض عضلاته على الطلاب “الغلابة” الذين يريدون دخول المعهد لأنه كان حازما علميا، وكان يسأل أسئلة لغرض المساعدة على الوصول إلى الحقيقة، وكان هذا سمته طوال الفترة التي درست فيها معه.

توفيق صالح

وأتذكر السؤال الأول لأنه كان اللقطة الأولى، فبعد تعارف اللجنة مع الطلاب، وكانت لجنة كبيرة فيها الأستاذ علي بدرخان والمرحوم مدكور ثابت وغيرهما، جاء السؤال الأول وهو لماذا تريد الالتحاق بمعهد السينما أو لماذا تريد أن تكون سينمائيا فأجبت بأني أحب السينما بل أعشقها وكل يوم خميس أذهب للسينما، فسألوني عن علاقتي بالسينما ولماذا أريد أن أكون صانعا للسينما فقلت كلاما إنشائيا وليس علميا وكان يظهر أن توفيق صالح لم يكن يرضى بهذا الكلام، علما بأنه عندما يرضى لم يكن يُظهر رضاه، ثم سألني بعد ذلك عمن أحب من السينمائيين والمخرجين فقلت له صلاح أبو سيف وعاطف الطيب وهنا جاء السؤال الذي وقفت فيه كالخشبة: ما الفرق بين صلاح أبو سيف وعاطف الطيب؟ وهذا أول سؤال وجهه توفيق صالح لي لكنني لم أرد عليه فبقي فترة ينتظر ردي فلم أجبه فقال لي اجلس فجلست في ورشة القبول تلك لمدة يومين أو ثلاثة لا أتكلم، وهي ورشة حضرها كل المترشحين للمعهد وامتدت على مدى 15 يوما نتلقى أسئلة عن كل شيء عن السياسة والدين والاقتصاد والفنون والثقافة العامة إضافة إلى بعض التدريبات العملية مثل الإخراج المسرحي والإخراج بالكاميرات والتصوير الفوتوغرافي، ثم جاءني سؤال آخر وكان عن فيلم قديم جدا وكان يجب أن أشاهده لأول مرة وأكتب عنه تحليلا وكان السؤال هو التالي: إذا أردت أن تخرج مشهدا يعترف فيه البطل إلى حبيبته أنه يحبها فأين ستُخرجه في هذا الوقت؟ وفي تلك اللحظة قررت أن أقول إجابتي كما هي بعد يومين من الصمت فطلبت الكلمة من صاحب السؤال وهو علي بدرخان وقلت له إنني أرى أن المشهد يكون في الملاهي وعند لعبة صيد السمك والبطلة لم تتمكن من الصيد والبطل يحاول تعليمها ويمسك الصنارة معها ويده تلمس يدها ثم ينظران إلى بعض ويبتسمان فتلتقط الصنارة سمكة، وهذا المشهد كان سينمائيا لأنه لم يعتمد على الكلام وفيه لغة بصرية ما، ومن تلك اللحظة بدأ الاهتمام بي من قبل الأساتذة الحاضرين وبدأوا يسألونني عن اسمي ومنذ تلك اللحظة أيضا بدأت علاقتي بتوفيق صالح الأستاذ، ثم دخلت معهد السينما وبدأت مع توفيق صالح رحلة الأستاذية.

•  واضح من خلال دقة تفاصيل الأسئلة والإجابات التي تحدثت عنها أن هذا الرجل له مكانة خاصة في حياتك فهل تفصل لي معاني هذه المكانة معرفيا وبشريا؟
كان هناك دائما إحساس عند الناس أن السينما هي مجرد فن للترفيه والتسلية المجانية بل والرخيصة، هذا الأمر موجود ولا يمكن إنكاره فالسينما فيها جانب تجاري ولكن ما بدأ توفيق صالح بتعليمه لناجسد لي ما كنت أتصوره بأن الفن له وظيفة أخرى، أو أهمية أخرى في حياتنا، وهنا تكمن أهمية توفيق صالح بالنسبة لي من أول لحظة رأيته فيها. الأمر الأول رأيت ودرست وحللت كل أفلامه لقطة لقطة ولم أجد فيها مشهدا مُسفا واحدا، ولم أجد فيها مشهدا يلعب على الغريزة فقط وبشكل مجاني فالأمور كلها كانت ذات علاقة باحترام آدمية من يشاهد، الأمر الثاني هو مبدأ لم يحد عنه وهو أن تكون متسقا مع أفكارك، هذا الرجل كان له فكر وأنا اختلفت معه في بعض الأفكار وهو أمر طبيعي جدا ولكني احترمت اتساقه مع ذاته طول الوقت. الأمر الثالث أنه كان منحازا لقضايا الإنسان سواء في مصر أو في الأمة، ففي كل أفلامه لا بد أن تجد رسالة وقضية يناقشها وعندما تشاهد فيلم “المخدوعون” عن قصة “رجال تحت الشمس” لغسان كنفاني ترى كيف يحول النص الأدبي المليء بالصور والدراما إلى صورة سينمائية بلغة أخرى تحافظ على روح النص لكنه في الوقت نفسه يملك حرية شديدة في التناول البصري وهذا الأمر كان يقع سنوات السبعين من القرن الماضي عندما صنع الفيلم في سوريا، وقد حظرت معه أكثر من مرة في لقاءات عامة وكان يحكي عن المعاناة التي لقيها حتى ينتج هذا الفيلم في مصر وبعده معاناة أخرى حتى ينتجه في سوريا، وكان يحكي مثلا أن الرجل الذي يدفع العربة التي تحمل الكاميراة لتتابع حرة الممثلين لم يكن موجودا ولا أحد يحسن استعمال تلك التقنية في سوريا في ذلك الوقت، وكل هذا الإصرار والبلاغة السينمائية أثر في وفي مستقبلي.

•  هل كان توفيق صالح مصنّفا إيديولوجيا؟
نعم لقد كان رجلا اشتراكيا بشكل واضح حتى في أفلامه وهذا كان منبع احترامي له لأنه برغم اختلافي معه لم يجبرني ولا أي واحد من تلامذته على أن نأخذ من فكره أن ننهل من منهجه ولم يتحدث مرة واحدة عن النظم الاشتراكية أو الفكر الاشتراكي وهذا كان مجال احترامي له، لكن كان هناك بعض الأساتذة يحاولون التأثير في الطلبة أو توجيه رأيهم بحكم سطوة الأستاذ على الطالب لكن توفيق صالح في الحقيقة لم يفعل ذلك أبدا ولم يكن يجبرنا على اتخاذ آراء معينة، وهذا كان علامة فارقة في تاريخي معه باعتباري طالبا لديه.

•  هل يمكن أن تحدثنا عن علاقتك الشخصية معه لأن هذا الأمر سيظهر للقارئ ملامح توفيق صالح؟
عندما بدأت الدراسة مع الأستاذ توفيق صالح من ضمن الأمور التي لا أنساها أنه كان يجلس معنا في المعهد فترات طويلة جدا من غير فترات الدراسة، هو كان يقول بأنه لا ضرورة لإجازة نصف السنة الدراسية لأننا كنا نقضيها في التدريب العملي معه وكان يفتح المعهد لدفعته فقط ونذهب إلى المعهد يوميا عن طيب خاطر لأننا كنا ننهل من علمه، وفي السينما علاقة “المعلم” بـ”الصبي” مهمة جدا لأنه كلما احتك الطالب بالأستاذ كلما كانت الاستفادة أكبر ليس في المعلومة بل في الخبرة، كان يقدم لنا 40 أو 50 عاما من الخبرة في كبسولات يومية أثناء الدرس. ورغم ذلك لم يكن التدريس بمعهد السينما مجزيا ماديا له وأنا أعرف ذلك تماما، وهو كان كذلك طول حياته فهو كان عفيفا فلم يكن في نفس الوقت وحسب ما أعرف عنه غنيا غناءَ فاحشا، لقد كان عالم سينما وفيه سمت العلماء
أتذكر أنني كنت أتعمد الانتظار حتى ينتهي من التريس فأقف قريبا من سيارته وأسلم عليه لينقلني معه في السيارة إلى الجيزة ثم أستقل حافلة إلى سكني في مصر القديمة، وقد كانت فترة العشر دقائق التي كانت معه في السيارة مثل الدرس المكثف.

• أيهما كان يغلّب التعليم النظري أم التدريب التطبيقي؟
التدريب التطبيقي.

•  قلت إن توفيق صالح كان “عالم سينما” والعالم عادة يهتم بالنظرية فكيف يكون مهتما بالتطبيق؟
عندما أقول عالم وسينما فإننا هنا ربطنا بين الأمرين بين فكرة العلم والتطبيق في السينما وهذا هو توفيق صالح، فهو مُقل وعنده سبعة أفلام فقط وعنده سيناريو آخر يمكن أن نتحدث عنه لأنه أثر في شخصيا بشكل كبير جدا، الشاهد من المسألة أنني كنت تلميذا في رحاب أستاذي توفيق صالح ولا أعرف سبب هذا الأمر إلى حد الآن. وقد كتبت في رثائه أنه علمني أن الصورة فكرة وأن الفن قيمة وأن العمل الفني مسؤولية، ففي كل لقطة يجب أن نعرف ماذا يصل منها للمشاهد.

•  هل كانت لتوفيق صالح مشاركات سياسية؟ قلت إنه اشتراكي فكيف كان يجسد ذلك ليس في السينما بل في حياته العامة وفي مواقفه؟ وهل كانت له انخراطات في الأحزاب مثلا؟
لم أعرف عنه في حدود معلوماتي وعلاقته به في الفترة التي احتككت به فيها، وكنت حتى نهاية حياته على اتصال به، أنه انخرط في أحزاب سياسية أو كان له نشاط سياسي ولكني أعرف جيدا أنه نشيطا جدا سينمائيا فقد كان عضوا في عدة لجان منها اللجنة العليا للمهرجانات وكان عضوا في لجان تحكيم كثيرة وكان عضوا في لجنة اختيارات الأفلام وكُرم في أكثر من مكان، فضلا عن نشاطه في معهد السينما، بل لقد كان يعمل في بيته حيث كنا نذهب إلى هناك لنتابع الدراسة معه، كما كنا نجتمعه معه ومع أسرته في لقاءات اجتماعية، وفي كل ذلك كان يعلن لنا كتلاميذ أو في النقاشات العامة عن مواقفه من بعض الأنظمة ولكن لم يكن له نشاط سياسي حزبي مع أنه كان يبدي آراءه في الأحداث دائما.

• ماذا تتذكر أيضا عن الرجل؟
أتذكر موقفا يدلل على أنه متسقا مع أفكاره، طُلب مني بحث خلال السنة الثانية بمعهد السينما فأعددت بحثا بعنوان مبدئي وذهبت إلى توفيق صالح في السيارة كما أسلفت وقد كان البحث عنوانه “العلاقة بين الرؤية الفكرية والقواعد التكنيكية عند المخرج” مع التطبيق على حركة المجاميع في أفلام توفيق صالح فسألني عن المحاور وعندما حدثته عنها قال إن هذا البحث هو رسالة ماجستير، وقد أثبت له من هو المخرج الذي أعنيه وهو ليس مخرج التقنيات فقط بل مخرج صاحب رؤية وإيديولوجيا وهنا أقصد توفيق صالح لأنه صاحب رؤية اشتراكية، أما القاعدة التقنية فمعروفة وقد شرحتها وطبقت ذلك على تقنية واحدة للمخرج هي حركة المجاميع أو جموع الناس لأنها كانت في أفلام توفيق صالح تعبر عن فكر اشتراكي، لقد كانت المجاميع بطلا في كل أفلام توفيق صالح، كانت هذه “اللقطة” كما أسميها مؤثرة جدا في علاقتي بهذا الرجل، وإن من ضمن الأمور التي تعلمتها منه أن تكون متسقا مع نفسك وأفكارك وهذا سيجعل الناس حتى لو اختلفوا معك يحترمونك.

•  وأخيرا ماذا بقي من توفيق صالح؟
أنا أظن أن أفضل شيء قدمه توفيق صالح للإنسانية وللمجتمع المصري تحديدا هي أفلامه، وهي أفلام ستبقى لأنها مصدر للحياة فكل فيلم يصلح أن تراه في كل وقت، هو تأثيره في بعض صانعي السينما، لا يهم أن يكونوا امتدادا له ولكن على الأقل أن يحملوا قيمه في احترام ذواتهم واحترام المشاهدين واحترام هذه الصناعة والفن الراقي الجميل وهو السينما، أظن أن هذه ستبقى أكبر منتجات توفيق صالح، وقد قلت له مرة في بيته سأبقى بعد الله سبحانه وتعالى وبعد والدي مدينا لك بكثير مما أفهمه الآن سواء في رؤيتي للفن أو في عملي في الفن وفي إدارة الفن وسيبقى فيّ جزء كبير من القيم الحاكمة وما يسمى بالسياق الفكري العام وجزء كبير منه سيبقى متأثرا بهذا الرجل، وهذا ما تبقى منه.


إعلان