نظرة أولية… السينما “الجديدة”
مفهوم “الجدة” الذي كان يُطرح مراراً، مُسبَغاً بأشكال متنوعة على كل فروع الإنتاج الفني العربي سابقاً، كان يَطرح معه في كل مرة أسئلته المرافقة المشككة في هذه الجدة، أسئلة تترافق بالضرورة مع كل ما هوَ جديد أو “ما يُدّعى” أنه جديد.
هكذا إذاً في المسرح والسينما وغيرهما من الفنون كما في “كل شيء” آخر، كان لا بد من “الجديد”، لأنه هو الدلالة على أن الأمور تسير في طريقها الصحيح و”الطبيعي”.
هناك الجديد الذي كان يناضِلُ المجتمعُ بحركة تطوره الطبيعية “لإبداعه”. جديدٌ لا يُسمى. غير مدرَك في كثير من الأحيان، ليس له حاضنة، استمراريته رهن احتمالات مجهولة. وهناك الجديد “المضاد”، العلني غالباً، والمشار إليه بالإصبع على أنه “الجديد” وغالباً “الشبابي” أيضاً، إنه الجديد “النظامي” والقصدي. في كثير من الأحيان يولد بقرار بعيدٍ عن نية “مبدعيه”.
تَمَثَّل الصراع السياسي والاجتماعي في ظل الاستبداد، بالصراع الخفي بين “الجديدين” المشار إليهما، وهوَ ما كانت الغلبة فيه على الدوام للجديد الثاني على الأقل من ناحية تسيده “الظاهر” عل المشهد العام.
هو الصراع عينه –ربما- في كل مكان وزمان، في جدلية لا تنتهي تحكمها آليات السلطة الاجتماعية وتسيرها لصالح طرف على حساب الآخر. لكن تحت سلطة “الاستبداد” الصريح ،غالباً ما تتسم النتيجة التي تؤول إليها هذه اللعبة بالمأساوية ليس فقط لصالح هزيمة طرف من الطرفين، بل ولتغييبه أيضاً، لإزالته، لتصفيته. هذه التصفية في كثير من الأحيان لم تكن لتقتصر على قتل العمل الفني أو الإبداعي وما لذلك من أبعاد رمزية تعادل الإلغاء، بل لطالما تعدته إلى إزالة صاحبه بالمستوى المادي والمباشر، في حال كان ذلك ضرورياً لحسم نتيجة اللعبة المشار إليها، عندما تتقاطع مع مستويات أخطر في لعبة من نوع آخر.
نتذكر مبدعين على مدى عشرات السنين إما غُيّبوا هم، أو غُيب نتاجهم عن المجتمع ولا يحصرون بأسماء مثل غسان كنفاني وفواز الساجر وعمر أميرلاي وأسامة محمد ويوسف عبدلكي وناجي العلي وزياد الرحباني سابقاً…
كان هذا التغييب مقترناً بسياسة خاصة تطبَّق على الشباب بشكل خاص، الحامل الأساسي “لجِدَّة” المجتمع إذا جاز التعبير.
مع بزوغ الحراك العربي “الجديد” والاستثنائي جداً، قبل حوالي ثلاثة أعوام، مالت الكفة وتغير من ضمن ما تغير استفراد الجديد “النظامي” بالمشهد العام، لصالح “المجتمع” المغيب بأسره، وصار للجديد في وسائل التعبير معناه الملتصق بطبيعة المجتمع وحراكه أكثر من أي وقت مضى.
ما حصل أيضاً أنْ تفردت السينما التسجيلية من بين الأنواع الأخرى وبرز دورها في مقدمة النتاجات الفنية عموماً من هذه الزاوية، ظهر ذلك بشكل أساسي في “الحالة” السورية، حيث يأخذ الفيلم دوراً وظيفياً يساهم مساهمة لم تعد “محدودة”، في الدفع بالاتجاه السياسي المأمول مع وجود وسائل الاتصال والنشر الحديثة، ووجود المواد “الخام” المتوافرة بكثرة.
إزاحة الحجاب عن المجتمع لم تسبب فقط ظهورَ تجارب “جديدة” للأجيال الشابة اليوم بل أعادت إحياء “الجديد” القديم “المغيب” سابقاً، كأعمال أميرلاي وأسامة محمد على سبيل المثال لا الحصر.
التجارب الجديدة ستُطرح عليها الأسئلة الأصعب مع تهلهل الجديد “النظامي”، وانكشاف القائمين عليه بما يشبه “الفضيحة”، في كثير من المفاصل، مع ظهور –كما بدا- وعي جديد وذائقة جديدة.

لا ينطلق هذا الكلام من كونه توصيفيًّا تقريرياً، بل من كونه استقرائياً بالدرجة الأولى. “العملية” جارية الآن والتجارب لم تصل إلى خواتيمها. ولا نزال نتابع تجارب تتلمس طريقها، من كل الفئات العمرية، وبينها نرى: الجديد “بالصدفة”، والمصيب بالصدفة. ومن المخرجين الشباب على وجه الخصوص من أثبت (من جهة أخرى) في عدة تجارب اتساق خطه وأسلوبه بأشكال لم نعهدها من قبل. ومن الأفلام التسجيلية، التي تشكو من عوز الموهبة والرؤيا، ما يبدو ملتصقاً تعسُّفاً بمجريات المخاضات الواقعية العنيفة، لإسباغ المشروعية و”الجدة” عليه قسراً بشفاعة التقلبات المعاشة، واتكاءً على متلقٍ “عام” منحاز عاطفياً إلى “القضية العامة”. يدخل في كل ذلك وجود وتوفر تمويلات مرتبطة بسوق جديدة، مؤسسات ظهرت كحالة مؤقتة زمن الثورة السورية، لكنها مستمرة وتَدعم وتُحدِّد وفق توجهات “أصحابها” توجهاتِ المخرجين المتعاملين معها، نتاجاتها تتسم في كثير من الأحيان وتندرج ضمن إطار السبق الصحفي، وتسمى أفلاماً ويسمى القائمون عليها مخرجين.
قد تبدو الخشية اليوم، أن ما يتشكل في الأطر العامة “الجديدة”، “جديدٌ” “نظامي” جديدْ، وإنْ كان لا يصل إلى مستواها إلا أنه يقارب أحياناً رداءة “الجديد” النظامي القديم، ذاك المرتبط بالسلطة المتهاوية. رأينا و(سنرى) “مخرجين” بالجملة لا يستطيع المتابع الجزم بأحقية وأهلية إسباغ هذه الصفة عليهم (الإخراج). إلا أننا وبالرغم من كل شيء وبارتباط كل ذلك الإرباك باضطراب الوضع السوري عينه على المستويين السياسي والميداني، لا يمكننا ألا نرى أن هناك عتبة تم تجاوزها، وأن الصراع القادم بين أكثر من “جديد” سيكون في منسوب آخر يرتفع -من دون شك- عن صراعات الاستبداد الآفلة.