كوريا: حرب لن تنتهي!
قيس قاسم
يُتوج الكندي بريان مكينا سلسلة أفلامة القصيرة عن الحرب الكورية التي بدأها قبل عقد من الزمن بوثائقي طويل يحمل نفس العنوان: “كوريا: حرب لا تنتهي” يلاحق فيه آخر تطوراتها التي يتابعها العالم اليوم بقلق وخوف من نشوب حرب جديدة تهدد بلدان منطقة شبه القارة الكورية والعالم كله، كما كانت دوماً. فهذة الحرب ما أن تشتعل بين القسمين الشمالي والجنوبي حتى تجر اليها أطرافاً عدة، ما يهدد بإتساعها الى ما هو أبعد من حدود جغرافيتها الآسيوية وهذا ما يستعرضه الوثائقي عبر تسجيلات أرشيفية غنية وحصوله على وثائق جديدة نادرة تكشف تورط الولايات المتحدة الأمريكية من جهة والصين والاتحاد السوفيتي من جهة أخرى وتكريس كل واحد منهم أقصى قدراته لحسم الصراع لصالحه لدرجة أعتبرها المؤرخون السياسيون الحرب الأشد ضراروة وشراسة بين المعسكرين الإشتراكي والرأسمالي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. ويلمح الوثائقي الى امكانية تكرارها ولكن هذة المرة بإسلوب مختلف يتوافق مع الوسائل الحربية الحديثة واستخدام التقنيات الالكترونية كما ظهر في التسريبات الاخيرة لإعلام القسم الشمالي ليؤكد نجاحاتها في هذا المجال وامكانية استخدامها، في أية لحظة، يعطي الرئيس الجديد كيم جونغ أون أوامره بشنها على عدوها التاريخي، هذا عدا التهديد الجديد بالصواريخ البعيدة المدى والمحملة برؤوس نووية كما ظهرت في الاستعراض العسكري الأكبر في تاريخ الجيش الكوري في أكتوبر من عام 2010، والذي انطلق منه الوثائقي كأساس لفهم الحرب التي نشبت بين الطرفين قبل أكثر من ستين عاماً وراح ضحيتها ملايين البشر، وتركت آثاراً لا يمكن محوها بسهولة، بل ثمة رغبة قومية في التذكير بها كلما شعر طرف من أطرافها بحاجته الى اشعار غريمه بقوته أو أراد منعه من التفكير بأي اعتداء محتمل كالذي شنه كيم إل سونغ عام 1950 على جيرانه بدوافع أملتها الحالة الكورية نفسها والرغبة في توحيدها ثانية على يديه.

عودة الى الوراء
يعود بريان مكينا بوثائقيه الى التاريخ، ليقدم تصوراً متكاملاً للمشكلة الكورية. فهذا البلد ابتلي بجغرافيته التي شكلت مصدر تهديد دائم له وخاصة من جيرانه، فكلهم أقوياء: الصين، روسيا واليابان, والأخيرة كانت أساس المشكلة، فطيلة خمسة وثلاثين عاماً ظلت كوريا تحت سيطرة الامبراطورية اليابانية، حتى لحظة هزيمتها في الحرب العالمية الثانية وخضوعها لشروط الحلفاء ومن بينها التخلي عن كوريا ومنحها استقلالاً كاملاَ. استقلال لعب السوفيت والأمريكان دوراً حاسماً فيه وظهر الانقسام بينهما حوله واضحاً ما أدى الى تقسيم البلاد الى جزئين. الشمال تولى قيادته كيم أيل سونغ وفي الجنوب راهن الأمريكان على العجوز سينغ ري وأرادوه رئيساً شكلياً لإبقاء البلاد تحت سيطرة قواتهم عملياً، ما أثار موجات من الاحتجاجات الوطنية المطالبة بتحرير البلاد من هيمنتهم. الفيلم يعرض وثائق سرية دامغة للممارسات حكومة سينغ الدموية ضد المعارضين الجنوبيين ومعاملة الجيش الأمريكي المدنيين كأهداف عسكرية لهذا السبب ارتفع عدد الأرواح التي زهقت منهم. المقابلات الحية مع الناجين من المجازر أو من الذين شهدوها تفسر لماذا تحرك الشماليون وإجتاحوا أراضي الجنوب عام 1950. أخطر ما يسلط عليه الوثائقي الجديد دعوات الجنرال دوكلاس مكارثر، قائد القوات الأمريكية والمحرك العملي لقوة حماية الأمم المتحدة التي كانت تحت اشرافه المباشر، المتكررة الى الرئيس ترومان بإستخدام القنبلة الذرية لدحر الشماليين الذين اجناحوا الجنوب دون مقاومة تُذكر. منذ اللحظة التي دخل فيها الشماليون الجنوب سيراقب العالم أبشع حرب جرت بين الكوريتين، استمرت ثلاث سنوات وأرتكبت فيها أشد الفضائع والأهوال وشهدت تدخلاً سافراً للأمريكان، الذين لم يترددوا لحظة في استخدام أكثر الأسلحة فتكاً، كالقنابل الفسفورية والعنقوية والنابالم، في الوقت الذي فَضَل السوفيت التحرك خلف الكواليس والاعتماد على قوة الزعيم الكوري الشمالي الموالي لهم وللصين الشعبية، التي وجدت نفسها، وبعد تطورات وتغيرات عسكرية على الأرض، تفكر بالقيام بحركة استباقية تمنع الأمريكان من مهاجمتهم.
الصينيون يحفرون الخنادق
لقد سمع الصينيون أخباراً مؤكدة بأن الجنرال مكارثر يخطط لمهاجمتهم فراحوا في عتمة الليل يحفرون أنفاقاً داخل الأراضي الكورية الشمالية، لتشهد تلك البلاد معارك مخيفة ولكن هذة المرة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية لا بين قسمي البلاد. المفارقة التي يلتقطها الوثائقي من هذا التطور الدراماتيكي في حرب شبه القارة الكورية تتمثل في أن نهايتها التي حانت لحظة اتفق الطرفان الخارجيان على توقيعهما وثيقة وقف اطلاق دائم للنار بينهما، ادعا من خلالها كل طرف منهما خروجه منتصراً من المعركة وانه أجبر الطرف الثاني للمجيء الى طاولة المفوضات بعد أن كان مصراً على حسمها عسكرياً وكأن هذة الجزء من القارة مباحاً لأسباب إيديولوجية في المقام الأول فقد صوّر منذ انطلاقه وكأنه صراعاً بين الشيوعية والرأسمالية.
حرب قادمة!

المؤرخون الأمريكان وصفوا هذا الاتفاق ب”المذل” لأن الجيش الأمريكي أراد من تدخله المباشر في الأساس دحر الشيوعية في القارة الآسيوية، وهذا الادعاء أو الطموح فتح بدوره الباب لمزيد من التدخلات الخارجية فيها وهو ما أراد المخرج بريان ماكينا توثيقه في فيلمه الغني بالمعطيات والحجج الدامغة عن احتمال تكرارها إذا ما ظلت البلاد مقسمة بين مصالح دولية كبرى، ورغبة في الانتقام دائمة يسجلها عبر زيارته الى متحف الشعب التاريخي في بيونغ يانغ في عهد “كيم الثالث” بداية العام 2013 وتخصصه تقريباً بعرض صور المجازر التي ارتكبها الجنوبيون والأمريكان بحق أطفالهم ونسائهم. وبغض النظر عن الجانب الدعائي فان المعطيات تؤكد صحتها بما يحفز لحفظها في ذاكرة الشماليين، فموت مليّوني كوري بيهم ألاف من الأطفال والنساء العزل حقيقة لا يمكن تجاهلها في حرب من أكبر مفارقاتها إن الطرف الاساس فيها لم يتعرف بوجودها. فالولايات المتحدة الأمريكية لم تسميها حرباً إلا قبل عقد وما يزيد بقليل، وكأن من مات فيها لا يخصونهم بشيء بل يعتبرونها مجرد حرب بين آسيويين دعمت هي فقط الطرف الديمقراطي فيها! فيما الأرقام تفضح العكس فحتى اللحظة يوجد أكثر من 25 ألف جندي أمريكي على الأراضي الكورية يحمون العاصمة سيول من أي هجوم متوقع وبالمقابل يحشد الشماليون قدراتهم العسكرية ومعارفهم الالكترونية لحرب قادمة أو “مستمرة” فالحرب الكورية لن تتوقف أبداً ما دام هناك من له مصلحة في تحريكها على الدوام.