المساحة المشتركة بين الوثائقي والروائي القصير

قراءة نقدية لفلم “المُختلِف” للمخرج كاظم صالح

عدنان حسين أحمد
كرّس المخرج السينمائي كاظم صالح نفسه منذ عشر سنوات أو يزيد لإنجاز عدد من الأفلام الروائية القصيرة والوثائقية ذات الطابع التشكيلي على وجه التحديد، وهو ذات التوجه الذي يمكن أن نلمسه عند غالبية المخرجين العراقيين المقيمين في الدنمارك أمثال محمد توفيق، طارق هاشم، جمال أمين الذين أنجزوا أفلاماً وثائقية أو روائية قصيرة ترصد تجارب الفنانين التشكيليين وتفحص رؤاهم وتطلعاتهم الفنية. وإذا شذّ أحدهم عن هذا المسار التشكيلي فإنه يلجأ إلى الفلم الثقافي كما فعل المخرج جودي الكناني حين أنجز فلم “الأخضر بن يوسف” الذي يدور حول تجربة الشاعر سعدي يوسف، أو فلمه الروائي الأخير المكرّس لتجربة بدر شاكر السيّاب، وإذا اشتطّ قليلاً فإنه يتجه صوب المسرح ليصنع فلماً عن المسرحي قاسم البياتلي، ويمتد هذا الولع إلى المخرج قيس الزبيدي المقيم بين برلين ودمشق لينجز فلماً عن الفنان جبر علوان، وقاسم حوَل الذي أنجز “سمفونية اللون” وغيرهم من الفنانين العراقيين الذين تغريهم مفردات الثقافة والفن والتشكيل والموسيقى وما إلى ذلك.

المخرج كاظم صالح

ثنائية الرجل والمرأة
إنّ منْ يريد أن يصنع فلماً وثائقياً أو روائياً قصيراً عن الفنان سعد علي لا بد أن يركز على ثنائية الرجل والمرأة في أعماله الفنية التي تمتد منذ أواخر السبعينات حينما كان يعيش في روما، مروراً بانتقاله إلى هولندا، ثم استقراره في فالينسيا الإسبانية. ويبدو أن سرّ تنقّله له علاقة وطيدة بالنأي عن البلدان الأوروبية كلّما تكاثر فيها عدد الفنانين العراقيين، فهو يبحث دائماً عن مدن أوروبية يقل فيها التواجد العراقي، التشكيلي منه على وجه الخصوص كي يتفرد بحضوره الباذخ. لقد نجح المخرج كاظم صالح في التقاط هذه الثنائية وتجسيدها على مدار الفلم الذي انطوى على ثيمات متعددة تسيّد فيها الجسد الأنثوي والذكري على حد سواء. فالفنان سعد علي لا يجد حرجاً في أن يطرح موضوعاته الحسية الصارخة، بل أن الجانب الإيروسي يهيمن على العشرات من لوحاته الفنية. وما دمنا في إطار الثيمات لا بد من الإشارة إلى واحدة من أهم الثيمات التي عمل عليها الفنان سعد علي وهي ثيمة “أبواب الفرج والمحبة” التي بدأ بها في أوائل التسعينات من القرن الماضي، وربما قبلها بقليل لأنني التقيته عام 1994 وكتبت لاحقاً عدداً من المقالات عن عموم تجربته الفنية ومن بينها “أبواب الفرج والمحبة”. فثمة فردوس متخيل يبحث عنه الفنان منذ سنوات طويلة، وما إن يفتح باباً في هذا الفردوس الحلمي كي يلجه حتى يجد نفسه أمام أبواب أخرى تنفتح له تلقائياً وتقوده إلى عالمه الحلمي المليء بالسحر والفتنة والغواية. ولأن هذه العوالم فردوسية فلا غرابة أن تكون الألون حارة وصريحة وباعثة على البهجة التي قد يفتقر إليها الفنان الأوروبي المقيم في بلدان البرد والضباب والشتاءات الطويلة.

مقاربة عالمية
لقد ارتأى المخرج كاظم صالح أن يقارب بين الفنان الكبير بيكاسو والفنان العراقي سعد علي على الرغم من اختلاف المشارب والمرجعيات الثقافية والبصرية على حدٍ سواء. وربما تثير هذه المقاربة استهجان بعض الفنانين العراقيين الذين يجدون فيها تجاوزاً على سمعة وتجربة الفنان الإسباني بيكاسو الذي رسم “الغورنيكا” وخلّدها في الذاكرة الجمعية لغالبية شعوب العالم وبين فنان عراقي ظل يدور في عدد من الموضوعات ذات الطابع الشرقي التي قد تجد رواجاً في الأسواق الفنية الأوروبية. غير إن منْ يدقق في تجربة الفنان سعد علي الذي خرج من محليته العراقية وأصبح فناناً عالمياً أيضاً لأنه حقق الكثير من المنجزات سواء في عروضه شبه الدائمة ببعض البينالات الهولندية والأوروبية أم في حضوره القوي في “الصالون الأحمر” الذي يضم أعمالاً فنية لخيرة الفنانين الهولنديين.

تنقّل الفنان سعد علي في عدد من المدن الهولندية مثل أوتريخت التي استقر فيها مدة طويلة وكان بإمكان المخرج كاظم صالح أن يفيد من بعض اللقطات والمشاهد الأرشيفية المصورة عن تجربة سعد علي في مراسمه المتعددة في هولندا، لكن المخرج ارتأى أن يصوره في ثلاث مدن إسبانية وهي مدريد، وفالينسيا وشيفا ليعزز اختلافه عن الفنانين العراقيين والعرب من جهة، والفنانين الأجانب من جهة أخرى مع وجود بعض المناطق المشتركة بين الفنانين في مختلف أرجاء العالم. ولربما يبدو هذا الاختلاف عن الآخرين واضحاً حتى جسد الفنان سعد علي الكثيف الشعر بصورة لافتة للانتباه، فلقد ظهر لنا الفنان سعد علي عارياً في جزئه العلوي، ومنهمكاً في رسم العديد من اللوحات التي تجمع بين الواقعية، والتشخيصية، والسوريالية، والتعبيرية، والرمزية. لقد تعمّد المخرج أن يعقد هذه المقارنة بين بيكاسو وسعد علي ورأينا في مشاهد متعددة كيف يذهب الفنان بيكاسو إلى مرسمة لينهمك في متابعة لوحاته الفنية أو أعماله النحتية ثم نرى سعد علي يقوم بذات الاشياء تقريباً على الرغم من أن سعد كان ينهمك في الرسم ويستغرق فيه بينما كان بيكاسو يتحرك أو يلج المرسم من دون أن يرسم أو ينحت. لقد التقط المخرج كاظم صالح العديد من النقاط الجوهرية والحساسة في تجربة الفنان سعد علي. فالملاحظ أن غالبية لوحات سعد علي لا تخلو من الحيوانات الأليفة وغير الأليفة كالقطط والفهود والأسود وما إلى ذلك وقد صور المخرج مشهداً لقطة حيّة تتحرك في أحد الممرات، بينما نشاهد ذات القطة في لوحة سعد علي.

طقوس غريبة


لم يقيّد المخرج كاظم صالح بطله سعد علي في إطار الفلم الوثائقي، بل منحة حرية الأداء، إذ رأيناه يرقص تارة، ويؤدي طقساً غريباً تارة أخرى، أو يصارع الثيران تارة ثالثة بشكل رمزي أو تعبيري وقد تمكّن سعد في تجسيد هذه الأدوار المتنوعة التي أُسندت إليه. لا شك في أن تجوال سعد علي في المحلات التي تبيع الأبواب والنوافذ الخشبية القديمة كانت جميلة ومعبّرة وجاذبة لانتباه المتلقي، خصوصاً وأن هذه الأبواب والنوافذ هي سطوحه التصويرية المفضلة التي تفضي به إلى فراديس المحبة. وقد لعبت أغاني عابد عازارية دوراً في إثراء الخطاب البصري وتداخلت فيه حينما بدأ يقول: دين الحب ديني أنّى توجهت ركائبه، فالحب ديني وإيماني” ثم يعزز هذا المقولة العاطفية والروحية بمشاهد لأمرة تتحرك وهي تحمل أعمالاً فنية تجسّد تلاحم الرجل والمرأة بطريقة فنية تنطوي على قدر كبير من الرومانسية الجذابة التي تلامس الوجدان الإنساني في كل مكان من هذا العالم. قد تبدو المقاربة بين بابلو بيكاسو وسعد علي مستفزة بعض الشيئ، لكن ثمة خيوط مشتركة تتكشف جلياً بين الفنانَينْ فالأصابع المرنة الطويلة، والأذرع اللدنة المطواعة التي تبدو للناظر وكأنها خالية من العظام يمكن تلمّسها عند الاثنين في آن معا. وأن هذا اللقاء التقني يمتد إلى الوجوه والسيقان وكل التفاصيل المهمة في الجسد البشري. وفي الختام ينضاف فلم “المختلف” إلى سلسلة أفلام الوثائقية والروائية القصيرة التي أنجزها المخرج كاظم صالح على مدى عقد من السنوات وأبرزها “ملوّن في زمن الحرب” و “سفر التحولات”.


إعلان