“تهريب 23 دقيقة ثورة” اسم فيلم سوري

درويش درويش
نُشرَ على يوتيوب وعُرِضَ بهذا العنوان: “تهريب 23 دقيقة ثورة”. يُوثِّقُ أوقاتاً عصيبةً وحساسة مرت فيها مدينة حماة السورية في أيامٍ سجَّلَها التاريخ.
تلك المدينة المتربعة على عرش “المنطقة الوسطى” كالقلب من سورية، انبعثت من جديد، بعد “دمارها” السابق، الإبادة التي لحقت بأهلها في ما بات يعرف بأحداث الثمانينات. “بعثٌ” لم يكن أحدٌ ليتوقعه أو ليتخيل زخم عنفوانه بعد مجازر “البعث” ومقابره الجماعية، في مدينة الأربعين ألف “ضحية” على أقل تقدير.
المظاهرات العارمة والأكبر في الثورة السورية في “ساحة العاصي”، حيث تجسد الحلم العظيم للسوريين بفسحة بديلة عن ساحات العاصمة “المستحيلة”، فاجأت الجميع وربما أبناءها أيضاً، لكنه كان من الجلي أيضاً أنها خلخلت ركائز النظام وأثارت في أركانه ذعراً خاصاً، كأن من في القبور خرجوا مضاعفين، أو أنَّ صرخاتِ مئات الآلاف بأهازيج الحرية، قذائف تدك القصور وقاطنيها ممن أمسكوا بخيوط اللعبة السورية لعشرات السنين.
كان لمظاهرات حماة المذهلة وأهازيجها التي سرعان ما انتشرت في بقاع العالم، حتى عند من لا يفهمون “اللغة”، بعدها الرمزي العظيم، والإعلامي والدعائي المبهر، ما جعل النظام وقواه القمعية تقف عندها أمام مفترق طرق، قبل أن يمتد السيل ويفجر الكمون الاجتماعي بكل طاقته دفعة واحدة.
يتحدث سوريون ناشطون بما لا يختلف كثيراً عن هذا التوصيف والاستنتاج الآن، ليس أمام الكاميرا، كما يفترض في حالات أكثر طبيعية.

فداء حوراني

سنشاهد في هذه “المادة” المسجلة في تلك الظروف، هروباً “للعدسة” من الوجوه، ونسمع “شريطاً” لأصواتٍ “محوَّرة” لا تكشف هويةَ صاحبِها، باستثناء “فداء أكرم الحوراني” مَنْ ظهرت بكامل “حضورها”، الطبيبة، صاحبة مستشفى الحوراني في حماة، وابنة “أكرم الحوراني” الذي اندمج وحزبه “العربي الاشتراكي” مع حزب “البعث العربي” لتشكيل ما عرف فيما بعد بحزب “البعث العربي الاشتراكي”.
سيكون لحضور “فداء” أبعاده الخاصة ، مع غياب تعيين باقي الشخصيات. ا��سياسية والمتحدثة “العارفة” ابنة “التجربة”، والمعتقلة سابقاً، الأنثى، من استقبلت في مستشفى “الحوراني” مصابي الثورة، متحدّية أوامر “الأمن”. و”السافرة”، من هتف متظاهرو حماة عندما رأوها “أهلاً بالعلوية”، من ردت عليهم “بتلويحة” من يدها تماشياً مع هذا اللبس، كما “أخبرتنا”.
أما غياب باقي “المتحدثين” عن مرمى العدسة، مع حضورهم الصوتي “المموه”، فسيقابله ويستعاض عنه بحضورٍ آخر لرصدٍ آخر، يثبت الكلام “بالواقع” ويعطيه ألوانه، وأبعادَه “المجسمة”.
كأن تصور الكاميرا مقابر كبيرة في لقطة ممتدة متحركة على مئات “الشواهد” مع سردِ حمويٍّ لتاريخ عائلته: “يا محلاك يا قذافي… أبوه قتل لي أبي وأعمامي السبعة، وقتل لي جدي وابن عمي في 82… أبي، جدي وجدي وأعمامي السبعة، وابن عمي وابن خالي في 82.. شردنا، 37 شاباً و 22 بنتاً، أنا أكبرهم جميعاً وعمري الآن 38 سنة”.
سنرى أيضاً أن للظلام مساحته في اختباء متواتر للكاميرا، كما صاحبها ومن تصورهم، ستتلصص الكاميرا من بين النباتات في الليل لتلتقط أضواء بعيدة، ونحن نسمع قصص الأمن والسلطة زمن حكم النظام، مضاعفة الوطأة على المدينة المتمردة المنكوبة: كان الحموي يحاسب “على موتاه”، يقول أحد الحمويين: “نحن نسينا موتانا والنظام لم ينسهم” إذا قبضوا على أحد وُلِدَ في العام 94 سألوه فيما إذا كان مِن بين أقاربه مَن قتل في الثمانينات “فما ذنبي إذا كان ابن خالة أمي مات في الأحداث… لا… أنت مجرم مثله”.
يضحك المتحدثون في هذا الفيلم وهم يسردون قصص أحداث مؤلمة لا تخلو من طرافة، اعتقَلوا أحدهم وهو عائد إلى بيته وفي حوزته “رب البندورة” والتهمة استخدام هذا المستحضر “المتعدد الاستعمال” كصباغ بديل عن الدم لفبركة مشاهد يصورها الناشطون.
ثلاثة ناشطين استقلوا سيارة أجرة كان سائقها “عوايني” أخذهم ببساطة إلى أقرب نقطة اعتقال.
تشارك الثورة عينها في “إخراج” هذا الفيلم، كما العديد من التجارب الأخرى للأفلام المصورة في الداخل السوري زمن الثورة، تهرب الكاميرا وتتخفى شأنها شأن شخصيات ترصدها، يغيب “المفرد” الذاتي المعزول عن السياق العام، لصالح شخصية/راوي، تقترب في تصورنا لها من نماذج “أدبية” تقول “فرادتها” بوعيها الكامل زمن التحولات الكبرى.
هكذا لا تصوِّر الكاميرا الناس بكامل هيئاتهم وتمامها، ولا تنعم بكامل حريتها و”ضوئها” إلا بخروجها إلى المجال الأوسع والأرحب، مجال المظاهرة العارمة في ساحة العاصي مرصود من موقع مرتفع، عندما يصبح هؤلاء الأفراد/الآلاف كتلةً واحدةً متراصةً هاتفين بهدفٍ جامع، واحد وأسمى في حينه، هو الحرية.


إعلان