الأناني الكبير: الأنسان ذلك الطفل الأناني

المغرب- رامي عبد الرازق
خلال فعاليات الدورة السابعة للمهرجان الدولي لفيلم المرأة والذي تستضيفة سنويا مدينة سلا المغربية خرجت علينا المسابقة الدولية للمهرجان والتي تضم 12 فيلما تحمل جميعها توقيعا انثويا بالفيلم البريطاني”الأناني الكبير” للمخرجة كليو برنار عن قصة لاوسكار وايلد وإنتاج 2013.
ينضم الفيلم إلى قائمة الافلام التي تمثل الطفل في المتخيل الأنثوي وهي أحد التيمات الرئيسية التي يمكن أن ننظر من خلالها هذا العام إلى افلام المسابقة الدولية للمهرجان فألى جانب الأناني الكبير هناك وجدة للمخرجة السعودية هيفاء المنصور والذي سبق وان حصل على جائزة المهر الذهبي في مهرجان دبي في الدورة التاسعة ويقدم شخصيته الرئيسية عبر طفلة على اعتاب المراهقة كل امنيتها ان تركب دراجة مثل الصبيان، وثمة فيلم”فتى الستالايت”من استراليا للمخرجة كاتريونا ماكينزي والذي يتحدث بشكل إثني عن طفل من الأعراق الأصلية في استراليا ورحلة اكتشافه لذاته الصغيرة وعلاقته بالأرض والأسلاف، ومن جنوب افريقيا فيلم قدمت المخرجة الشابة بيا ماريس فيلمها”ليلى فوري”عن العلاقة الملتبسة والشائكة ما بين أم وابنها الذي يشهد على تورطها في حادث قتل أحد الاشخاص بطريق الخطأ، ومن جورجيا قدم المخرجان سيمون كروس والمخرجة نانا اكفتيميشفيلي فيلمهم”ايكا وناديا”عن طفلتين تجتازان مراهقتهما بعد عام من سقوط الشيوعية وكيف يتعايشان مع مجتمع مدمر وحضارة منتهية بلا قيم ولا اقتصاد ولا أبوة مادية او معنوية.

العين التي تحكي
هل الانانية طبع مكتسب ام صفة تتربى مع الوقت وتبرزها مصاعب الحياة؟ وما هو تعريف الانانية هل هي مراعاة المصالح الخاصة على حساب مصالح الاخرين ام هي الأستحواذ ورفض الأخر واسقاطه من حساباتنا!
تضعنا المخرجة امام هذه التساؤلات بشكل قاس وسافر من خلال شخصية الطفل اربور الذي يبدو متمردا على كل شئ وضد كل شئ، ضد أمه واسرته ومدرسته بل حتى ضد نفسه في بعض الأحيان.
في اللقطة الأولى لتعريفنا بالشخصية نرى اربور من خلال جلوسه تحت الفراش وجهة نظر الكاميرا هي وجهة نظره subjective point of view وهو يدق بشدة على باطن السرير من الأسفل ويصرخ، وفيما بعد سوف نعلم انه يعاني ايضا من حالة عصبية نفسية تصيبه بنوبات من الغضب الذي يحتاج معها إلى تناول دواء معين.
هذا التعريف البصري بالشخصية يندمج بشكل عضوي مع البناء الدرامي والفكري للفيلم ككل فتقديم الشخصية من خلال النظرة الذاتية وليس الموضوعية هو دلالة على صفة الانانية التي يستم بها اوربور وفي نفس الوقت اختيار الحيز السريري الضيق ومحاولة تكسيره اثناء نوبة الغضب هو دلالة شعورية على احساس الشخصية تجاه الواقع والعالم من حوله خاصة عندما نتعرف على وضعه الاجتماعي كأصغر ابناء عائلة فقيرة ومهمشة اجتماعيا واقتصاديا.
تبدو انانيته هنا والتي سوف تظهر من خلال عشرات الأفعال الحقيرة فيما بعد مثل سرقة كل شئ تقع عليه يديه واعتباره حق مكتسب ورفضه الذهاب إلى المدرسة واستخدامه الحصان في معرفة اذا ما كانت الكابلات التي يسرقها تحتوي على الكهرباء كل هذا جزء من تمرده ورفضه لواقع غير مقبول بالنسبة له.

من هنا لا يصبح من غير المستغرب أن نرى العالم من خلال مستوى نظر الطفل ونظرته الذاتية طوال الوقت تقريبا، وتستخدم المخرجة لغة سردية مكثفة تعتمد على الأقتصاد في الأحجام والتركيز على حركة الكاميرا بشكل ملاحق لحركة الطفل ونشاطه ونظرته للواقع، مع الحفاظ على روح مونتاجية دقيقة تختصر التفاصيل الادارية وتركز على الفعل في مستواه المادي والرمز في مستواه الشعري خاصة الأحصنة والتي سوف يأتي ذكرها فيما بعد كأحد اهم الدلالات الشعرية في الفيلم.
يصبح التعرف على التفاصيل للمرة الاولى دائما من خلال عينا الطفل الصغير الذي هو طريقة المخرجة في النظر إلى العالم كما يراه هو، ونكتشف هذه العوالم بالتدريج لأن المخرجة لا تترك شخصيتها الرئيسية وتذهب بنا في مشاهد تعريفية بالشخصيات والأماكن التي يتحرك أو سوف يتحرك فيها خلال الاحداث وإنما يتكشف كل شئ بالتدريج وبشكل جذاب من خلال علاقته هو الشخصية بالواقع من حوله.
وهو العين التي تحكي او يحكي من خلالها في امتزاج بنائي رائع حيث يتحدث الفيلم عن الانانية من خلال شخصية تحتكر الكادر واللقطة والمشهد والأيقاع.

الصديق والحصان
 تمثل الاحصنة في الفيلم احد التفاصيل الموظفة بشكل شعري ودلالاي هام سواء عبر التعبير عن علاقات الشخصيات أو الأرهاص بتطور الصراع وذروة الحبكة.
بينما يتجول اربور على حصان صغير مع صديقه الحميم سويفتي يشاهد عملية سرقة كابلات السكة الحديدية ويقوم بسرقة الكابلات من اللصوص ويذهب لببيعها لمدير ساحة الخردة ويبدأ في ولوج هذا العالم الغريب والخشن، ويتزامن هذا التورط مع رفض الاستمرار في المدرسة خاصة بعد الفصل لشجاره مع احد الطلبة بسبب صديقه.
تأتي علاقة اربور بسويفتي مؤسسة بشكل متين وكأن كل منهم في منطقة درامية ما يعتبر وجه العملة الأخر، اربور قيادي وسويفتي انقيادي، اربور صغير الحجيم اشقر مثل دمية وسويفتي ضخم الجثة اسود الشعر، اربور حاد الذكاء متقد العزيمة صاحب قرار بينما سويفتي يعاني من بلاهة ظاهرة وغباء واضح.
يبدو سويفت في احد المستويات الدلالية بالفيلم اقرب للحصان واربور هو الفارس الذي يقوده, وهو ما ينعكس فعليا في رغبة اربور في قيادة عربة الكارو الخاصة بالسباق الشعبي الذي ينظم بالمدينة، بينما يرفض سويفتي ويحول دون ذلك لأنه يرى اربور لا يحسن التعامل مع الخيول لأنه قاس وحاد.
اذ ما توقفنا امام الاحصنة نجد أن اللقطة الاولى بالفيلم هي عبارة عن مزرعة خيول صغيرة بعضها بري وبعضها مستأنس في اجواء ضبابية شاحبة وكأن المخرجة تقدم لنا هذا الكائن الذي سوف يصبح جوء هام وعضوي في الدراما والصراع ودلالات النص.
تجمع الاحصنة الصغيرة بين اربور وسويفتي دائما في مشاهدهم الكثيرة، في وتحرك المخرجة الحصان ككائن دلالي وشعري طوال الوقت بحرية تامة على حسب السرد وتطور الدراما، ففي احد المشاهد نرى اربور يحاول أن يستدرج احد الأحصنة كي يدوس على كابل ضغط عالي كي يتأكد أذا ما كان فيه كهرباء أم لا، ويمنعه سويفتي بعنف وتصبح هي المرة الاولى التي يضربه فيها ولا يتمكن اربور من رد سويفتي لحبه الشديد له.
فيما مشهد تال وقبل مصرع سويفتي المأساوي ترهص المخرجة بالنهاية التراجيدية لعلاقة الصداقة بأن نرى نفس الحصان ميت من اثر الدوس على كابل الكهرباء بينما حصان اخر من زملائه في المزرعة يقف ناظرا إليه في رثاء وشفقة وهو ما سيحدث لاحقا بين اربور وسوفتي عندما تمسك به الكهرباء بدلا من صديقه بينما كانا يسرقان كابلات الضغط العالي هنا يكتمل مشهد الاحصنة السابق كأرهاصة واضحة بنهاية الشخصية والعلاقة.
ومن نفس المشهد للحصان الميت في المستوى الدرامي وليس الرمزي يصبح اكتشاف موت الحصان هو السبب الرئيسي وراء غضب سويفتي من اربور وتواطئه مع مدير ساحة الخردة لعقاب اربور ومحاولة قص يده التي لا تتوقف عن السرقة من الجميع.
وفي نهاية الفيلم بعد موت سويفتي تكتمل عملية توظيف الأحصنة بمشهد رقيق حيث نرى اربور يقوم بتمشيط شعر أحد الاحصنة في المزرعة بعد أن سامحته أم سويفتي حيث تبدو تجربته القاسية التي فقد صديق عمره على اثرها نتيجة انانيته وحقارته قد ابدلت خريطته النفسية والروحية تماما وبعد أن كان يستدرج الحصان إلى الكهرباء أو يجلده محاولا ان يتعلم اصول السباق اصبح الأن اكثر رقة وشفافية وهدوءا على المستوى الروحي والنفسي وقد صهرته التجربة وادمته داخليا في هذه السن المبكرة، وقد قدمت المخرجة المشهد بكادر ثابت في ضوء حاني شفاف بنظرة موضوعية هذه المرة وليس نظرة الشخصية الذاتية وكأنها اخيرا تخلصت من انانيتها ورؤيتها الضيقة للعالم والحياة.

كهرباء الواقع
إلى جانب الاحصنة استخدمت المخرجة اجواء ساحات الخردة التي تمتلئ بالفضلات المعدنية وبقايا حضارة الألات الغربية كخلفية تشكيلية ودرامية ضخمة للشخصيات خاصة في نظرة اربور للاوناش العملاقة ذات الأظافر التي تنشبها في الحديد وبقايا هياكل السيارات والغسالات والكابلات العارية.

مدينة سلا

كذلك بدت تفصيلة سرقة الكابلات الكهربائية احد أهم تفصيلات الفيلم على المستويين الشعري والدرامي فهي من ناحية تمثل واقع مشحون بتيار كهربائي حارق ورهيب لكنه مخفي تحت السطح الهادئ والرتيب للمدينة الشاحبة التي لم نر الشمس تشرق فيها مرة واحدة ومن هنا تتخد سرقة اربور للكابلات اشارتها الفلسفية والاجتماعية من ناحية خطور الواقع وخشونته وعيشه المستمر على الحافة رغم سنه الصغير, كما أن الكابلات الكهربائية تصبح هي السبب الدرامي الاساسي في موت سويفتي والذي يتخذ موته هنا ايضا دلالة شعرية حيث ان مثل هذه المجتمعات الخشنة الناضحة بالمادية والغضب والتمرد والرفض والمشاحنة من الطبيعي أن تسقط ضحايا كثيرين عبر كهرباء الواقع المادية والمعنوية وغاليا ما يكون هؤلاء الضحايا من غير الانانيين الذين يضحون بكل شئ من أجل انفسهم او هكذا يبدون.
لم يكن موت سوفتي محترقا هو الدرس الوحيد الذي تلقاه اربور فيما يخص فداحة الأنانية وحب الذات، فعندما ذهب لكي ينتقم من مدير ساحة الخردة عقب مقتل سويفتي ويأتي البوليس يفاجأ اربور بأن مدير الساحة يعلن مسؤليته عن مقتل الطفل الصغير ويعترف بأنه من طلب منه الذهاب لسرقة كابلات الضغط العالي وبالتالي يقبض عليه وكما يقول بريسون فأن الفيلم هو بناء علاقة بالنظرات نجد تلك النظرة العميقة والخاصة التي يتبادلها اربور ومدير الساحة وكأنه يقول له تعلم الا تصبح انانيا وأن تضع الأخرين في حساباتك لكي تستمر الحياة بأقل قدر من الألم والوحدة.
من هنا يصبح جلوس اربور المستمر عبر المطر والبرد امام منزل سويفتي واحتماله تلقي الصفعات من والد صديقه الميت من أجل أن ينظر في عينا ام صديقه ويعتذر لها ويدرك انها سامحته من هنا يصبح هذا الفعل هو اقرب للحظة التنوير أو الذروة الدرامية والشعرية على حد سواء بالفيلم لأنه لم يتعود أن يعتذر أو يعترف بأخطائه أو يطلب الصفح أو يقدر مشاعر الأخرين.
وكما بدأ الفيلم باربور في الحيز الضيق تحت سريره نجد يعود إلى نفس المكان بلا غضب هذه المرة أو نوبات تحطيم بل باستسلام كامل لخيال صديقه الذي يتجلى له ممسكا بيده التي تشوهت من اثر احتراق سويفتي بالكهرباء واصبحت كعلامة دامغة لتلك التجربة ليس فقط على بشرته او يده التي تسرق بل على روحه نفسها.
وعندما تأتي اليه ام صديقه لتخرجه من هذا الحيز الخانق وتحتضنه يعود اربور للمرة الأولى منذ بداية الفيلم طفلا صغيرا مخطئا يطلب الغفران في حضن الأم الدافئ تماما مثل كل البشر حين يخطئون ويطلبون الصفح فيتحولون إلى اطفال صغار بملامح مأساوية وذكريات مؤلمة لا تناسب ابدا اعمارهم الغضة.

 
  

 


إعلان