“فيلومينا”: مصائر إنسانية تصنعها الأقدار
أمير العمري
مرة أخرى يعود المخرج البريطاني المرموق ستيفن فريرز (72 عاما) إلى مسابقة مهرجان فينيسيا السينمائي بفيلم جديد هو “فيلومينا” Philomena، الذي ينافس بقوة على جائزة الأسد الذهبي. وكان فريرز قد حقق نجاحا كبيرا بفيلمه “الملكة” The Queen وحصلت بطلته هيلين ميرين على جائزة أحسن ممثلة وبالتالي حرم الفيلم من الحصول على جائزة الأسد الذهبي التي كان يستحقها، لكن المهرجان لا يبيح الجمع بين الأسد الذهبي وأي جائزة أخرى.
لقد كنا نتابع بدهشة ما يقدمه ستيفن فريرز من أفلام منذ عام 1984 عندما شاهدنا فيلمه البديع “مغسلتي الجميلة” الذي قدم للعالم ذلك الممثل الفذ، دانييل داي لويس، الذي أصبح فيما بعد، واحدا من أهم الممثلين في تاريخ السينما. وكان مصدر الدهشة والإعجاب تلك القدرة الخاصة الفريدة لدى فريرز على التنويع المذهل في مواضيع أفلامه، وقدرته في الوقت نفسه، على الإبتكار دائما في طريقة تقديمها، وهي التي تعكس حسا إنسانيا رفيعا، ويمكنها ولو من خلال الإغراق والاستغراق في المحلية، الوصول إلى الجمهور العريض في العالم.
الفيلم الجديد الذي يأتي بعد فيلمه السابق “أعظم معارك محمد علي” Mohammed Ali’s Greatest Fights هو “فيلومينا” المقتبس عن كتاب “طفل فيلومينا المفقود” من تأليف الصحفي الإنجليزي مارتن سكسميث، يروي فيه القصة الحقيقية لتلك السيدة التي جمعه بها القدر لكي يعيش معها تجربة من أغرب تجارب الإنسان في المجتمعات الأوروبية الحديثة.
هذه التساؤلات

فيلومينا إمراة ايرلندية (من أيرلندا الشمالية الخاضعة لبريطانيا) وهي في السبعينيات من عمرها الآن.. لديها إبنة واحدة تعمل ساقية في أحد المشارب.. وهناك تلتقي الإبنة بمارتن.. الصحفي السابق في تليفزيون بي بي سي الذي كان قد هجر العمل التليفزيوني لكي يصبح أحد مسؤولي الدعاية وتلميع الصورة في حزب العمال وأخيرا أعفي من عمله في خضم جدل سياسي صاخب.. وخلال سعيه للعودة إلى ممارسة العمل الصحفي يلتقى بفيلومينا التي تسيطر عليها الآن فكرة واحدة فقط هي: ولدها الذي فقدته قبل خمسين عاما.. ترى أين هو الآن، وفيم يفكر، وهل يتذكرها، ومن الذي قام بتربيته وأين ذهب، وماذا أصبح حاليا إذا كان لايزال على قيد الحياة أصلا؟
هذه التساؤلات تطرحها المرأة على الصحفي، فيبدي أولا عدم الاهتمام بهذا النوع من المواضيع (التي يصفها بأنها مواضيع ذات الاهتمام الانساني العام من جانب قراء الصحف، أي ليست من القضايا الكبرى) ثم يصبح تدريجيا أكثر اهتماما بالأمر.. أي البحث في مصير ذلك الإبن الغائب “توم” والعثور عليه خصوصا بعد أن ينجح في إقناع إحدى دور النشر بشراء القصة الكاملة التي يع��زم إعدادها لتصدر في كتاب.
يبدأ البحث من الكنيسة الكاثوليكية أو ذلك الدير الغامض الذي لجأة إليه فيلومينا بعد أن وقعت في “الخطيئة” وهي في الخامسة عشرة من عمرها وحملت ثم أنجبت ولدا في الدير نفسه في ظروف عسيرة، ثم أصبح يتعين عليها بموجب تنازل صريح أرغمت على توقيعه، أن تهب وليدها ملكا للكنيسة، لا يحق لها العودة في أي وقت في المستقبل للمطالبة بحقها فيه. ومن خلال مشاهد العودة للماضي (فلاش باك) نرى كيف انتزع الطفل منها بقسوة ورحل بعيدا عن الدير بعد أن تبنته أسرة يتضح فيما بعد أنها أسرة أمريكية اشترته ودفعت للكنيسة ألف جنيه استرليني، وأن هذا كان عرفا سائدا وقتها، وهي فضيحة أخرى إضافية يكشف عنها الكتاب- الفيلم.
يصور الفيلم الكنيسة كقلعة من قلاع الغموض أقرب إلى بيوت المافيا التي تحاك وراء جدرانها المؤامرات والجرائم، ويوحي بأنها مغلقة على الكثير من الأسرار الدفينة، ووراء تلك الوجود الصلبة الجامدة للراهبات، قسوة مفرطة، لكنها مبررة في سياق تلك المعتقدات التي تبرر حرمان أم من طفلها إستنادا على ما ورد في بعض التفسيرات الدينية عن “الأم الخاطئة” التي لا تصلح لتربية الأطفال ولا يحق لها أن تدعي الأمومة بعد أن وقعت في الخطيئة!
رحلة البحث
من لندن إلى أيرلندا، ومن بريطانيا إلى أمريكا، وإلى واشنطن حيث يبحث الصحفي البارع، مع الأم، عن الحقيقة، عن حقيقة الإبن الغائب الذي يكتشف أيضا أنه سبق له أن التقاه لدقائق معدودة، لنعرف أنه كان قد أصبح من النخبة المقربة من الرئيس ريجان ثم جورج بوش الأب، ويسعى الإثنان- ماكسميث وفيلومينا- بشتى الطرق للوصول إلى أكبر قدر من المعلومات، لكن ما يحدث أنهما يكتشفان أولا أن توم الذي أصبح إسمه مايكل هيس (على اسم الأسرة التي تبنته)، قد توفي منذ سنوات متأثرا بمرض الإيدز، وانه كان من المثليين جنسيا، وكان يرتبط بعلاقة مع رجل، وهي معلومات وحقائق تسبب نوعا من التأذي بالطبع بالنسبة للأم لكنها تتماسك بشعور لا يفارقها أبدا من الأمل في أن يكون “مايكل” قد تذكرها وتذكر أصوله الأيرلندية. وتثبت المقابلة التي تجري مع رفيقه السابق أنه لم يكن فقط يتذكر أيرلندا بل إنه قام بزيارة لموطن رأسه وزار الدير نفسه الذي ولد فيه قبيل وفاته، بل وطلب أن يدفن هناك بعد وفاته وقد تحقق له هذا بالفعل.

كيف أنكرت الكنيسة أي معرفة بمصيره بدعوى أن كل الوثائق الخاصة بالأسر التي تبنت أطفال ذلك العهد قد دمرت بفعل حريق كبير، وكيف تسترت على حقيقة أن جثمانه مدفون في أرضها؟
السيناريو المكتوب بحرفية عالية هو أساس تفوق هذا الفيلم إلى جانب السيطرة الكاملة من جانب المخرج على الدراما وإحكام المشاعر والتحكم فيها بحيث يخفف من قتامة وقسوة الموضوع في لحظات كثيرة من خلال تلك المواجهات التي تقع بين شخصيتي الأم والصحفي. ويلعب السيناريو أساسا على التناقضات القائمة بين هاتين الشخصيتين، فالأولى امرأة تنتمي إلى طبقة بسيطة، بوعيها وثقافتها التي تجعلها تغرم بالقصص السائدة وتقبل على قراءة هذا النوع من الكتب والصحف الشعبية التي تروي فضائح النخبة، وتشاهد برامج التسلية الشائعة في التليفزيون، في حين أن الصحفي الذي ينتمي للطبقة الوسطى الإنجليزية، مثقف رفيع درس في أوكسفورد والسوربون، عمل طويلا في روسيا كمراسل للبي بي سي، ويقول إنه كان يكتب كتابا عن التاريخ الروسي. ومن خلال التناقض بين الشخصيتين الذي يكشف عنه الحوار الذكي المقتصد المكتوب ببراعة، تتفقجر الكوميديا في الكثير من المشاهد خاصة في النصف الثاني من الفيلم، أي اثناء البحث المشترك عن الإبن المفقود
لوعة الأم
وعلى حين تبدو الأم كاثوليكية مخلصة لا يهتز إيمانها أبدا بالكنيسة حتى بعد أن تكتشف ما فعلته كبيرة الراهبات وهو ما يرقى إلى مستوى الجرائم، بانتزاع الابن من أمه قبل 50 عاما دون أن تترك لها مجالا حتى لتوديعه، ثم بيعه وقبض الثمن، ثم انكار وجوده ووجود جثمانه بعد ذلك، يبدو الصحفي على النقيض من فيلومينا، فهو متشكك، لا يرى جدوى من كل تلك الطقوس والتقاليد التي تحيط بالكاثوليكية وخصوصا فكرة الاعتراف” التي يسخر منها، بل ويصف نفسه غير ذي مرة بأنه “لا يؤمن بالله”!
إننا أمام عمل يتجاوز كثيرا موضوعه الخاص لكي يطرح الكثير من التساؤلات الفلسفية حول معنى الوجود نفسه ومعنى الإيمان، وجدواه، وهل الإنكار يكفي لكي تتساوى كل الاشياء، أم ان هناك قيمة ما حقيقية تكمن في التسامح وفي المعرفة وفي القرب من الله بالأفعال وليس بالصلوات وتكرار الصلوات في حين ترتكب الجرائم باسم المغالاة في التدين. إن فيلومينا رغم كل شعورها بما أنزلته بها الكنيسية من ظلم، لا تريد أن تدين أفعال الراهبات، بل تصر على أن تغفر لهن في حين يتطلع ماكسميث قرب النهاية إلى وجه الراهبة العجوز التي عاصرت القصة بأكملها ويقول: أما أنا فلن أغفر لك!
إنه فيلم عن لوعة الأم التي لم تهدأ لنصف قرن، وذلك الرجل الذي تستهويه في البداية قصة قد تدر عليه ربحا وفيرا بعد نشرها في كتاب، ولكن تدريجيا تتلاشى تلك الفوارق والحواجز بينهما، بل ويصل الصحفي في النهاية إلى أن يقرر انه لت ينشر القصة احترما لخصوصية فيلومينا التي لا ترغب في وضعها بتفاصيلها التي قد تسبب جرحا لها، أمام الناس. لكنها أيضا تتراجع عن قرارها بعد ان تدرك أهمية رواية تلك القصة لكي يعلم الجميع ويتعلم من دروسها.

ودون شك، يصبح الضلع الثالث الرئيسي الذي يساهم في تماسك هذا الفيلم وتفوقه وتأثيره الكبير على الجمهور، هو عنصر الأداء التمثلي. نحن هنا أمام مبارة ممتعة في الأداء بين الممثلة المرموقة جودي فينش التي تقوم بالدور الرئيسي، أي دور فيلومينا، وبين الممثل ستيف كوجان الذي يقوم بدور الصحفي مارتن ماكسميث الذي اشترك أيضا في كتابة سيناريو الفيلم. الممثلة المخضرمة تضيف إلى رصيدها الكثير بأداء تلك الشخصية المركبة، وتجيد التعبير بنظرات العينين، بالتجهم حينا والانبساط حينا آخر، بالرفض والانكار، ثم القبول والتسامح والتسالمي على الأزمة. أزمة اكتشاف الحقيقة. اما كوجان فلاشك أنه باشتراكه في الكتابة يدرك جيدا ابعاد شخصية ماكسميث ويستخدم اللغة ويطوعها لكي تعكس ذلك النفور التقليدي لدى أبناء طبقته في البداية من “الآخر”.. بل ويعكس حسا عنصريا متعاليا في أحد مطاعم واشنطن تجاه ساقية سوداء، قبل ان يتحول تدريجيا إلى إنسان يقدر المشاعرالانسانية، ومن خلال ذلك التصالح يتمكن هو أيضا من اجتيار أزمته.