المُجرم.. القديس.. الضحية

محمد موسى

رغم زحمة عام 2013 بالأفلام المُتميزة، حَّجَزَ فيلم “محطة فراوتفالة” الأمريكي المُستقل على مكانة مُهمة في قائمة أفضل أفلام العام، فأبرز مجلات السينما الأمريكية والبريطانية، ضمته في قوائمها لأكثر أفلام العام الماضي جودة، كما إن الفيلم ترك إنطباعات ممتازة في دائرة المهرجانات السينمائية التي عُرض فيها في العام الماضي، وفاز بعدة جوائز، منها جائزة التحكيم في مهرجان “صندانس” الأمريكي، وجائزة العمل الأول لمخرجة ريان كوغلار، في الدورة الأخيرة لمهرجان كان السينمائي.

يستند فيلم ” محطة فراوتفالة ” على واقعة حقيقية من عام 2009، عندما قامت قوة من الشرطة الأمريكية بتوقيف مجموعة من الشباب الأمريكيين من إصول أفريقية في محطة قطار ” فراوتفالة “، في ولاية كاليفونيا الأمريكية في الساعات الإولى من عام 2009. ما بدا إنه إجراء إحترازي، لكن بدوافع وخلفيات لا تخلو من العنصرية، سيتطور في دقائق لكارثة، شغلت دوائر في الأعلام الأمريكي وقتها، وحَركت إحتجاجات عنيفة وسط أمريكيين من إصول أفريقية عبر الولايات المتحدة الأمريكية .

ملصق العمل

تأخذ علاقة السينما بالقصص الحقيقية التي تقدمها بين الحين والآخر أشكالاً متعددة، لجهة إلتزامها بوقائع تلك القصص. فالسينما تنسج بالعادة تفاصيلها الخاصة حول تلك الحوادث كما تقوم بتقديم شخصيات خيالية وتحذف شخصيات واقعية، في الأفلام التي تقدمها عن تلك القصص. فرغم مأسآوية ودرامية وأحيانا لا معقولية الحوادث الحقيقية تلك، إلا إنها تحتاج لمعالجات سينمائية وإعادة توليف يقوم بها كتاب السيناريو والمخرجين، حتى تَّمر من مَرشح الصناعة السينمائية الشائعة. يكشف النجم توم هانكس في لقاء صحفي مع برنامج “الصف الأول” الإذاعي البريطاني ، إنه قابل الكابتن فيلبس، (والذي يقوم بلعب شخصيته في الفيلم الذي يحمل إسمه ومازال يعرض في الصالات السينمائية في دول حول العالم)، قبل بدء تصوير الفيلم، وإنه حذره بأن ما سيقوم به من أفعال في الفيلم او العبارات التي سيتفوه بها، لا تمت بكثير منها بصلة له، أي للكابتن الفعلي للسفينة الأمريكية التي إختطفها قرصان صوماليين قبل أعوام قليلة. فيلم ممتاز آخر من عام 2013، هو “فيلومينا ” للمخرج البريطاني ستيفن فريرز، والذي يستند على قصة حقيقية، قام بتغييرات لمسّار القصة الحقيقي، من أجل تركيبة فيلمية درامية مُشوقة ومؤثرة.

يفتتح فيلم ” محطة فراوتفالة ” مشاهده، بلقطات مشوشة حقيقية صورت بكاميرات هواتف صغيرة، لتصادم الشرطة الأمريكية الأول مع مجموعة الشباب الأمريكيين على رصيف محطة فراوتفالة. تُشير المشاهد الارشيفية تلك لفوضى بين صفوف الشرطة، وتُنذِر بتطور عنيف قادم، لكنها لن تكشف كل ما وقع وقتها. يعود الفيلم بعد ذلك الى ما قبل عام من الحادثة، ويقدم “اوسكار” الشاب الأمريكي الأسود، الذي لم يتجاوز الثانية والعشرين. اوسكار على مفترق طرق، هو يسير على حافة رفيعة بين الإنغماس في عالم الجريمة وحياة طبيعية. الفيلم يرافقه في يوم عيد ميلاد والدته. في ذلك اليوم بالتحديد، يحاول “اوسكار” إعادة ترتيب حياته. هناك الكثير الذي يستحق التضحية في حياة الشاب. زوجة مُحبة جميلة، طفلة صغيرة، ام مخلصة لا تتوقف عن منح الحب لإبنائها، لكن الطرق تَضيق أيضا أمام “اوسكار” ، هو فقد عمله، وإغراء نقود الجريمة السهلة حاضر عند كل منعطف طريق.

يعود الفيلم بعد ذلك، وبخطوة تتضمن كثير  من الإبتكار، الى زمن آخر، الى عامين قبل الحادثة. “اوسكار” قبل عامين، يختلف عن ذلك قبل عام واحد فقط. هو في السجن الآن، لجريمة لا يكشفها الفيلم. ومن هناك، من سجنه، يجتهد الشاب أيضاً لإصلاح ما يُمكن إصلاحه. يُربك المخرج الشاب ريان كوغلار مشاهدي فيلمه بتلاعبه مع الزمن، ويُعقد أطلاق اي احكام سريعة مبسطة على “اوسكار”، والتي كان يمكن أن تكون هيّنة لو إنها جاءت ضمن سياق بناء درامي تصاعدي. لا يختار الفيلم المشاهد الإسترجاعية التقليدية، والتي تفرض غالباً بناءً خاصاً. “اوسكار” يمر في اليومين الذي يقدمها الفيلم، بتحولات كبيرة، لكن غير نهائية او حاسمة، ويترك المخرج للمشاهد  إستخلاص ما يريد من أحكام على شخصيته الرئيسية، او تخمين وجهتها القادمة.

من الفيلم

معالجة المخرج ريان كوغلار للواقعة الحقيقية، ترتكز بشكل كبير على شخصية اوسكار كبطل ومحرك للأحداث، ومُجرم وضحية أيضا، هذه المعالجة تستند على شهادات مقربين من “أوسكار”. الفيلم حميمي كثيراً بتركيزه على تفاصيل حياة البطل الخاصة. الحميمية ليست فقط في التفاصيل الصغيرة للحياة اليومية العادية لاوسكار وعائلته، الكاميرا ستقترب كثيراً من البطل الشاب في لقطات مُقربة بدت وكأنها تحاول أن تنفذ الى جوهر هذا الشاب علها تجد أجوبة. التقديم المُتفهم والمُعقد لشخصية اوسكار، يقابله آخر عاطفي نمطي للمجتمع الصغير الذي يعيش فيه البطل. فهناك مبالغة في تقديم الروابط العائلية الدافئة بين عائلة اوسكار، والتي عندما ركز عليها الفيلم، إقترب وقتها من الأفلام التلفزيونية الأمريكية بشحناتها العاطفية الزائدة. هناك إشارات عديدة في الفيلم على أن موضوع ” العِرْق “، مازالاً حاضراً في كل التفاصيل اليومية في المجتمع الذي ولد فيه “أوسكار”. المخرج، الآتي بدوره من مجتمع أسود مشابه، يحاول بفيلمه هذا، أن يربط بين الخاص والعام، بين العنصرية التي لازالت حاضرة ضد السود في الولايات المتحدة الأمريكية ، وبين المشاكل الجديّة والخطيرة التي يعيش فيها قسم كبير منهم. لكن الفيلم يفتقد أحيانا للتوازن المطلوب، ونَزع أحياناً لتقديس بطله، رغم إن قوة الفيلم كانت بالتحديد، في الصدق الذي قدمت به شخصية الرئيسية، والتيه الذي كان يعيش فيه، وبحثه المتواصل عن منافذ للخلاص مما تركته التراكمات الطويلة للعنصرية في مجتمعه. 


إعلان