“الحيّ يروح”…
وسيم القربي – تونس
ما هو دور مراسل ومصوّر أجهزة الإعلام المرئية اليوم؟ ما هي مهنة الصحفي؟هل أنّ الارتماء في أحضان الحرب هو هواية قصد نقل المعلومة للمشاهد أم هو حتمية الخبز المرّ؟ ما هي حدود الخطر؟…
هي أسئلة من كمّ تُطرح أو تُثار في ذهن من يشاهد الفيلم الوثائقي “الحيّ يروح” للمخرج التونسي الشاب محمد أمين بوخريص الذي تمّ عرض الفيلم لأول مرّة في مهرجان دبي السينمائي. عندما تشاهد ذلك الفيلم تنتابك قشعريرة خاصة ليس لهول المشاهد فحسب بل أيضا نظرا لكون السؤال البديهي الذي يُثار: كيف عاد هؤلاء المصوّرين (بما فيهم المخرج) أحياء يرزقون؟.

الفيلم الوثائقي “الحيّ يروّح” هو من إخراج الشاب محمد أمين بوخريص من مواليد 1986 حيث درس السينما في معهد خاص وعمل إثرها مراسلا لمجموعة من وكالات الأنباء، ويدوم الشريط 74 دقيقة وهو من إنتاج 2013، من طرف المنتج التونسي نجيب عياد الذي آمن بموهبة هذا الشاب لا سيما وأنّه عُرف بمساندته للجيل الجديد من السينمائيين. هذا الشريط الوثائقي هو غوص في قلب الخطر حيث يلخص الفيلم مجموعة من الثورات العربية من خلال متابعة لمصورين صحفيين مهنتهم تفرض عليهم أن تكون حياتهم معرّضة للخطر. ومن خلال استجواب مجموعة من المراسلين الحربيين من مختلف الجنسيات تقودنا الكاميرا إلى ثورة 14 يناير بتونس والثورة الليبية وميدان التحرير وصولا إلى سوريا.
يرصد المخرج شهادات لمصورين مثل نسيم وإياد وأحمد حيث يروون دقائق من الموت الذي يتربص بهم كل لحظة أثناء عملهم وتحديهم للموت من أجل قوتهم اليومي من ناحية ومن أجل نقل المعلومة إلى المشاهد. تنقلنا الكاميرا إلى شارع الحبيب بورقيبة بتونس وتنقل لنا مباشرة إصابة المصور الفرنسي “لوكاس مبروك” في رأسه بقنبلة مسيلة للدموع وتتابعه إلى حين نقله للمستشفى ليكون أول مراسل صحفي يموت في ثورة تونس… لحظات من البكاء والتأثر من طرف من استجوبوا لوفاة زميلهم الذي يتمثل ذنبه في كونه كان ينقل الأحداث. أما في ليبيا فإنّ الرصاص يلعلع بين الميليشيات، هناك يحمل المصوّر المراسل الكاميرا بيد من أجل اقتناص الصورة/ الحقيقة، في يده الأخرى بندقية من أجل أن يحاول أن يضمن عدم اقتناصه. تنتقل الكاميرا إلى ميدان التحرير لتروي من خلال المراسل المستجوب آهات، حزنا، أسفا، وأملا… في عينيه تبرز مساوئ مهنة الصحافة الخطرة لكنه يعتبرها واجبا مقدّسا من أجل نقل المعلومة وكشف الحقيقة في عالم الصراع حيث تغيب الإنسانية في الكثير من الأحيان.
في سوريا حيث المعقل الحقيقي للخطر يدخل الصحفيون خلسة من الحدود التركية وهناك يروي لنا المراسل البلجيكي أحمد بحدو كيف أصيب برصاصة أثناء تصويره في سوريا ويعتبر أنّ بداية مهمته هي بداية الموت فإما أن يعود وإما أن لا يعود. هناك في سوريا تنقل الكاميرا موت الفرنسي “ريمي أوشليك” والأمريكية “ماري كولفان”… يقترب الفيلم من المأساة حيث الخراب والمعنى الحقيقي للخطر، هناك تودي الحقيقة بحياة المراسلين، وهو موت من أجل قضية.

يقول المخرج أمين بوخريص: “أردت من خلال هذا الفيلم الدفاع عن قضية أحملها وفي نفس الوقت أن أبيّن ذلك الجندي المجهول الذي يوصل لكم الصور ويكشف لكم عن المعلومات…” كما يعتبر أن عنوان الفيلم “الحيّ يروّح” مشتقّ من مثل شعبي تونسي “الحبس كذاب والحي يروح” أي أنّ المسجون سيعود قريبا إلى منزله، والمسجون في الفيلم هم أولئك الذين يرتمون في الخطر من أجل نقل الصورة على أمل أن يعودوا أحياء. “الحي يروّح” أيضا هو إشارة إلى أنّ الحيّ سيعود أما الميت فسيبقى هناك ذكرى تضحيته من أجل الآخر.
الفيلم هو غوص في الخطر ونقل لمهنة الصحفي الذي يكافح من أجل أداء مهمته التي لا تعدو غير نقل الخبر بأمانة ونقل الصور للمشاهد الجالس أمام التلفاز، ومن خلال الشواهد يفهم مشاهد الفيلم لماذا يخاطر الصحفيون لنقل صور الحرب، ليس لكسب لقمة العيش فحسب بل لأنهم يعشقون الكاميرا وأنهم اعتادوا الخطر، فالمراسل الحربي لا تهمه حرب الصور بقدر ما تهمه نقل صور الحرب بكل أمانة وعفوية حيث يوجه الكاميرا لقنص اللحظة دون أن يدري متى يترصده الموت… الفيلم هو خلاصة لمهنة شريفة يكون الداخل إلى ساحة المعارك مفقودا والخارج منها مولودا…
بالرغم من أنّ العديد من المشاهد في الفيلم جعلت منه في كثير من الأحيان روبورتاجا تلفزيونيا أو تقريرا صحفيا باعتبار أنّ الفيلم الوثائقي يحتاج بناء فنيا وفكريا حيث غابت اللغة السينمائية الجادة وتداخلت الصور والأمكنة بما يجعل المشاهد تائها، كما أنّ العديد من الأفلام تناولت موضوع مراسلي الحرب مثل “المهنة صحفي” لـ “جوليان ديسبيري” و”مصوّر الحرب” لـ “كريستيان فري” وغيرها من الأفلام وهو ما كان يستدعي معالجة برؤية ذاتية تضفي إبداعية خاصة.
نجح المخرج الشاب في أول عمل سينمائي في الدخول إلى قلب الخطر بحكم عمله وصداقته للمراسلين، ولعلّ ما عزّز قيمة هذا الفيلم هو صدق الشهادات وعفويتها وهو ما جعل ثنائية المعلومة والإحساس حاضرة، كما أنّه من بين النقاط الأخرى التي أعطت قيمة لهذا الفيلم هو الجرأة التي جعلت من الوثائقي وثيقة حربيّة بدورها. “الحي يروّح” يبقى وثيقة مهمّة عن ثورات الربيع الديمقراطي…