وثائقي عن بلد الغريب والغربان والقناة

أمــل الجمل – دبي 

ينتمي فيلم “موج” للسينما الوثائقية الإبداعية التي شهدت طفرة فنية وتطوراً جمالياً كبيراً في السنوات الأخيرة في السينما العالمية والعربية، حتى أن بعض هذه الأفلام الوثائقية لم تعد وثائقية خالصة وإنما يمكن تسميتها بالفيلم العابر للنوعية – على غرار النص العابر للنوعية في الأدب – والسينما اللبنانية الوثائقية تأتي في مقدمة الدول العربية المُوظفة لهذا النوع بشكل متقن ولافت إبداعياً وجمالياً. والمقصود بالفيلم العابر للنوعية هو ذلك الفيلم الذي يجمع بين الوثائقي والروائي/ اللاواقعي/ الخيالي، أو بين الوثائقي والرسوم المتحركة، أي أنه في كلتا الحالتين يجمع بين التوثيق والتخييل، أياً كان شكل هذا التخييل سواء بإعادة تمثيل الوقائع التاريخية، أو الشخصية/ الذاتية، أو محاولة الاشتغال البصري والسمعي بشكل إبداعي للتغلب على إشكاليات ومعوقات فنية وجمالية منها غياب الوثائق أو الأرشيف بأنواعه. 
يمزج الفيلم الوثائقي الطويل “موج”، 71 دقيقية – للمخرج المصري ابن السويس أحمد نور – بين الفلاش باك والحاضر، بين تاريخه الشخصي منذ مولده في بداية عهد مبارك وبين ابنة أخته “حلا” الطفلة التي ولدت قبل ثورة 25 يناير بشهر واحد فقط. من خلال التوازي أحياناً أو الدمج أحياناً بينه وبين “حلا” يحكي نور قصة مدينة ووضعية بلد بأكمله في فترة من تاريخه الحديث، مما يجعلنا نستعيد من الذاكرة السينمائية تجربة “خمس كاميرات محطمة” للفلسطيني عماد برناط والذي شارك في إخراجه الإسرائيلي جاي دافيدي، حيث اختار المخرجان أسلوباً سردياً يُمكنهما من حكي قصة “برناط” الشخصية وربطها بقضية بلده وصراعها مع المحتل وذلك من خلال الحكي عن ابنه منذ مولده وعبر فترات منتقاة لسنوات نضجه العمري. 

فيلم “موج” مُقسم إلى خمس عناوين فرعية أو خمس موجات تتوالى بعد المقدمة التمهيدية (الموجة الأولى؛ في العمق – الدوامة – المد – الجزر – الموجة الا أخيرة) ومن خلالها يرصد المخرج – وهو ذاته كاتب السيناريو – ومن خلال مراحل حياته التغيرات التي طرأت علي المدينة وعلى حياة الناس نتيجة الأوضاع الاقتصادية المتردية في السويس طوال حكم مبارك والنتائج التي آلت إليها الأحوال بعد الثورة، لكنه يتوقف طويلاً أمام التناقض بين ثراء مدينة السويس التي تضخ أمولاً كثيرة في إجمالي الدخل القومي وبين الفقر المدقع الذي يكتنف أهلها، والأمراض العديدة التي تصيبهم وفي مقدمتها الفشل الكلوي بسبب حرمانهم من المياه النقية التي تم تحويل خطوطها إلي مصانع الرأسمالية وإلى الشاليهات في العين السخنة بينما أهالي السويس يشربوا مياهاً ملوثة، كما أن المصانع في السخنة تجلب الأيدي العاملة من خارج مدينة “الغريب” وترفض تشغيل أهالي السويس، وتمنعهم من الحصول على أي فرصة عمل في السويس سواء في مصانعها أو معاملها أو منشآتها الكبرى، فما السر وراء ذلك؟ هل فقط لأنهم من أبناء السويس؟! هل حقاً يكمن السبب في الإشاعة التي تم ترويجها عن عرافة نظرت في عيني مبارك في مستهل حكمه وحذرته من السويس لأن فيها سيكون نهاية حكمه، كما يدعي الفيلم ومخرجه؟! أم أن السبب يرجع لتلك الفكرة المنتشرة عن أبناء السويس والتي تصفهم بأنهم “يسببون المشاكل، ولا يعملون بجد” وهى الفكرة التي فات على المخرج أن يتحقق من صدقها أو من كونها مجرد شائعة أو أن يعود بها إلى أصلها؟ ولماذا وُصف أبناء السويس بذلك؟ هل بسبب معارضتهم لأصحاب رأس المال ومطالبتهم بحقوقهم أم لأسباب أخرى؟؟

يتميز الفيلم بأنه يناقش تفاصيل كاشفة للظلم والقهر ومعاناة أبناء مدينة السويس لكن تلك المشاكل على خصوصيتها – وهى ميزة إضافية تحسب للفيلم – تنطبق على كثير من مدن مصر مثل اختفاء الشواطئ العامة، والتي أصبحت حكراً على الشركات الرأسمالية الكبرى والأثرياء فقط، كما أن توثيقه للفقر والبطالة أمراً لا يخص أهل السويس وحدهم، لأن معظم أفراد الشعب المصري يعيش في نفس الخندق، فمثلاً دول الصعيد رغم امتلاكها للكثير من الآثار، والتي تصل إلى ثلث آثار العالم في مدينة مثل الأقصر وحدها، لكنها من أفقر محافظات مصر وفق الدراسات والإحصائيات المعلنة. 

نبرة انهزامية
يخلط أحمد نور الأنواع ببعضها في مزيج هارموني متماسك، يدمج بين الرسوم المتحركة/ الأنيميشن، وبين توثيق لقطات حيَّة ولقاءات شخصية مع أبناء وبنات مدينة السويس ومنهم أهالي شهداء الثورة 25 يناير وبعض أبطال المقاومة الوطنية أثناء الاحتلال الإسرائيلي. يجتهد المخرج في إيجاد معادل بصري لفترة تاريخية سابقة من حياته الشخصية ومن تاريخ مدينته التي لم يعد يملك منها صوراً فوتوغرافية أو فيلميه أو حتى لقطات من أرشيف الصحافة، اجتهادات بصرية/ تشكيلية/ لونية، ومؤثرات سمعية محملة بالرمزية المُعبرة بمهارة وصدق أحياناً، وموسومة بالمبالغة والابتذال والتناقض في بعض الأحيان مثل تلك اللقطات للدوامة المطولة جداً والتي لم ينجح نور في ضبط زمنها النفسي، والتي يمكن اختزال نصفها دون أن تضر بالفيلم، بل على العكس سترفع من إيقاعه لأن الإبداع في الأساس هو فن الاختزال، والقدرة على الحذف، سواء تلك اللقطات المطولة للدوامة بمفردها أو تلك التي لجأ فيها المخرج للمزج بين الدوامة وبين أهالي السويس البسطاء في لقطة جماعية ثم في لقطات منفردة، مٌنفرة، شديدة الابتذال والسطحية. وبشكل عام يحتاج الفيلم لإعادة المونتاج لحذف مالا يقل عن ثلث ساعة منه، ومنها مشهد دقات الساعة بأكمله، والذي لم يوفق المخرج في اختيار الأسلوب التعبيري له، فجاء مطرزاً بالمبالغة والنزعة الخطابية التعليمية المفتعلة.

   لجأ المخرج لأسلوب الرواي بلغة المتكلم مما منح السرد مزيد من الحميمية، وكان موفقاً في أجزاء ليست قليلة لكنه نحى إلى المبالغة في أجزاء منه. كذلك استخدم الرمزية بشكل يتناقض مع أحاسيسه في بعض المرات، فهو مثلاً في أغلب مشاهد فيلمه يستخدم الغربان سمعياً وبصرياً بالأنيميشن لرسم أجواء المدينة، لكنه يوظفه بشكل يحمل دلالات رمزية توحي بالشر والسوء أحياناً، وهو ما يتناقض مع تعاطفه المعلن مع الغربان في ذلك المشهد الجميل فنياً عن المجزرة التي تعرضت لها الغربان حيث قُتل 100 ألف غراب في سنة 2010 من طرف منتحب الرماية المصري، إذ جاء هذا القتل العمدي كحل نموذجي لتراكم الزبالة بالمدينة. لكن المخرج عندما يتحدث في أحد مشاهده عن أعداء الثورة والطرف الثالث والخيانات والتخلي عن الثوار نجده يختتم المشهد بلقطة تكتسحها الألوان الكابية فالسماء ملبدة بالغيوم وتملؤها الغربان وهى تزعق بصوت منفر يُعيد للأذهان تلك الصورة الذهنية المتشائمة من أصوات الغربان وهيئتها. فالمشهد ومشاهد أخرى تكشف تناقض موقف المخرج بين ما يدعيه من عشق للغربان وبين الموروث المجتمعي الذي يحمله في أعماقه وفي لا وعيه.
ما الذي تغير بعد الثورة؟ لم يتغير شيء. هكذا باختصار مجحف يقدم المخرج إجابة ركيكة انهزامية وغير عادلة، إجابة تعبر عن نظرة شديدة الأحادية، فهذا السؤال بمفرده يمكن أن تُقام من حوله أفلام وثائقية عديدة لطرح إجابات واحتمالات. كما أن الخاتمة المتفائلة بشكل مفاجئ للطفلة “حلا” جاءت مفتعلة بعد موجة طويلة من ظلال الكآبة ونبرة اليأس والنزعة التشاؤمية المسيطرة على أجواء الفيلم بصرياً وسمعياً.  

رغم ما سبق، لا ننكر أهمية الفيلم وإيجابيات، فيُحسب له أنه يوثق للتاريخ الحديث لمدينة السويس الباسلة، بلد “الغريب” والموج والغربان وقناة السويس، وشعلة الثورة المصرية في 25 يناير 2011، ففيها سقط أول شهداء الثورة، وفيها أُسقط أول قسم شرطة. وأثناء ذلك لا يغفل المخرج أن يعرج على الدور التاريخي المشهود للمدينة منذ تعرضت للعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، مرورا بحربي 1967، و1973، في محاولة من نور للمقارنة بين جيل الآباء والاجداد وبين جيله، وجيل الثورة. 
بقي أن نشير إلى أن “موج” كان ضمن 15 فيلم عربي آخرين تتنافس على جائزة المهر العربي الوثائقي في مهرجان دبي السينمائي الدولي في دورته العاشرة في الفترة من 6-14 ديسمبر 2013، وكان بينهم خمسة أفلام مصرية هي؛ “اسمي مصطفى خميس” للمخرج محمد كامل القليوبي، وقد خرج الفيلمين من دون جائزة، بينما حصد “اللي يحب ربنا يرفع إيده” عن الموسيقى الشعبية في مصر، للمخرجة سلمى الطرزي، جائزة أفضل مخرج، وحصل فيلم “ميدان” عن الثورة المصرية للمخرجة جيهان نجيم على جائزة أفضل فيلم. إلى جانب أفلام آخرى ساهمت مصر في إنتاجها بشكل أو بآخر مثل “بيت التوت” للمخرجة الاسكتلندية من أصل يميني سارة إسحق.


إعلان